الأحد 22 سبتمبر 2024

أحمد السعيد يكتب: رُؤًى جديدةٌ حول التعاون الثقافي الصيني العربي

فن16-10-2020 | 20:25

بقلم أحمد السعيد

مترجم وكاتب مخنص بالشأن الصيني 


عشر سنوات متتاليات عشتها في الصين، وقضيت ما يقرب من ضعفها أتعلم اللغة الصينية، وأسعدني الحظ بأن أكون أول عربي يُعين في لجنة خبراء ومستشاري مشروع الحكومة الصينية لترويج الكتاب الصيني في العالم، ومكثت في هذا المنصب خمس سنوات متتالية. وأعتقد أن صين اليوم ليست صين الأمس، كما إنها لن تكون صين الغد، هذا على المستوى السياسي والاقتصادي، وبالطبع على المستوى الثقافي. وأحب هنا أن أمهد لمجموعة مقالات تتناول الثقافة الصينية، وخاصة في مجال النشر والكتاب، من خلال تجارب شخصية ورؤى ذاتية عايشتها خلال سنواتي في الصين.

النشر في الصين – سواء أكان ورقيًّا أم إلكترونيًّا - يتميّز بأنه نشر حكومي، من خلال 580 دار نشر مملوكة للدولة، تعمل بنظام قطاع الأعمال، وتنشر كل عام حوالي 400 ألف عنوان جديد، نصفها مؤلفات جديدة، ونصفها مؤلفات سابقة يُعاد نشرها وطباعتها بأرقام إيداع جديدة. جديرٌ بالذكر أن الصين فيها أكثر من 60 ألف شركة ثقافة وإعلام – بها ما يقرب من مليون موظف - تقوم بتقديم الخدمات لدور النشر الصينية لإتمام عملية النشر والتوزيع، كما إن عمليتي النشر والتوزيع منفصلتان تمامًا، وسوف أتناول لاحقًا الأحوال العامة للنشر في الصين، وخصائصه، وأهم دور النشر، والكتب الأكثر مبيعًا.

منذ عام 2015، قُدِّرَ لي أن أشارك - لخمس مرات متتالية - في المنتدى السنوي لمشروع الحكومة الصينية لترويج الكتاب الصيني في العالم "CBI". وقد تعدَّدت وتنوَّعت موضوعات المنتدى على مدار تلك الأعوام، مثل: "مَـدّ جسور الثقافة واللغة بين الصين والعالم العربي عبر تبادل حقوق النشر"، و"التبادل الثقافي الصيني العربي في إطار (مبادرة الحزام والطريق)". أمّا آخر منتدى، الذي حمل عنوان "التبادل الحضاري والتعاون الدولي للنشر في إطار مبادرة الحزام والطريق"، فقد كان موضوعه يمثل جوهر هذا المشروع. لذا أحب هنا أن أنقل تجربتي، من خلال المشاركة في هذا المشروع الذي يُمثل أهمية كبرى للصين، لأنه يُعتبر نافذة صينية تطل منها على العالم ثقافيًّا، في مرحلة يمكن أن تُسمى بداية دخول الصين مضمار التأثير الثقافي والقوى الناعمة في العالم. وقد حالفني الحظ بحضور "مؤتمر حوار الحضارات الآسيوية" في مايو من العام الماضي، الذي كان بمثابة بداية صينية جديدة نحو دور ثقافي رائد ومؤثر للصين في العالم، يبدأ من آسيا. لقد تبادلتُ الآراء مع العديد من رواد صناعة الثقافة في العالم حول فكرة "إرساء أساس ثقافي متين لبناء مجتمع المصير المشترك للبشرية"، وتحدثت في كلمتي - حينذاك - عن التغييرات التي أحدثتها مبادرة "الحزام والطريق" الصينية منذ طرحها، وكيف عادت بالنفع على دول كثيرة - ومنها مصر - وعلى مجال عملي شخصيًّا، وهو النشر والصناعات الثقافية.

وقد أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطاب ألقاه بمقر منظمة اليونسكو في عام 2014، أن "الحضارات لا يمكن لها أن تزدهر وتتسم بالحيوية إلَّا من خلال علاقات التبادل والتعلم المشترك"، كما أشار في منتدى "الحزام والطريق" للتعاون الدولي في عام 2017، إلى أن بناء مبادرة "الحزام والطريق" ينبغي أن تساهم في "تجاوز الفجوة بين الحضارات بالتواصل فيما بينها، وتجاوز الصراع بين الحضارات بالتعلم المتبادل فيما بينها، وتجاوز تباين القوى بين الحضارات بالتعايش فيما بينها". كما شدد في كلمة ألقاها بالجلسة الافتتاحية لمؤتمر حوار الحضارات الآسيوية عام 2019 بعنوان "التبادل والتعلم المتبادل بين الحضارات الآسيوية، ومجتمع ذي مستقبل مشترك" على مبادئ: "معاملة كل طرف للآخر باحترام وعلى قدم المساواة"، و"تقدير جمال كل الحضارات وانسجامها معًا"، و"الالتزام بالانفتاح والشمولية والتعلم المتبادل".

المساواة، والاحترام، والتسامح، والتبادل، والتواصل... تلك المبادئ جميعها لا تقوم على فشل الآخر، وإنما على أساس "تبادل التعلم"، ففكرة "التعلم المتبادل بين الحضارات" تجعل جميع الدول وحضاراتها على قدم المساواة، ويتلاشى ما يُسمى بـ "التخلف" أو "المعاداة"؛ إذْ تكون كل حضارة حينئذٍ بمثابة كنز للبشرية.

إن خطابات الرئيس الصيني شي جين بينغ تُمثل خلاصة الأيديولوجيا الصينية والخطط المستقبلية للصين. ومبادرة "الحزام والطريق" أثمرت علاقات تعاون وتبادل بين الصين والدول الأخرى. وعندما نُلقي نظرة على كلا الأمرين السابقين سنلاحظ أن ما تطرحه الصين من فكرة "التعلم المتبادل بين الحضارات" قد تجاوزت نظرية "صدام الحضارات"، وقدمت وسائل جديدة للتفاهم بين جميع دول العالم.

ويحتاج "التعلم المتبادل بين الحضارات" إلى أساس يرتكز عليه، ويقوم ذلك الأساس على التبادل والتفاهم المشترك، وبلا شك، فمجال النشر - والكتاب بوجه عام - هو أحد ركائز هذا التبادل وأحد أهم أدواته.

وبالنسبة لمشاريع التعاون الثقافية الصينية العربية، يمكن القول إن مشروع الحكومة الصينية لترويج الكتاب الصيني في العالم "CBI"، وغيره من المشروعات الشبيهة، التي وصلت إلى ست مشروعات خلال تلك السنوات، كل ذلك قد أسهم في الترويج لمجموعة مميزة من الكتب والأفلام والبرامج التليفزيونية التي تتناول مجالات مختلفة في الصين، مثل التاريخ والثقافة والاقتصاد والمعيشة، بداخل الدول الواقعة على طول طريق الحرير، كما حمل على عاتقه مسئولية تقديم الصين للعالم، وإرضاء شغف دور النشر في الدول الأخرى وفضولها حول الصين.

ولا يُعَدُّ "النشر" هو العنصر الجوهري لتعزيز عملية "التعلم المتبادل بين الحضارات" فحسب، بل إنه يمثلها من الخارج أيضًا، فالثقافة هي المفتاح، وهي إحدى القوى الناعمة، وهي أيضًا الحل لكثير من المعضلات السياسة والاقتصادية. هذا مثلًا ما فعله الغرب ليفرض سيطرته الثقافية على الكثير من دول العالم الثالث، قبل أن ينهبها اقتصاديًّا.

إن معظم الكتب – التي تم نشرها - تتحدث عن تاريخ الصين وثقافتها واقتصادها، من خلال بعض المشاريع المعنية. لكنّ هذا في الواقع يُمثّل عملية توطئة وتمهيد لها في الأسواق، أو هو انتشار مرحلي كعملية أوليَّة؛ حيث ينبغي أولًا إتاحة تلك المنتجات الثقافية أمام أعين الناس كي يألفوا رؤيتها، ومن ثمّ يطمئنوا إلى وجود قنوات محل ثقة، يمكنهم من خلالها التعرف على الصين الحقيقية. ومع الوقت ستظهر تدريجيًّا ردود أفعالٍ موازية من السوق، نستطيع من خلالها تحديد متطلبات السوق، وإثرائها وفقًا لهذه المتطلبات. كما سيدفعنا ذلك إلى تحسين وتطوير مجال الطباعة والنشر، وأعتقد أن هذه الطريقة ملائمة تمامًا للعديد من البلدان، فالتبادل الثقافي والتأثير لا يحدث بين يوم وليلة، وليس صفقة تحدث لمرة واحدة وتنقضي.

وكذلك فإن عملية النشر لا تحدث بين عشية وضحاها، ولا يمكن القيام به من جانب دولة واحدة، فالنشر القائم على "التعلم المتبادل بين الحضارات" يحتاج إلى جهود مشتركة. والتواصل بين دور النشر في هذا الشأن لا يصح أن يقتصر – فحسب - على جزئية شراء حقوق النشر والطباعة، بل من الضروري أن نبذل قصارى جهودنا لترتيب لقاءات بين المسئولين عن المشاريع الثقافية، والفاعلين الثقافيين من كُتَّاب ومترجمين وناشرين، وقراء أيضًا، وعقد اجتماعات للتباحث حول المشروعات، بدءًا من مرحلة الترجمة، وصولًا إلى مرحلة النشر، وحتى الدعاية والتسويق. فينبغي تقرير الخطوات المُتبعة في تلك المراحل جميعها معًا، وذلك لضمان تقديم المعلومات الأكثر موضوعية واحترافية، لتساهم في إتمام ذلك العمل والترويج له في البلدان الأخرى بنجاح.

وأخيرًا، أعيد ما قلته في بداية المقال من أن صين اليوم ليست هي صين الأمس، كما إنها لن تكون صين الغد، فالصين تهتم بنشر ثقافتها في العالم، وليس هناك أفضل من الكتاب رسولًا لها بين الدول. ونحن أمام فرصة عظيمة لقطاعات الثقافة العربية، وخاصة دور النشر، لإنشاء منصات تعاون مع الصين، نتجنب فيها التبعية وعدم التكافؤ، ونركز على المصداقية والتبادل الحقيقي. فالسوق الصينية متعطشة – ثقافيًّا - للمحتوى العربي، ويمكن للكتاب العربي أن يستعيد أضواءه المفقودة عالميًّا من محطة الصين، إذا تبنت الجهات العامة والخاصة مشروعات تعاون "تبادلية"، تأخذ وتعطي، ولا تكرر أخطاء الماضي في أن نكون مجرد جسرٍ تعبر عليه الثقافات إلى أدمغة العرب.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020