ولد
عبد الحليم محمود بعزبة أبو أحمد قرية السلام، مركز بلبيس بمحافظة الشرقية يوم 2 جمادى
الأولى 1328هـ الموافق 12 مايو 1910، وتوفى يوم الثلاثاء الموافق 15 ذو القعدة
1397 هجرية، الموافق 17 أكتوبر 1978 بعد عودة الشيخ الإمام عبد الحليم
محمود من رحلة الحج في 16 من ذي القعدة 1398هـ، الموافق 17 من أكتوبر 1978 عقب إجرائه
عملية جراحية، وصلى عليه بالجامع الأزهر، وأجريت له المراسم الرسمية، ليكون بذلك الشيخ السادس والأربعون للجامع الأزهر على عقيدة أهل السُّنة والجماعة.
نشأ
في قريته عزبة أبو أحمد، وكان أبوه ممن تعلم
بالأزهر لكنه لم يكمل دراسته فيه، وحفظ القرآن والتحق بالأزهر، عام 1923، وظل به عامين ينتقل بين حلقاته، حتى تم افتتاح
معهد الزقازيق عام 1925، فألحقه والده به،
لقربه من قريته، ثم التحق بعدها بمعهد المعلمين المسائي، فجمع بين الدراستين، ونجح
في المعهدين، ثم عُيِّن مُدَرِّسًا، ولكنه
تقدم لامتحان إتمام الشهادة الثانوية الأزهرية فحصل عليها في عام 1928م في سنة واحدة؛
ويقول عن ذلك: "فلما نقلت إلى السنة الأولى من
القسم الثانوي، رأيت أن الوقت فيها بالنسبة لي ضائع أو شبه ضائع؛ لأن ما لدي من علوم
ومعرفة تتخطى حدود المقرارات في هذه السنة وما يليها وكانت نُظُم الأزهر تبيح للطالب
بالسنة الأولى الثانوية، أن يتقدم مباشرة لامتحان الشهادة الثانوية الأزهرية من الخارج ونجحت وأرضى ذلك آمال والدي وشعوره نحوي، والحمد
لله".
ودرس
خلال تلك الفترة علوم الأزهر المقررة حينئذ
مثل: التفسير، والحديث، والتوحيد، والتصوف، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والنحو،
والصرف، والعروض، والمعاني والبيان، والبديع والأدب، والتاريخ، والسيرة النبوية، وفى
عام 1932م حصل على العالمية ثم سافر إلى فرنسا على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالي
ودْرس هناك تاريخَ الأديان والفلسفة وعلم الاجتماع
وعلم النفس وفي عام 1938 التحق بالبعثة الأزهرية
في فرنس.
واستطاع النجاح في المواد المؤهلة
لدراسة الدكتوراه وفكر في البداية في عمل أطروحته في الدكتوراه عن «فن الجمال» لكن رفض الموضوع، ففكر أن تكون في مجال
«مناهج البحث» فرفض الموضوع وبعد التفكير في أكثر من موضوع أختار على «التصوف الإسلامي» و اختار موضوع عنوانه «أستاذ السائرين: الحارث بن أسد المحاسبي»، وأثناء
إعداد الرسالة قامت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر سنة 1939م، ولكنه أصرَّ على إتمام
الرسالة، ليحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية بتقدير امتياز
مع مرتبة الشرف الأولى، وقررت الجامعة طبعها بالفرنسية يوم 8 من يونيه سنة 1940.
وبعد
عودته عمل مدرسا لعلم النفس بكلية اللغة العربية بكليات جامعة الأزهر
ثم نقل أستاذًا للفلسفة بكلية «أصول الدين» عام 1951م،
أصبح عميدا لكلية أصول الدين عام
1384هـ 1964م وكان يقي محاضراته في كلية أصول
الدين، ومعهد الدراسات العربية والإسلامية، ومعهد تدريب الأئمة، ثم شغل عضوية مجمع البحوث الإسلامية ثم أمين
عام له فقام بدراسة أوضاعه وقام بإعادة هيكلة جهازه الإداري وأنشأ مكتبته وأقنع
المسئولين في الدولة بتخصيص قطعة أرض بحي «مدينة نصر» للمَجمع؛ لتضم جميع أجهزته العلمية
والإدارية، وتأسيس قاعات للاجتماعات؛، وعلى الرغم من تعينه وكيل للأزهر الشريف عام 1390 هـ
الموافق 1970م لم يهمل الاهتمام بمجمع البحوث ثم تم تعينه
وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر وأثناء توليه وزارة الأوقاف قام بالعديد من الإصلاحات الهامة.
مواقفه
كان
للشيخ عبد الحليم محمود العديد من المواقف منها
عقب تولى الشيخ
مهام المشيخة حتى صدر قرار من رئيس
الجمهورية في 17 جمادى الآخرة 1394هـ الموافق
7 يوليو 1974م يكاد يجرد شيخ الأزهر مما تبقى له من اختصاصات ويمنحها لوزير الأوقاف
والأزهر، فما كان من الشيخ إلا أن قدم استقالته
لرئيس الجمهورية الرئيس محمد أنور السادات
في 16 يوليو عام 1974م، ثم شفعها بخطاب آخر، قدَّمه إلى رئيس الجمهورية، شَارِحًا فيه
موقفه، وأن الأمر لا يتعلق بشخصه، وإنما يتعلق بالأزهر وقيادته الروحية للعالم الإسلامي
كلِّه، لأن القرار الجمهوري السابق يغُضُّ من هذه القيادة ويعوقُها عن أداء رسالتها
الروحية في مصر وسائر الأقطار العربية والإسلامية، وقبل هذا أخطَرَ وكيلَ الأزهر بموقفه؛
ليتحمل مسؤوليته حتى يتم تعيين شيخ آخر.
ورُوجع الإمام في أمر استقالته، وتوسط لديه العديد
من الوسطاء فأصرَّ علي موقفه ؛ وامتنع عن الذهاب إلى مكتبه، ورفض الحصول على راتبه، وطلب تسوية معاشه، وأحدثت هذه
الاستقالة دويا هائلا في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، وتقدم أحد المحامين برفع
دعوى "حسبة "أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية ووزير
الأوقاف، مطالبا وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية وأمام هذا الموقف من الشيخ اضطر الرئيس محمد أنور السادات إلى أعادة النظر في قراره ودراسة المشكلة
من جديد، وأصدر قرارًا أعاد الى شيخ الأزهر
صلاحياته جاء فيه " شيخ الأزهر هو الإمام
الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام،
وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر و يعامل
شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث المرتب والمعاش، ويكون ترتيبه في الأسبقية قبل الوزراء
مباشرة"
وبذلك
انتهت الأزمة وعاد الشيخ إلى منصبه حتى صدر قرار جمهوري بعد وفاة الشيخ بمساواة منصب
شيخ الأزهر بمنصب رئيس الوزراء.
الشيخ
وقانون الأحوال الشخصية
كان
للأزهر في عهد الشيخ عبد الحليم محمود رؤية واضحة ومواقف محددة تجاه القضايا التي تمس
الدين وأحوال الناس وأمر المسلمين، فعندما حاولت الدكتورة عائشة راتب إصدار قانون الأحوال
الشخصية دون الرجوع إلى الأزهر، تصدى له الشيخ ومنع إقراره من مجلس الشعب لأنه تضمن قيودا على حقوق الزوج ويُمنَع تعدد الزوجات
على خلاف ما قررته الشريعة الإسلامية
وقال
"لا قيودَ على الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قيودَ على التعدد إلا من ضمير المسلم
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (آل عمران:
من الآية 101)"
وأصدر بيانًا من الأزهر الشريف حذر فيه من الخروج
على تعاليم الإسلام، وأرسله إلى جميع المسئولين وأعضاء مجلس الشعب وإلى الصحف، ولم
ينتظر صدور القانون بل وقف في وجهه قبل أن يرى النور، وعلى الرغم من أن البيان تم منع نشره في الصحف الا أن الحكومة اجتمعت للنظر فيه وأصدرت بيانًا أكدت فيه على انها لا تفكر على الإطلاق
في تعديل قانون الأحوال الشخصية، وبذلك نجح
الشيخ في منع القانون قبل صدوره.
الشيخ
ورفض تجاوز المحكمة العسكرية ضد الأزهر
رفض
الشيخ عبد الحليم محمود انتقاد المحكمة العسكرية التي تصدت للحكم في قضية جماعة
"التكفير والهجرة " عندما قالت " إنه كان على المسئولين عن الدعوة الدينية
أن يتعهدوا الأفكار بالبحث والتدبر بدلا من إهمالها وعدم الاعتناء بمجرد بحثها، ولمزت
المحكمة علماء الأزهر بقولها: "ووا أسفا على إسلام ينزوي فيه رجال الدين في كل
ركن هاربين متهربين من أداء رسالتهم أو الإفصاح عن رأيهم أو إبداء حكم الدين فيما يعرض
عليهم من أمور، فلا هم أدوا رسالتهم وأعلنوا كلمة الحق، ولا هم تركوا أماكنهم لمن يقدر
على أداء الرسالة".
وهو ما رفضه الإمام الأكبر بشدة، وأصدر بيان أكد فيه على أن بالرغم من أن المحكمة
استعانت بعدد من علماء الأزهر لإبداء الرأي في فكر هذه الجماعة، غير أن المحكمة لم
تسترح لرأيهم، وكررت ذلك أكثر من مرة، وكانت في عجلة من أمرها؛ الأمر الذي جعلها تصدر
أحكاما دون استئناس برأي الأزهر وهو ما يعنى
التعجل وعدم التثبت من قبل المحكمة، وبالتالي لم تكن مؤهلة للحكم على هذا الفكر، وأنها
تجهل الموضوع الذي تصدرت لمعالجته، وكان يجب عليها أن تضم قضاة شرعيين يقفون موقفها
ويشاركونها المسئولية ويتمكنون من الاطلاع على جميع ظروف القضية ونواحيها فيتمكنون
من إصدار الحكم الصحيح.
واتهم
الإمام المحكمة بأنها لم تمكن علماء الأزهر من الاطلاع على آراء هذا التنظيم أو الاستماع
إلى شرح من أصحابه، والاطلاع على كافة الظروف التي أدت بهم إلى هذا الفكر، واكتفت بأن
عرضت عليهم المحضر الذي سجلته النيابة من أقوال ومناقشات، وهذا لا يرقى أن يكون مصدرا
كافيا يقوم عليه بحث العلماء، أو أساسا متكاملا تصدر عليه أحكام.
الإمام
وتطبيق الشريعة الإسلامية
كان
الشيخ من الدعاة المتمسكين بتطبيق الشريعة الإسلامية في الخطب والمحاضرات بل إنه طلب من سيد مرعي رئيس مجلس الشعب، وممدوح
سالم رئيس مجلس الوزراء الإسراع في تطبيق الشريعة الإسلامية، قائلا لهما "لقد آن الأوان لإرواء الأشواق
الظامئة في القلوب إلى وضع شريعة الله بيننا في موضعها الصحيح ليبدلنا الله بعسرنا
يسرا وبخوفنا أمنا".
وقام الامام بتكوين لجنة بمجمع البحوث الإسلامية
لتقنين الشريعة الإسلامية في شكل مواد قانونية تسهل استخراج الأحكام الفقهية وأتمت اللجنة تقنين القانون
المدني كله في كل مذهب من المذاهب الأربعة.
الشيخ
والحرب الأهلية في لبنان
رفض
الإمام عبد الحليم محمود إراقة الدماء بين
المسلمين والمسيحيين ودعا الأطراف المتنازعة
في التوقف عن إراقة الدماء وتخريب معالم
الحياة، وأهاب بزعماء العرب والمسلمين إلى المسارعة في معاونة لبنان على الخروج من
أزمته، وفاء بحق الإسلام وحق الأخوة الوطنية والإنسانية، وقياما ببعض تبعات الزعامة
والقيادة التي هي أمانة الله في أعناقهم.
وقام الشيخ بإرسال برقية إلى الأمين العام لجامعة
الدول العربية يناشده فيها العمل بحسم وعزم
على وقف النزيف الدموي الذي أسالته المؤامرات المعادية على أرض لبنان.
الإمام
والأزمة المغربية الجزائرية
عندما
على الإمام الأكبر الشيخ عبد العليم محمود بالأزمة العنيفة بين المغرب والجزائر بشأن
مشكلة الصحراء الغربية التي كانت أسبانيا تحتلها، وأدى الخلاف بينهما إلى مناوشات حربية
كادت تتحول إلى حرب عنيفة. سارع الشيخ بإرسال برقية إلى كل من ملك المغرب ورئيس الجزائر،
دعاهما إلى التغلب على الخلاف وعوامل الشقاق والفرقة، وأن يبادرا بتسوية مشكلاتهما
وموضوعات الخلاف بينهما بالتفاهم الأخوي والأسلوب الحكيم، وناشدهما باسم الإسلام أن
يلقيا السلاح وأن يحتكما إلى كتاب الله.
وأرسل
أيضا برقية إلى الرئيس السادات يطالبه بالتدخل للصلح بين القطرين الشقيقين، جاء فيها:
"تتعلق بزعامتكم قلوب المسلمين من العرب والمسلمين الذين ينتظرون مساعيكم الحميدة
في إصلاح ذات البين بمناسبة الصدام المسلح المؤسف بين البلدين الشقيقين الجزائر والمغرب".
ورد
السادات على برقية شيخ الأزهر ببرقية يخبره فيه بمساعيه للصلح بين الطرفين جاء فيها:
"تلقيت بالتقدير برقيتكم بشأن المساعي لحل الأزمة بين الجزائر والمغرب، وأود أن
أؤكد لكم أن مصر تقوم بواجبها القومي من أجل مصالح العرب والمسلمين، وما زال السيد
محمد حسني مبارك نائب الرئيس يقوم بمهمته المكلف بها، أرجو الله عز وجل أن يكلل جهوده
بالنجاح والتوفيق."
ولم يكتفى بذلك بل أرسل برقية إلى الملك خالد بن
عبد العزيز عاهل المملكة السعودية آنذاك يدعوه للتدخل إلى حقن الدماء بين الشقيقين
وفض النزاع بينهما.
التصوف
يعد
الإمام عبد الحليم محمود ممن تناول قضية التصوف
بالشرح والتحليل في منهج الإمام الغزالي وسفيان الثوري، وأبي الحسن الشاذلي، وأبي مدين
الغوث ويذكر بدايته مع التصوف عندما اختار
موضوع رسالته للدكتوراه قائلا "بعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك، هداني
الله - وله الحمد والمنة - إلى موضوع التصوف الإسلامي، فأعددت رسالةً عن (الحارث بن
أسد المحاسبي) فوجدت في جوِّ (الحارث بن أسد المحاسبي) الهدوءَ النفسي، والطمأنينة
الروحية، هدوء اليقين، وطمأنينة الثقة، لقد ألقى بنفسه في معترك المشاكل، التي يثيرها
المبتدعون والمنحرفون، وأخذ يصارع مناقشًا مجادلًا، وهاديًا مرشدًا؛ وانتهيت من دراسة
الدكتوراه، وأنا أشعر شعورًا واضحًا بمنهج المسلم في الحياة، وهو منهج الاتباع، لقد
كفانا الله ورسوله كل ما أهمنا من أمر الدين، وبعد أن قرَّ هذا المنهج في شعوري، واستيقنته
نفسي، أخذتُ أدعو إليه كاتبًا ومحاضرًا، ومدرسًا، ثم أخرجت فيه كتاب "التوحيد
الخالص" وما فرحت بظهور كتاب من كتبي، مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب، لأنه خلاصة
تجربتي في الحياة الفكرية".
ويقول
عن التصوف: "إنه نظام الصفوة المختارة،
إنه نظام هؤلاء الذين وهبهم الله حسًّا مرهفًا، وذكاءً حادًّا، وفطرة روحانية، وصفاء
يكاد يقرب من صفاء الملائكة، وطبيعة تكاد تكون مخلوقة من نور".
ويعرف
الصوفي بقوله "الصوفي هو الذي التزم بتعاليم الإسلام سيرةً وسلوكًا، وقولًا وعملًا،
وهو الذي يستحضر ذكر ربه في كل وقت؛ فإذا وصل المؤمن إلى إسلام حقيقي يجعله مستحضرًا
ربه في كل وقت فلن يهتم بمعصيته، ولن يأمر بمنكر، ولن ينهى عن معروف"
وقال
أيضًا:" فالصوفي لا يكون صوفيًّا بالقراءة أو الدراسة والبحث، حتى ولو كانت هذه
القراءة والدراسة في الكتب الصوفيَّة نفسها، وفي المجال الصوفي خاصَّة، وقد يكون شخص
من أعلم الناس بهذه الكتب، درسها دراسة باحث متأمل، وعرف قديمها وحديثها، وميز بين
الزائف منها والصحيح، وصنفها زمنًا وميزها أمكنة، وهو مع ذلك لا سهم له، في قليل ولا
في كثير في المجالات الصوفية",.
وقال:
"التصوف ليس ثمرة لثقافة كسبيَّة؛ إن الوسيلة إليه ليست هي الثقافة، ولكن الوسيلة
إليه إنما هي العمل، إن الطريق إليه إنما هو السلوك، والمعرفة الناشئة عن العمل والسلوك
هي إلهام، وهي كشف، وهي ملأ أعلى انعكس على البصيرة المجلوَّة فتذوقه الشخص حالًا،
وأحس به ذوقًا، وأدركه إلهامًا وكشفًا"
وحول
مصدر التصوف يقول: إن مصدر التصوف الأصلي هو الذوق والمشاهدة، اللذان يصل الإنسان إليهما
عن طريق الخلوة والرياضة والمجاهدة والاشتياق بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب
لذكر الله تعالى، وليس الثقافة الكسبية أو كتب القوم، فهذه الثقافة والكتب تكمن أهميتها
في كونها محفزة للسالك على الاستمرار في الطريق والصبر على السير فيه، وأن النزوع إلى
التصوف فطرة واستعداد في الإنسان.
ودافع
محمود عن قضية وحدة الوجود التي يؤمن بها الصوفية بأن القضية التي يثيرها معارضو التصوف
تفهم على نحو خاطئ، فالذي يعترض عليه معارضو التصوف، لم يقله الصوفية أنفسهم بما فيهم
ابن عربي والحلاج، فهم يسمونه وحدة الموجود، أما الآخرون فيخلطون بينهما، فالموجود
متعدد سماء وأرض وجبال وأناس، أما الوجود الواحد فلا شك فيه، هو وجود الله المستغنى
بذاته عن غيره، الذي منح الوجود لكل كائن وليس لكائن غيره، وأن الخلط جاء من أن فريقًا
من الفلاسفة مثل: هيراقليطس وماكس شيلر قال بوحدة الموجود.
وأوجد
شيخ الأزهر الراحل للتصوف أصلا في الإسلام، حيث يستشهد بقول الشيخ عبدالواحد يحيى
"رينيه جينو": "الصوفية ليست شيئا أضيف إلى الدين الإسلامي، إنها ليست
شيئا أتى من الخارج فألصق بالإسلام، وإنما هي، بالعكس تكون جزءا جوهريا من الدين، إذ
أن الدين بدونها يكون ناقصا، بل يكون ناقصا من جهته السامية، أعنى جهة المركز الأساسي،
لذلك كانت فروضًا رخيصة تلك التي تذهب بالصوفية إلى أصل أجنبي: يوناني أو هندي أو فارسي".
ويضيف:
إن كل من لم ينطلق من الشريعة الصادقة والاتباع الدقيق فإنه لا يصل إلى شيء من درجات
الصوفية، إن الصوفية لا تتأتى إلا بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، مستطرداً لا
يوجد تصوف إلا في المحيط الإسلامي، وأن التصوف المسيحي أو اليهودي لا يمت للتصوف الإسلامي
بصلة، فالتصوف الإسلامى هدفه المعرفة، بخلاف التصوف المسيحي الذي هدفه الحب، ثم إن
المسيحي الذي اتخذ الـ (mysticism) الذي يطلق عليه التصوف المسيحي
سبيلاً في الحياة ينهج في سلوكه منهجا سلبيا، إنه يقتصر على تلقى ما يأتيه دون أن يكون
له أثر شخصي، ومن أجل هذا لم يكن في المسيحية طرق صوفية، ولذلك لا يتخذ المسيحي
"شيخا"، وليس عنده فكرة عن السلسلة أو الإسناد، الذي بواسطته يصل إليه التأثير
الروحي، الذي لا بد منه في التصوف.