بقلم سمير الأمير
في رواية "برسكال"، التي سبقت روايته "تاريخ آخر للحزن"، يبدو الروائي أحمد صبري أبو الفتوح مُنشغلًا برصد الحراك الاجتماعي للمصريين، وخصوصيته، وتأثير ثورة يوليو في هذا الحراك الذي اتسم بخصائص شديدة الارتباط بالبيئة المحلية المصرية. وفي رصده هذا، تَحَرَّزَ أبو الفتوح من الوقوع في ذهنية لَيّ عنق الحقائق لتطويعها لمسارات وقوانين الحراك حسب المجتمعات الأوربية.
من خلال روايتيه الأخيرتين نكتشف أن "المنطق العائلي" هو السائد في نظرته لمسارات هذا الحراك في المجتمع المصري، ومن ثَمَّ فإن كل زيجات عبد العاطي – العربجي، بطل رواية برسكال – يمكن النظر إليها باعتبارها وسائله للالتحاق بالعائلات الكبرى، وُصولًا لتكوين برجوازيته الريفية الخاصة. ثم يرصد أبو الفتوح انهيار هذا المشروع، باعتبار أن الزمن قد تجاوز البرجوازيات الريفية وشكل العائلة، بتأثير انهيار المشروع العام وهزيمته، وبتأثير الرياح القادمة من السوق الكبرى للعالم الرأسمالي الجديد، وعودة التأكيد على الخلاص الفردي في الدين أو في الاقتصاد. وهذا الأمر جعل "برسكال" - ابنة عبد العاطي وشريكة رحلته - تستعين بخبرة شعبية تاريخية لفرض أبيها على حاضر هذا الواقع وعلى مستقبله عن طريق "أسطرته"، حتى إن أبسط سلوكياته – كعربجي - تحوَّلت إلى كرامات، فأصبح "عبد العاطي نمش، القابض على اللجام، الضارب بالكرباج"، الذي تبني له ابنته مَقامًا يَحُجُّ إليه المقهورون والغرباء وأصحاب الأمراض والحاجات.
إن النصّ العام في كل أعمال أبو الفتوح يُعبر عن نفسه بقوة، وهو ما يمكن تسميته بـ "تاريخ الحزن"، ومن ثَمَّ فإن أعمالًا مثل ملحمة السراسوة وبرسكال تُمثِّل تناولًا أفقيًّا ومحاولةً لكشف هذا التاريخ. أمّا الرواية الجديدة "تاريخ آخر للحزن" الصادرة هذا العام عن دار ميريت، فهي تأتي لتتعقب هذا الحزن رأسيًّا، مُتخذةً من عائلة أرسلان كأسياد أو كطبقة مسيطرة، ومن عائلة حلوية كتابعين وخدم، مجالًا ليس "للكشف" الأفقي كما أسلفنا، ولكن لسبر الأغوار و"للاستكشاف"، وهو ما جَرَّبَه من قبل ونجح فيه إلى حد كبير جدًّا في روايته "أجندة سيد الأهل"، إذْ كانت هي أيضًا محاولة للتحليل الداخلي العميق لظاهرة عجز المجتمع المصري عن إنجاز متطلبات الحراك الاجتماعي.
في رواية "تاريخ آخر للحزن"، يطرح السرد تساؤلًا مُهِمًّا وهو: ماذا جنت طبقة المُلّاك من قهر عبيدها غير جدبها وعقمها وعدم قدرتها على مواصلة الحياة؟. لقد كانت هذه الطبقة وَبَالًا على المجتمع بأسره، وشكلت تاريخًا لحزنه لم يَخْبُره من قبل، وجسَّد نموها المترهل - المتمثل في شخصية "عبد المولى" - كارثةً وعارًا حاولت العائلة إخفاءه بشتى السبل دون جدوى. وعبد المولى هو توأم عبد الباسط أرسلان والد "المُنجي أرسلان"، واضطرت عائلة أرسلان أن تختلق الأكاذيب، إلى حد "أسطرة" قُبح طبقتهم ونموها السرطاني غير المتكافئ، ليس على مستوى ما يربطهم بالفلاحين والخدم فحسب، بل أيضًا على مستوى علاقة بعضهم ببعض. ولنتأمل هذا المُقتطف من الرواية:
"كان جميع من في السراية يشعرون بخُطًى تَدِبُّ فوق رؤوسهم، ويسمعون في جوف الليل بكاءً لا يعرفون من أين يأتي، وشاع بين الخادمات أن تلك الحجرة مسكونة بروح مملوك شاب من أصحاب الوسية القُدامى. قالت خادمة قديمة جاءت مع "واطفة" إلى السراية في نفس اليوم إن ذلك المملوك - جميل الطلعة - وقع قديمًا في حب فلاحة صغيرة وأراد أن يتزوجها، ورفضت أسرته، جربوا معه كل شيء، ولما أعيتهم الحيل أخذوا مِزقة من طيلسانه وعرضوها على عَرَّافة، فقالت إنه مسكون بجنٍّ سخرته الفلاحة ليتعلق بها. وذات يوم عثر الناس على الفتاة مقتولةً، وعندما علم المملوك بموتها أطلق صرخة عظيمة وسقط ميتًا، لكن روحه ظلت محبوسة في هذه الحجرة، لهذا يسمعه من في السراية وهو يمشي فوق رءوسهم، وفي الليل يتجاوز بكاؤه الحدود ويصل إلى مماشي الحديقة الشاسعة.
. . .
تردد الأستاذ مُنجي في الدخول إلى الحجرة، ففتحت معالي الباب وهمت بالدخول، وإذا بمارد يدفعها ويفرّ، خطواته هزت السراية، سألها الأستاذ مُنجي:
- من هذا؟
أجابت وهي تعطيه ظهرها:
- عمك عبد المولى.
أمسك بيدها مُحْتَجًّا:
- ما عرفت أن لأبي أخًا يُدْعَى عبد المولى.
وقفت، وقَدَمٌ داخل الحجرة وأخرى خارجها:
- إنها مجرد حكاية".
لدينا هنا إذنْ ما يقدم دليلًا على قدرة "أبوالفتوح" على التكثيف الذي يمثل ذروة المأساة؛ فقد جمع في هذا المقطع - ببراعة شديدة، وجنبًا إلى جنب - ما يمكن تسميته بالأسطورة التي ليست سوى خرافة، والواقع الذي تضعه فيه "معالي" وكأنها تقول للمُنجي: "انظر كيف صنعتم بنا وبأنفسكم. إن ممارسة أشكال الخداع والإخفاء لم تكن تُمارس هنا على الفلاحين والخدم فقط، ولكن على بعض أفراد العائلة أيضًا. كل هذا تحت تأكيد السارد على قناعته بأن هؤلاء الفقراء - في البدء - كانوا هم من ضحوا وحافظوا على الوسايا التي لا يمتلكونها بعد هروب أصحابها أمام الاحتلال إبان ثورة عرابي، رغم أن كثيرًا من العائلات دعمته في البداية، ولكن عندما آلت الأمور إلى الإنجليز فَرُّوا أو تراجعوا - على الأقل من هم على شاكلة عائلة أرسلان - التي ربما تكون في بدايتها صنيعة مغامر غريب جاء إلى هذه القرية ثم تَسَيَّدَها، تمامًا كما حدث من قبل، وما سيحدث من بعد، وكأن هذه البلاد "حظ الغرباء".
ولم يُضِعْ "أبو الفتوح" وقتنا في الحديث عن مؤسس أسرة أرسلان، ولكنه في الوقت ذاته كان مُدركًا لأهمية "شهاب الدين أرسلان"، هذا الوافد الغريب، ولذا استخدم حيلة روائية ذكية حين جعل شخصيته أحد الأطياف التي تترائى هائمة حول السراية:
"ثم بدأت الوفود الطائرة في الطواف حول السراية، رجل في ملابس قديمة وطربوش قانٍ ومِنَشَّة عجيبة، تظهر صورته مرسومة فوق السحابات العابرة، قال البعض إنه ربما يكون الغريب، الشيخ شهاب الدين أرسلان، الذي جاء إلى نَوَسَا البحر بعد أسابيع من هجوم الإنجليز عليها في الأزمان القديمة، والمرأة إلى جواره هي على الأرجح زوجته الست جميلة الأمير، أمّا الواقف خلفهما فهو ابنهما العُمدة القديم الشيخ حافظ أرسلان، والمرأة التي تنضوي تحت جناحه هي زوجته بزادة هانم عامر، ابنة عُمدتهم القديم الشيخ رءوف عامر، التي أنجبت له أبناءه الثلاثة: عبد الرافع الذي قامت ثورة 23 يوليو وهو مدير الغربية، وعبد الباسط الذي كان عضوًا بمجلس النواب عن حزب الوفد القديم، وعبد المُحصي عمدة نَوَسَا البحر الذي كانت خلافته لأبيه في منصب العمودية سببا في اندلاع حرب كبيرة بين الإخوة الثلاثة".
يجسد أبو الفتوح التأثير الدراماتيكى لثورة يوليو، ولزعيمها عبد الناصر، على "تاريخ هذا الحزن"، في شخصية "المُنجي أرسلان ابن صاحب العزة عبد الباسط أرسلان"، الذي تزوج بابنة "المُنجي توبة"، ولكنه فشل في اعتبارهم أصهارًا مساوين له إنسانيًّا. فالمُنجي إذنْ ليس سوى نتاجٍ لمحاولة تجسير هُوَّة التناقض الطبقي بين طبقة أرسلان أبناء حافظ أرسلان وهم عبد الباسط وعبد المُحصي وعبد المُغني، وبين عائلة المُنجي توبة حلوية: بدءًا من حسنين اللهفة وجبريل ومنصور وفتح الله النَّوَسَانى وسيادة ومعالي.
سيشير أبو الفتوح كثيرًا إلى عجز هذه البرجوازية الريفية عن الاستمرار كقاطرة للمجتمع، وإلى عجزها حتى على الاستمرار كعائله؛ لأنها ببساطة قد عَقِمَتْ. وستتضمن تلك الإشارات دوائر للخروج غير مروية، ولكنه يجعل كل الأحداث موحيةً بها. لقد أراد أبو الفتوح أن يقول لنا: إن السبب العام لهذا الحزن الذي مزق قلب "المُنجي" وقتله، هو فشل عائلته وطبقته في إدراك فضل المنسحقين طبقيًّا على هذا الوجود وهذه الرِّفْعَة، إنه فضل لا علاقة له بالإذعان التام لهذا القهر الطبقي، الذي لم يمنع أحدهم من التطوع في صفوف عرابي، دفاعًا عن وجود يألفه رغم كل ما يشكله من انسحاق وقهر.
في النهاية، يموت المُنجي أرسلان "هجين" الطبقتين، العاجز عن ممارسة الحياة بطريقة أبيه، والعاجز أيضًا عن معانقة ناصريَّته ودحض تاريخ الحزن التليد الذي صنعته طبقته. يموت بعد أن فشل في التقاط حبل النجاة المتمثل في إدراك أن "معالي حلوية" - خادمته و سليلة خادمة أبيه - هي السبيل الوحيد لاستمرار نوعه "جنس أرسلان". يموت وحيدًا منفطر القلب، نتيجة البكاء والنحيب القادم من إخفاقات الماضي وعدم القدرة على رؤية المستقبل.
إنه "تاريخ آخر للحزن"، يرويه لنا أحمد صبري أبو الفتوح، لعلنا ندرك في واقعنا ما عجز أشخاص الرواية عن إدراكه، ولعلنا نبحث عن مقاربة جديدة لمحاولة فهم إشكاليات تاريخنا الاجتماعي، الذي لا يخص طبقة بعينها، ومن ثَمَّ محاولة طرح حلول لمشاكل تعثره، والبحث عن الجوانب التي تدعم قدرته على طرح صيغة حديثة وإنسانية للتعايش بين الفئات الاجتماعية المختلفة.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020