السبت 23 نوفمبر 2024

فن

محسن يونس يكتب: أم كلثوم في دفتر التاريخ الشخصي والعام.. قراءة في رواية «الغابة»

  • 16-10-2020 | 15:32

طباعة

بقلم محسن يونس


مما دفعني إلى قراءة رواية "الغابة" - تأليف الدكتور أيمن بكر - هو فضول تركز في سؤال اعتبرته جوهريًّا وليس عابرًا : كيف يكتب أكاديميٌّ وناقدٌ عملًا روائيًّا؟ لا أقصد إطلاقًا الحديث عن وجود المهارة أو عدمها، بل عن كيف يفكر؟ وكيف يستعمل اللغة؟ وكيف يصوغ أفكاره؟ وأيضًا ما مدى قدرته على الإمساك بعالم روائي متسع المساحة، متعدد الشخصيات؟ كل ذلك – وكثيرٌ غيره - كان دافعي إلى القراءة. 

لعله فضول طبيعي نما، ونمت معه دوافعي، على طول حبي للقراءة. ومن بعدها جاءت الكتابة التي هي مركز الفضول النبيل. دائمًا ما يعود الفصل الأول المعنون بـ "بعد حين" إلى الذاكرة لتمنحه حضورًا مميزًا. هل لأن الكتابة مهارة؟ أم أن الفصل – على صغره – قد عُبِّئَ بشتى المشاعر المتناقضة، في مواجهة عشرين عامًا من الإقامة في الغربة، أضافت وراكمت فيها الأصدقاء والمعارف والتجارب. الكتابة هنا كأنها سكين يقطع كل العلاقات بإرادة باترة، ويبقى أثرها يتعب الروح، ولا فكاك من هذا الأثر، مع أن النَّصَّ كُتِبَ دون جرعات ميلودرامية، أو شطحات فلاشية تُمْعِنُ في استحضار مناسبات أو شخصيات تعطي شحنًا معنويًّا لحدة هذه المغادرة، وإغلاق بيت الغربة. ألا يمكن أن تكون العودة غربة أخرى؟!.

الكاتب / الناقد يتمتع بلماحية تجعله لا ينزلق بسهولة إلى الميلودرامية، وقد لعب دوره بتقنية أخرى، ألا وهي تلك الأغنيات - أو مقاطع الشعر - التي تُنهي فصلًا ليبدأ غيره. ومع أنها – المقاطع الغنائية أو الشعرية – قد تصير بعد حين عبئًاعلى القارئ، إلَّا أنها سوف تكشف له تقنية الكاتب، وهي "التكرارية" التي ربما يتجاوزها القارئ لأنه يريد الأحداث والصراع والدراما، وهذا هو المتوقع والمأمول من الرواية، هكذا نظن. 

ما أنا إلَّا قارئ محب للقراءة، أقرأ إذن .. هل أقرأ رواية عائلة؟ تبدأ بتوفيق المصري الذي سنكتشف أنه الجد الأعلى، العاشق لأم كلثوم والحاضر لحفلاتها، وهذا ربما يفسر مصطلح "التكرارية"، أليس متن الغناء هو التكرار بعينه؟ وأم كلثوم هي خير شاهد، فالتكرار هو السلطنة، والمتن الروائي يُفصح عن ماهيته في السلطنة، لأنها سوف تُتَواَرث. أنظر لعلاقة توفيق الراوي بسامية السويسي، فأجدها تشبه أغنيات هذا الزمن البعيد من العقود الأولى للقرن العشرين، إنها تشبه بعض أغاني أم كلثوم المشحونة بالسهاد وعذابات الهجر. هل أقول إن رواية "الغابة" تشبه أن تكون تأريخًا موازيًا لواقع الأغاني التي شكلت وجدان الأمة المصرية؟ ربما لا نبالغ، لكن نهاية العلاقة لم نعهدها من قبل في أية أغنية من أغاني الست، أو من المغنين الآخرين عامًّة، ربما كان التحول في العلاقة فوق التحول في الأغاني!!.

بين توفيق الجد وتوفيق الحفيد سنون وعوالم مختلفة متغيرة، لكن المغنى الكلثومي يبدو وكأنه يتتبع مصير كُلٍّ منهما، أو قُلْ إن أحداث حياة كُلٍّ منهما يمكن لأغاني أم كلثوم أن تحكي تفاصيلها وتفسرها، خاصة ما هو متعلق بالقلب وتصاريفه. إن العودة من الغربة – الهند وأمريكا خاصة – كأنه الجرح الذي لا يندمل، في مواجهة حقيقة مؤلمة تتركز في: كيف نترك علاقات وصداقات صنعناها عبر أيام وسنين، لنبدأ علاقات جديدة في واقع جديد؟. 

إن الغابة ليست ذلك المكان الموصوف بأشجاره الكثيفة، بل هو شبكة العلاقات التي تتكون في حياة الفرد، تبدأ من علاقة الأبوين، ثم الأقارب، وبعدها الأصدقاء والمعارف، وأصدقاء الأصدقاء .. إلخ.

رواية الغابة للدكتور أيمن بكر تحتفي بالحياة داخل هذه الغابة، صحيحٌ أنها تُقيم عالمها من خلال أغاني أم كلثوم، منذ بدايتها إلى هذا المشهد الأخير، مع دوزنة العود وأغنية "غني لي شوي شوي، غني لي وخد عيني"، إلَّا أن مصاير شخصياتها - من خلال أحداث تاريخية، وطابع جو الثلاثينيات وما بعدها - يقفزان في عالمنا الحاضر، وهذا يتماشى مع ما ذهبنا إليه سابقًا من خلال تلك "التوليفة" الروائية، التي حافظت على شكل الرواية التقليدي، دون مغامرات شكلية حادة.

ولكن اللافت حقًّا أن يحاول الكاتب كسر المُتَخَيَّل الإبداعي الذي عشنا معه طوال عمله الروائي، المحتشد بشخصيات قابلها توفيق الحفيد في حياته، والراوي لأحداثها، وكان لها تأثيرها عليه بالطبع، وعلى مجريات الأمور، من زملاء الجامعة إلى شخصيات أخرى لا بُدَّ أن يلتقي بها أثناء ممارسته حياته. 

ينتهي العمل الروائي مع أغنية أم كلثوم "غني لي شوي شوي" بالمقطع الذي يقول: (المغنى حياة الروح .. يسمعها العليل تشفيه .. وتداوي كبد مجروح .. احتار الأطبة فيه .. إلى آخر الأغنية)، وكأنها الرسالة التي حاولت الرواية طوال صفحاتها أن تنبهنا إليها. 

يأتي بعد هذه الرسالة ألبوم صور لشارع عماد الدين، الذي كان مسرحًا للكثير من الأحداث في ثلاثينيات القرن العشرين. ثم تتوالى الصور، من حفلات الآنسة أم كلثوم، إلى صور بعض السَمِّيعَة في هذه الحفلات، وهم يعبرون عن مدى تأثرهم بالمغنى. بعض هذه الصور وجدها توفيق الحفيد في غرفة جده العاشق الأول لطرب الست، حتى صورة لحريق القاهرة في يناير 1952، إلى صورة من جريدة لإعلان عن حفل أم كلثوم 1930، وغيرها من صور كثيرة، مما يجعلنا نتوقف للتأمل: لماذا أورد الكاتب كل هذه الصور التي تتبع حالة المغنى الكلثومي منذ الثلاثينيات إلى قيام ثورة 1952. بل إن من ضمنها صور يظهر فيها الضباط الأحرار، وحتى صورة لعبد الناصر في خطاب التنحي، ماذا يريد الكاتب؟ هل تنوب هذه الصور عن المتخيل من الأحداث الروائية؟ لسنا مع كتاب تأريخي مُدَعَّم بالصور، بل نحن مع عمل روائي. أم إن هذه الصور تدعم ما أراد الكاتب أن يقوله في رسالته الروائية، وكأنها حقيقة لا تقبل التشكيك فيها؟ أم إن المتخيل يتصاعد حتى يصل إلى الحقيقة التي يمكن أن تمسك بها عين الكاميرا؟!.

مهما كان الأمر، فاعتقادي الشخصي أن كل تقنية يأتي بها الكاتب هي محل اعتبار، وتضيف إلى عمله، ولا تنقص منه، خاصةً مع الشكل الروائي الذي ينفتح على كل الاحتمالات الشكلية والتقنية.   


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020


    


    الاكثر قراءة