الخميس 30 يناير 2025

فن

أحلام من أقبية المنافي.. جديد صلاح البشير في روايات الهلال

  • 17-10-2020 | 04:12

طباعة

أصدرت روايات الهلال، في عددها الصادر مارس الماضي، رواية "احلام من أقبية المنافي"، للكاتب صلاح البشير.



وجاء في مقدمة الرواية: "وهو جالس على أريكته متكئاً على جانبه الأيمن ومستقبلاً القبلة، فرأى فِيْما يرى النائم أنَّه فِيْ طريقه إلى مطار جون كينيدي بمدينة نيويورك الأمريكية على ساحل الأطلنطي أو الساحل الشرقي الأمريكي إنْ شئت، يريد أنْ يأخذ الطائرة إلى بلاده"
.


وتابع الكاتب في المقدمة: "
جلس على كرسيه بالطائر الميمون قاصداً إليها بعد طول غياب، فاستغرقه النوم واستسلم لخدره اللذيذ، فِيْ ذات ليلةٍ مِنْ تلك الليالي التي يحلم بها كل مَنْ غابت عنه شمس دياره، وران عليه الحُلم، وتمكن مِنْه تمكن ذى السلطان مِنْ رعيته، وارتسمت على شفتيه ابتسامة محمولة على أجنحة مِنْ الشوق المرهف السعيد. استبقته أحلامه وقد استغرق فِيْ النوم إلى مدينته الجميلة؛ أم درمان، الراقدة على شط النيل الغربي، وهي مدينة عرف الجميع أنَّها تحن إلى أبنائها حنين النيب إلى فصالها، كأنَّها تنتظرك لتذيقك سعادة حاضرة وأخرى مرجوة."
 

وأتى في المقدمة: "رأى فِيْ مَا يرى النائم كيف كانت الشمس– حين غادرها– تتناهض مِنْ مطلعها قليلاً قليلاً، مرسلةً أشعتها الذهبية إلى صفحة النيل لتزيح أستار الليل عنها إلى صباحٍ جميل يجلو صفحتها، فينير خضراءها وغبراءها، ولايزال يرى الشمس ترسل أشعتها الذهبية حتى لمح بارق الطابية قبالة النيل يخطف البصر بلألائه، فخيل إليه أنَّه يرى فِيْ أفقه شمساً أخرى تبعث أشعتها إليه مِنْ لُجِّ التاريخ، مذكرة إياه بماضٍ نحته الآباء الأوائل بنفوسهم ودمائهم، وضع يده على يُسرى أضلاعه كأنما ود أنْ يحفظ هذا التاريخ فِيْ سويداء قلبه".

 
وأردف: "
ها هي أمه قابعة فِيْ كسر البيت مطرقة برأسها تفلي التراب بعصاةٍ فِيْ يدها، وعيناها مخضلتان بدموع سخينة وحزينة لفراقه، وذاك أبوه يقف فِيْ فصل المدرسة العاري أمام السبورة السوداء، ويداه المعروقتان مخضبتان بآثار «الطباشير»، يلتفُ حوله الصغار، ليحكي لهم عنْ سر هذه المدينة الجميلة، كأنَّه لا يشكو هماً مِنْ هموم الحياة أو رزءاً مِنْ أرزائها، ثم لا يزال يحكي لهم حتى تجري دمعةٌ فوق يديه لتمحو بعضاً مِنْ آثار «الطباشير» وتمشي بعضها على بعض، وقد تذكر ابنه الغائب منذ سنين، ثم لا يلبث أنْ يعود إلى نفسه، ليحكي لهم تاريخ أجدادهم مرةً بعد مرة".

 

وهناك عنْد ناصية الطريق يتراءى له خيال العم «صالح الحلاق» كأنَّه خيال سار لا يكاد يتبينه رائيه، فِيْ جلبابٍ أبيض فضفاض يموج فِيْه جسمه موجاً، ينتظر زبوناً ليقصر له شعره أو يحلق له لحيته، وهو لا يملك مِنْ متاع الدنيا شيئاً غير دكانه وبيتاً عارياً مِنْ كل شئ.

 

 كان العم «صالح الحلاق» ينزله مِنْ نفسه منزلة لمْ ينزلها أحداً مِنْ قبله، ويجد فِيْ الحديث إليه مِنْ السعادة والغبطة ما يذهب بتلك الغشاوة التي لا تزال تعاوده بين الفينة والأخرى حين يتذكر ابنه الذي توفاه الله بمرض الكالازار، فتصطلح نفسه إلى الهموم والأحزان، ويمسك بين أهداب عينيه دمعة مترقرقة لا تكاد تتماسك، ولا يزال هكذا يراوض نفسه ويمسكها، ثم يمنِّيها الأماني العِذاب بأيامٍ سعيدة قادمة، حتى تسلس وتهدأ ويعودها البِشرُ مرة أخرى، فيعود يرسل طرفة هنا وطرفةٌ هناك

 

فِيْ جانب دكان العم «صالح الحلاق» كان دكان «حسن الترزي»، وهو رجلٌ شقيٌ منكوبٌ، قد لبس الهِرمَ قبل أوانه، وأوفى على الخمسين مِنْ عمره قبل أنْ يسلخ منها بضعاً وثلاثين، فتجعد جبينه، وجمدت نظراته، وهوى رأسه، وانحنى ظهره، وقد جعل مِنْ نفسه نديماً للكأس لا تكاد تدنو مِنْه إلا وتشتم رائحة الخمر. تحيط به زمرة مِنْ زمر الشيطان، فتغريه بالشر وتزّين له كل ما يزيّن الشيطان لابن آدم إلا النساء، وقد امتلأ قلبه كرهاً لهنَّ، لأنَّ فتاته قد تزوجت برجلٍ ميسور الحال، غريب عنْ مدرتهم. منذئذ، نفض يده عنْ كل النساء، واستحال قلبه إلى صخرةٍ عاتيةٍ لا ينلنَ منها خيراً أو شراً، وأطلقهن عنْه كما تطلق السائمة، ولسان حاله يردد «إنَّ كيدهنَّ عظيم». وتلك الجالسة قُبالة دكان العم «صالح الحلاق» تفترش الأرض وأمامها أقداح مليئة بالخضروات هي «الحاجة فاطمة» بائعة الخضار وهي امرأة رزقها الله بسطةً فِيْ الجسد، فلا تكاد تجلس أو تقوم إلا وهي تحاول أنْ تخفي هذا البدن الممتلئ عنْ أعين الناس حياءً وخجلاً، وقد نزلت مِنْها السِمنة منزلةً لمْ تبرحها ولمْ تستطع أنْ تتحلل مِنْها، وهي على بدانتها وحيائها امرأةٌ ضاحكة لا همّ لها سوى الضحك والمرح، تضئ المحافل بحسن حديثها وطلاوته، وتمتلك على النساء أسماعهن وأبصارهن، لا تجاريها فِيْ ذلك إلا «أمينة بائعة الشاي»، التي تشاركها افتراش الأرض وتجاورها المكان، وتجلس على مقعدها وبراد الشاي أمامها يغلي ماؤه، وبجانبها طبق كبير يحتوي على «اللقيمات» المغموسة فِيْ العسل، تنادي بصوتٍ رخيم، يستعذبه المارة مِنْ الرجال «الشاي .. الشاي .. علينا جاي».

 

 وأمينة امرأة قد تجاوزت الثلاثين مِنْ عمرها، عذبة المنظر، ذات وجهٍ أسمرٍ رائق، يتقد حياءً وخجلاً، مات عنْها زوجها تاركاً لها ابنها محمد وابنتها نعمة، وصبابة مِنْ مالٍ لا تكاد تعين على قسوة الأيام، فما كان مِنْها إلا أنْ شمرت عنْ ساعد الجِد، فاختلفت إلى مكانها هذا تصنع «الشاي واللقيمات» وتبيعهما حتى تستطيع أنْ تغطي بعائدهما كُلفة العيش وتعليم طفليها، وقد عزفت عنْ جنس الذكور حتى تقوم بهذه المهمة الشاقة التي ينوء عنْ حملها أعتى الرجال.

 

 .. ها هو الشيخ «عبد الرحمن» قد فرغ مِنْ صلاة الظهر، يخرج مِنْ باب المسجد عائداً إلى بيته، وهو كعادته يأخذ طريقه إلى داره مسبحاً ومحوقلاً. رجلٌ حسن السيرة والسريرة، شديد الوقار، لا يختلف إلا إلى المسجد مؤدياً صلاته، أو إلى حلقات الذكر ذاكراً ربه، ولمْ يك يرغب مِنْ متاع الدنيا إلا خمسة أشبارٍ يواري فِيْها جسده يوم يسترد الله وديعته.

 

 .. تسوقه قدماه إلى شارع الموردة المؤدي إلى السوق الكبير، وهو أشبه شيءٍ بخلية النحل، كُله حركة، وكُله نشاط، وكُله دويٌ يرتفع حيناً وينخفض حيناَ آخر، على ما فِيْه مِنْ تباين الأصوات واختلافها بين أصوات الصبية الضئيلة، وأصوات النساء الرقيقة، وأصوات الرجال التي استوفت حظها مِنْ الامتلاء، تحمل جميعاً إلى الآذان  شيئاً حلواً رائقاً، فِيْه كثيرٌ مِنْ الملاءمة والانسجام، يشبه ذلك الانسجام السيمفوني الرائع الذي تعزفه أعظم الفرق الموسيقية.

 

 يقف قبالة «دار الرياضة»، وهي إحدى دور الآثار القديمة التي خلفتها الثورة المهدية، جوار مستشفى القابلات وقبة الإمام محمد أحمد المهدي الشماء .. القائد الذي هزم المستعمر وقتل أنصاره غردون باشا الحاكم العام على السودان، وحوش خليفته عبد الله التعايشي.. ذلك الفناء العظيم المحبب لأهل السودان، وهناك مبنى المجلس البلدي الرائع الجميل.. كأن البريطانيين أرادوه تذكاراً أخيراً إلى شعب البقعة خاصة. آهٍ .. كل واحدٍ مِنْ هذه المباني قصة بذاته.

 ها هو الحاج إبراهيم يقف أمام دكانه بالسوق الكبير ينادي ابنه سعيداً ليرسله إلى سوق «الملجة» ليشتري بعض اللحم وبعض الخضروات، ثم إلى سوق «العناقريب» ليسأل عمه إسحاق عنْ بعض حاجتهم هناك.

وهناك نادي الخريجين جوار الجامع الكبير، حيث كان يلتقي أصدقاءه كلهم، على اختلاف مشاربهم ومنازعهم. كان أقربهم إليه الدكتور سالم الحاج، هذا الشاب الثائر فِيْ هدوء، الممتلئ حكمةً ورأياً، صاحب القلب النقي الطاهر والذي دائماً ما يأنس للعفو، ويستريح إلى العذر، والأستاذ عبد الله حسنين هذا الذي لا يفارقه السخط على الدنيا وما فِيْها، والنقمة على الزمان والمكان على السواء، وكان عجيباً أنْ صديقيه مختلفان فِيْ كل شئ، حتى نظرتهما لهذه الدنيا وكل الأمور التي تجري فِيْها، لذا أطلق عليه رواد النادي لقب «جامع النقيضين».

 ولم يزل هذا شأنه مِنْ الاستغراق فِيْ النوم، حتى أحس بيدٍ تهزه، فرفع ناظريه فِيْ كسلٍ وتثاءب بعمقٍ، وهو يسمع ميكروفون الطائرة يردد: "نرجو مِنْ ركابنا الكرام الجلوس على مقاعدهم، وربط الأحزمة، والالتزام بعدم التدخين. سيكون الهبوط – إنْ شاء الله – فِيْ مطار الخرطوم فِيْ غضون عشر دقائق مِنْ الآن. الساعة الآن تمام السابعة صباحاً ودرجة الحرارة بمطار الخرطوم ثلاثون درجة مئوية. قائد الطائرة يتمنى لكم رحلةً سعيدة ووصولاً حميداً، كما يتمنى أنْ تشاركوا الخطوط الجوية السودانية رحلاتها القادمة بإذن الله".

حاول أنْ ينهض فإذا الكرسي ليس بكرسي الطائرة، إنَّما هي أريكته التي اتكأ عليها، واليد التي لكزته ما هي إلا قطة اتخذها ونيساً فِيْ وحدته، ضايقها سكونه وربما خافت مِنْ حلمه الذي ساقه إلى هناك.. إلى رحاب الوطن.

 

 مسح دمعة كادت أنْ تتحدر، وبسمل وحوقل واستعاذ مِنْ الشيطان، ونام مرةً أخرى قبل أنْ تشيخ آحلامه.

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة