"فى الرواية
الطويلة التى كتبها الأستاذ هيكل لحياته يبدو أمامك واضحا وشفافا تماما، يقول كل
شئ، لكن عندما تفتش تحت جلد الأستاذ، ستكتشف أنه لم يقل الكثير، رحل تاركا خلفه
كثيرا من المناطق الرمادية التى لا يمكن لأحد أن يفصل فيها إلا هو.
يمكن أن تضيف إلى
شخصية الأستاذ هيكل ما تشاء من الصفات، لكن تظل الصفة الأهم فى حياته هى "
الحرص"... كان حريصا جدا، فالرجل الذى لم يكتف ببناء مجده فقط، بل قرر أن
يهدم مجد الآخرين فى بلاط صاحبة الجلالة، وضع نفسه فى قالب صارم جدا... وهو القالب
الذى جعله حتى لو أخطا لا يستطيع أحد أن يمسك عليه شيئا حتى لو كان عابرا.
فى عام 1949 ذهب
أحد عشر صحفيا من ألمع محررى أخبار اليوم إلى على أمين وقالوا له: إما نحن وإما
هيكل.
فوجئ على أمين
بالإنذار، كان يعلم أنهم جادون لأن جريدة المصرى كانت تتفاوض معهم للانتقال إليها،
وسألهم على أمين: لماذا؟
فقال أولهم: هيكل
غامض.
وقال ثان: هيكل
خطير.
وقال ثالث: هيكل
ألعبان.
وهكذا إلى أن جاء
الدور على عبد الرحمن الشرقاوى فقال: إنه ليس عنده شيئا يأخذه على هيكل، ولكنه لا
يستطيع أن يتجاهل رأى كل هؤلاء فيه.
ضحك عل أمين وقال
لهم: هذه شتائم وليست اتهامات، وأنا أطلب ذكر واقعة محددة تثبت أنه خطير أو أنه
ألعبان، فقال أحدهم: إن هيكل حذر أكثر من اللازم ولا يعطى لأحد فرصة ليمسك عليه
دليلا.
هل يمكن أن نعتبر
هذا أحد مفاتيح شخصية هيكل؟
إنه قد يكون
المفتاح الأكبر" لا يعطى أحد فرصة ليمسك عليه دليلا".
ما قاله هذا
الصحفى الذى طمس التاريخ اسمه قد يكون صحيحا إلى درجة كبيرة، لكنه فى الغالب لم
يعش، حتى يرى ما الذى فعله هيكل بمنطقه ووثائقه، إنه لم يمنح أحدا فرصة ليمسك عليه
دليلا، بل صادر الأدلة كلها، وجعل منها دليل إدانة لكل من خالفوه أو أزعجوه أو
تطاولوا عليه ولو بكلمة عابرة.
فى حياة هيكل
مناطق غامضة، وإذا لم تكن الكلمة دقيقة بالنسبة لك، يمكننا أن نتفق على أنها
رمادية، نملك أطرافا من المعلومات عنها، لكن لا يوجد مصدر واحد يمكن أن يفض غموضها
أو رماديتها، لم يتحدث عنها الأستاذ، ولم يسأله أحد من مريديه عنها... ربما لأنهم
كانوا يعرفون أنه لا يريد أن يتحدث.
المنطقة الأكثر
رمادية فى حياة هيكل كانت تلك التى باشر خلالها عمله فى مجلة "روز
اليوسف".
من تراثنا الصحفى
الشفوى أن إحسان عبد القدوس قال أن هيكل دائما كان يبحث عن الرأس الكبيرة فى أى
مكان ليسيطر عليها، حتى يسيطر بعد ذلك على كل شئ، فعلها عندما دخل روزاليوسف،
فسيطر على رأس أمى، وفعلها بعد ذلك عندما سيطر على رأس عبد الناصر.
" سيطر على
رأس أمى"... لابد أن لدينا هنا قصة، ما الذى فعله هيكل فى روز اليوسف على وجه
التحديد؟
على كثرة ما قاله
هيكل عن عمله فى الصحافة إلا أنه لم يرو شيئا عن عمله فى روزا اليوسف.
سألت صندوقه
الأسود خالد عبد الهادى.
أرسلت له رسالة
قصيرة: هل تحدث الأستاذ هيكل عن فترة عمله فى روزاليوسف فى أى مصدر متاح لديك؟
رد على متفضلا،
قال: هو عمل لفترة قصيرة فى روزاليوسف، ذكرها بطريقة مبتسرة فى كتابه " بين
الصحافة والسياسة" صفحة 28.
فى يوليو 1943 عمل
فى روزاليوسف سكرتير تحرير، وأول مقال له بالمجلة كان يوم الخميس 19 أغسطس 1943
بعنوان " كنت أتمنى أن أكون معهم".
وتناول أيضا عادل
حموده فترة عمل الأستاذ هيكل بروزاليوسف فى كتابه " هيكل... الحياة الحرب
الحب" صفحة 123.
كل ما كتبه الأستاذ
هيكل فى روزاليوسف لم يتجاوز 10 مقالات، آخرها كان عبارة عن حوار مع إسماعيل صدقى
باشا، ونشر يوم الخميس 30 نوفمبر 1944، ورغم أنه تعرض فى حلقات فى قناة الجزيرة لبداية
عمله فى الصحافة فى " الإجيبشيان جازيت" إلى " آخر ساعة" إلا
أنه أغفل سنة روز اليوسف.
ختم خالد عبد
الهادى رسالته إلى بعلامة تعجب... وسؤال: لعلى أجبت؟
أجابنى خالد عبد
الهادى بالفعل على سؤالى، لكنه لم يتمكن بما قاله أن يبدد غموض إغفال هيكل لسنة
روز اليوسف.
هنا يمكن أن نبقى
سويا لبعض الوقت.
ولنبدأ من بعض ما
ذكره خالد عبد الهادى.
ذكر هيكل قصته مع
روز اليوسف بالفعل فى كتابه " بين الصحافة والسياسة" فى صفحة 26 وليس فى
صفحة 28، وجاء هذا الذكر فى الهامش وليس فى المتن.
يمكننا أن نقرأ
معا ما أثبته هيكل فى هامش الصفحة 26، يقول: لم أكن غريبا عن أجواء الصحافة
العربية، فقد كنا فى تلك الأيام نذهب مع الأستاذ " فيليب حنين" رئيس قسم
الشئون المحلية فى الإجبيبسيان جازيت للغداء فى مطعم " البريزيانا"
القريب من الجريدة، وكانت السيدة روزاليوسف الفنانة والصحفية الكبيرة تتردد على
هذا المطعم، وقدمنا إليها الأستاذ فيليب حنين، ثم لقيناها أكثر من مرة، وكانت هذه
السيدة ذات الشخصية القوية كريمة فى تشجيعها لصحفيين مبتدئين، ودعتنا إلى مائدتها
مرات، ثم دعتنا إلى مجلتها، وهناك كان لقائى الأول مع الصحافة العربية.
ما حاول أن يخفيه
هيكل عن عمله فى روز اليوسف، فصله عادل حموده فى كتابه " هيكل... الحياة
الحرب الحب".
تابعه وهو يبدأ
الحكاية من حيث انتهى هامش هيكل.
يقول: استجاب هيكل
لدعوة السيدة روزاليوسف، وكان ذلك فى عام 1944، ولكنه على ما يبدو لم يبق فيها
طويا ولم يكتب فيها كثيرا، لقد كتب عن بنت الجيران التى لم ينسها، وعرض نتائج بحث
ميدانى عن المجلات المصرية أشترك فيها هو وبعض زملائه فى مدرسة التجارة تحت إشراف
أستاذه السيد أبو النجا.
يقول السيد أبو
النجا فى مذكراته أن هذا البحث كان أول بحث ميدانى من نوعه فى الشرق الأوسط، وكان
أجر المشترك فيه 3 جنيهات عن 6 شهور من العمل المستمر.
عندما أظهر البحث
الميدانى تفوق روز اليوسف نشر هيكل نتائجه على صفحاتها بعد أن أصبح محررا فيها.
يستكمل عادل
حكايته، يقول: أبرز ما يحتفظ به أرشيف روز اليوسف السياسى لهيكل مقالين عن الملك
فاروق، الأول فى العدد 818 الصادر يوم الخميس 17 فبراير 1944 بعنوان " إنه
الفاروق"، والثانى فى العدد 830 يوم الخميس 11 مايو عام 1944 بعنوان" فى
يوم عيدك يا مولاى"، وفى المقالين نجد هيكل حريصا على الكتابة بأسلوب أدبى
مميز، والواضح أن الأسلوب كان يغلب على الحدث والخبر فى المقال الأول، وهو ما تلافاه
هيكل فيما بعد.
ويختم عادل حموده
ما أمسك به من تاريخ هيكل الذى حاول أن يخفيه فيما يبدو عامدا متعمدا بأن هيكل لم
يبق طويلا فى روزاليوسف، يقول: إن صداما ما خفيا وقع بينه وبين إحسان عبد القدوس.
وينقل عادل حموده
ما ذكره موسى صبرى فى كتابه " 50 عاما فى قطار الصحافة" على لسان إحسان
عبد القدوس الذى قال: إن هيكل يستولى على الرأس الكبير فى أى مكان، استولى على عقل
والدتى، ثم عقل محمد التابعى، ثم عقل وقلب على أمين، ثم عقل جمال عبد
الناصر".
ويعلق عادل على
ذلك بقوله: لم يقل إحسان عبد القدوس كيف كان هذا الاستيلاء، ولا ما الذى أزعجه
فيه، خاصة وأنه سبق هيكل فى روزاليوسف بنحو 7 سنوات، كما أنه كان أشد بريقا وشهرة.
عدت إلى أرشيف
هيكل الكامل فى روزاليوسف، ولم أركن إلى المقالين اللذين ركز عليهما عادل حموده
ويتعلقان بالملك فاروق، خاصة أنه علق عليهما بقوله: وعندما نقرأ المقالين لا يجوز
أن نحاسب صاحبهما بأثر رجعى... وهو تعليق يحمل بعضا من الإدانة بالطبع.
فعليا امتد عمل
محمد حسنين هيكل فى روزاليوسف من 19 أغسطس 1943 وكان أول مقال كتبه هو " كنت
أتمنى أن أكون معهم" وحتى 30 نوفمبر 1944 عندما كتب حواره مع إسماعيل صدقى
وكان عنوانه" الموقف الحالى يبرر الشدة الحاسمة ... حديث مع إسماعيل
صدقى".
وبينهما نشر
ثمانية مقالات هى : رجل الدولار فى 4 نوفمبر 1943، وليس لأنه الملك فى 16 ديسمبر
1943، والمرأة فى السياسة فى 6 يناير 1944، وإنه الفاروق فى 17 فبراير 1944،
وأحاديث تهمك فى 20 إبريل 1944، وفى يوم عيدك يا مولاى فى 11 مايو 1944، والغرام
الأول فى 29 يونيو 1944، ومصر والصين... حديث مع الوزير الصينى المفوض فى 5 أكتوبر
1944.
لم يكن هيكل يكتب
بشكل منتظم إذن فى روزاليوسف، عشر مقالات فى ستة عشر شهرا قضاها فى المجلة، وهو
معدل إنتاج هزيل جدا، يوحى من بين ما يوحى به أن هيكل لم يكن مرحبا به فى المجلة،
ولا أحد يدرى ما الذى حدث هناك على وجه التحديد، جعل هيكل يمر مرور الكرام على
تجربته فى روزا، وهو ما يجعل الأمر من بين ملامح الغموض فى حياته المهنية.
فى العام 1963 فقد
هيكل منصبه فى جريدة الأهرام لمدة 13 يوما.
ظل ملك الأهرام المتوج
على عرشها بعيدا عن كرسيه، لم يدخل المؤسسة ولم يكتب حرفا واحدا فيها، وكان هذا
فيما يبدو على خلفية الصراع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بعد انفصال سوريا.
وقتها استطاع رجال
عبد الحكيم عامر فى السيطرة على المواقع الحساسة بالدولة وإزاحة رجال عبد الناصر
منها.
طالت هذه المذبحة
محمد حسنين هيكل، وكانت الحجة لأنه ضد الحل الإشتراكى.
التقط رجال عبد
الحكيم عامر فى أحد مقالات هيكل هذه العبارة: إن الإشتراكية يجب ألا تكون شماعة
تعلق عليها مشاكل النظام، وأن التطبيق الاشتراكى يجب أن يمهد له بجهاز إدارى كفء
وفعال، لأنه إذا خاب أو انهار جعل من مصر أمثولة فى المنطقة بدلا من أن يجعلها
مثلا أعلى.
استوعب عبد الناصر
ما جرى، حتى استطاع أن يعيد هيكل إلى مكتبه مرة أخرى.
لم يقل لنا هيكل
شيئا عن هذا الأزمة، لم يقترب منها، ولم يعلق عليها عندما نشرت، ولم يسأله أحدا من
محاوريه، رغم أن ما جرى كان حلقة مهمة فى حلقات صراع القوى على أرضية السياسة
والصحافة فى مصر.
الأمر نفسه تكرر مع محاولة إغتيال هيكل.
جرت هذه المحاولة
فى نهايات العام 1968.
تحدث عنها هيكل
بشكل عابر لا يتناسب أبدا مع استهداف حياته.
قال عنها: قلق عبد
الناصر لحادثة إطلاق رصاصتين على وأنا نازل من مبنى الأهرام القديم فى شارع مظلوم،
وأنا رفضت إبلاغ النيابة وتقديم شكوى، وبعدما عرف عبد الناصر التفاصيل سألنى إن
كنت أتهم أحدا، واستغرب ردى حيث قلت أننى لا أتهم أحدا، وأنا أرى أن ما حدث لى
ولزملائى فى الأهرام، كان ناتجا عن اصطدامنا مرات عدة ببعض أجهزة السلطة.
إن معظم الكتاب
والصحفيين الذين اعتقلوا أيام جمال عبد الناصر كانوا فى الأهرام، لطفى الخولى
اعتقل، وجمال العطيفى اعتقل، وأحمد نافع ويوسف صباغ وحمدى فؤاد قبض عليهم،
وسكرتيرتى نوال المحلاوى قبضوا عليها.
هذه الاعتقالات
بالإضافة إلى حادثة إطلاق رصاصاتين على كانت ناتجة عن اصطدامنا مرات عدة بأجهزة
السلطة، لكن عبد الناصر كان يأخذ فى الإعتبار الخط الذى نسير عليه فى الأهرام،
وكنت أعتبر ان الأهرام يجب أن يكون لها دور طليعى، وكنا نمارسه على أساس أننا
ملتزمون بالميثاق من دون أن نفقد الحرية فى الكتابة عن تطبيق الميثاق، وكنت أرى
أنه إذا استطاعت الأهرام أن تكون طرفا فى الحوار فإنها بذلك تؤدى دورا عظيما،
وأعتقد أننا نجحنا فى أن نجعل من الأهرام طرفا أساسيا فى الحوار على رغم أن ذلك
تسبب لنا فى مشاكل واشكالات، ولم نمارس هذا الدور بحماية من جمال عبد الناصر، إنما
اعتقادا منا أن عبد الناصر يثق فى الأهرام ويرى أننا نعمل من داخل التجربة وننتقد
من واقع الإلتزام.
كما ترون يعبر
هيكل على محاولة إغتياله، ليتحدث عن الأهرام وعن دوره فيها، للدرجة التى تجعلك لا
تهتم بمحاولة قتله، رغم أنها الأكثر إثارة واستفزازا أيضا.
لم تكن المحاولة
التى كان عبد الناصر يعرف من يقف وراءها كما يعرف هيكل أيضا بسبب ما قاله كاتبنا،
فقد جرت بعد مقال كتبه قال فيه أنه إذا لم يكن النظام قادرا على أن يغير فلابد أن يتغير،
ويبدو أن هناك من غضب لأنه فهم أنه المقصود... فحاول تخويف هيكل لا أكثر ولا أقل.
ولأنه كان هناك من
كانوا يعرفون ماذا فعلوا، ولماذا كانوا يريدون أن يفعلوا به ما خططوا له، فقد
تجاهل ما جرى ورفض فتح تحقيق... لتدخل الحادثة إلى المنطقة الرمادية الكبيرة التى
تشكل مساحة لا يستهان بها من حياة الكاتب الكبير.
لقد ظل هيكل حتى
نهاية حياته يبحث عن أسباب لكراهية قطاع كبير من الصحفيين له، ستجده وهو يتحدث عن
ذلك، مدونا أسبابا ومسجلا لتبريرات، لكنه فى الغالب لم يكن موضوعيا مع نفسه ولا
معنا، عندما تحدث.
فى سجل هيكل مثلا
أنه وفى يوم 13 مايو 1971 انتشرت شائعة عن استقالته من الأهرام، فسهر كبار محررى
الجمهورية جميعا لإعداد صفحتين كاملتين تشيعه فيهما بأقلام الشامتين، وفى آخر
الليل صدر نفى عاجل من هيكل لخبر الإستقالة بعد مقابلة عاجلة بينه وبين السادات
فتأجل النشر.
تخيلوا أن صحفيين
يستعدون بإحتفال مهيب يودعون به هيكل شامتين فيه لمجرد أن وصلتهم شائعة عن رحيله
عن الأهرام، فهل يمكن أن يكون كل هؤلاء مغرضين، مؤكد أن بعضهم كانت لديه أسباب
موضوعية للكراهية، لكن هيكل كعادته طمس الأمر كله، فلم تعد له ملامح تذكر.
لم يكن الأستاذ
هيكل يخدم الحقيقة فى أى وقت من الأوقات، كان يخدم مملكته فقط، ولذلك فقد كان يجيب
عما يريد من أسئلة توجه إليه، ويصمت عندما يقرر أن يصمت.
سأعود بكم إلى
العام 1976، تحديدا إلى 21 فبراير من هذا العام، جريدة القبس الكويتية تنشر حوارا
مطولا مع الأستاذ أجراه السيد الشوربجى. هل يمكننا أن نقرا معا مقدمة الحوار، الذى
أجراه محرره بعد شائعة انطلقت فى القاهرة ووصلت إلى كل العواصم العربية عن إعتقال
هيكل.
" قال هيكل:
حسنا لقد تأكدت الآن أن الخبر مدسوس ولا أساس له من الصحة.
وقلت له: نعم
تأكدت، لكننى لا أريد أن أكتفى بهذا، هناك أسئلة كثيرة حول موقفك وأقاويل عديدة
تتردد عنك وحكايات وروايات، لماذا لا ننتهزها فرصة كى تضع النقاط فوق الحروف،
ونوضح الحقيقة حول ما يقال ويشاع عنك فى كل مكان، ثم نسمع رأيك فى كثير من أمورنا
الحاضرة.
أجاب: حسنا...
سأتحدث معك فى كل شئ، عندما نتقابل سنقول كل شئ.
عندما حان موعد
اللقاء الثانى بادرنى هيكل قائلا: أرنى أسئلتك أولا، قرأها ثم شطب على واحد منها
وهو يقول: هذا السؤال لن أجيب عليه.
كان سؤالى الذى
شطبه هو: ما هو رأيك فى عودة الأستاذين على ومصطفى أمين لميدان العمل الصحفى وفى
الخط الذى ينتهجانه الآن فى صحف أخبار اليوم؟
وسؤال آخر شطب
عليه بقلمه الأسود: قرأنا أن هناك من يتاجر بك ويبيع مقالاتك وكتبك فى دول
البترول، وإنك تتقاضى ستمائة دينار عن المقال الواحد، ما هو ردك على هذا الكلام؟
قلت له: معذرة
لهذا السؤال، ولكنى أريد وضع كل ما يقال أمامك، فقد كتب ونشر أنك تقاضيت نصف مليون
جنيه استرلينى عن كتابك الأخير " الطريق إلى رمضان".
قال: لو افترضنا
أن هذا صحيح، فما هو العيب وما هو الخطأ الجسيم الذى ارتكبته، حسنا سوف أريك شيئا.
أخذنى الأستاذ
هيكل من يدى وقادنى إلى أحد أرفف مكتبته، حيث كانت هناك مجموعة من الكتب بأحجام
مختلفة متراصة بنظام، وبدأ يطلعنى عليها واحدا واحدا، هذه هى بعض الطبعات التى
صدرت عن كتابى المذكور، هذه هى الطبعة الإنجليزية، وهذه هى الطبعة الفرنسية،
النرويجية، اليابانية، الألمانية، الهنولدية، السويدية، التركية، الإيطالية،
الأمريكية، وهذه هى طبعة إنجليزية شعبية، وتلك طبعة فرنسية شعبية.
حوالى سبعة عشر
طبعة اطلعنى عليها، وقال إن الكتاب ترجم إلى 22 لغة عالمية، وطبع وصدر فى كل هذه
اللغات، فلو فرضنا أن دار النشر التى اشترته منى دفعت لى نصف مليون جنيه استرلينى
عنه، هل يكون هذا كثيرا، ومع ذلك فالحقيقة بعيدة كثيرا عن هذا الرقم.
فى حياة الأستاذ
هيكل كذلك واقعة مهمة جدا، لم يشر إليها أو يتحدث عنها مع أحد.
لقد وجد هيكل نفسه
ممنوعا من الكتابة أو لنكن أكثر دقة من النشر فى جريدة الوفد، وقد تسأل عن الذى
جاء بهيكل إلى الوفد وهى الجريدة التى لا تميل إلى عبد الناصر وكل ما يرتبط به؟
الإجابة وجدتها فى
مقال نشره الكاتب عباس الطرابيلى فى مجلة الهلال عدد فبراير 2019، وكان عددا خاصا
صدر فى ذكرى رحيل هيكل الثالثة.
يقول عباس
الطرابيلى: " أغلب الظن أن زميلى ودفعتى بقسم الصحافة الراحل العظيم جمال
بدوى وكان من أصحاب الرأى المستنير، كان يهدف إلى جذب قطاعات تهوى وتعشق مقالات
هيكل إلى الوفد، فاقترح عليه أن يكتب مقالا فى الوفد دون أن يحسب رد فعل الباشا
فؤاد سراج الدين رئيس الوفد وزعيمه.
كان جمال بدوى
ذكيا وموفقا فى خطوته هذه إذ استطاع أن يقنع فؤاد باشا بالموافقة على هذه الفكرة
دون أن يعرضها على قيادات الهيئة العليا للوفد وكبار شخصياته.
لكن حدث أن سافر
جمال بدوى مرافقا للرئيس حسنى مبارك فى زيارته للصين ضمن رؤساء تحرير الصحف
المصرية، وكلفنى بمتابعة الأمر واستلام المقال من الأستاذ هيكل ونشره فى جريدة
الوفد، وتسلمت مقال الأستاذ هيكل وقمت بإعداده للنشر بصفتى مديرا لتحرير الوفد.
فجأة اتصل بى فؤاد
باشا وطلب منى إيقاف نشر المقال والاتصال بالأستاذ هيكل للاعتذار لسيادته عن عدم
نشر المقال، وشرح لى الباشا أسباب التراجع عن النشر.
قال لى فؤاد باشا
إن كبار الوفديين اعترضوا ورفضوا بشدة أن تصبح جريدة الوفد مكانا لنشر أفكار
ومقالات الأستاذ هيكل.
وتساءل كبار
الوفديين: هل نسينا كل هذا العداء من الأستاذ هيكل ضد الوفد ورجالاته وأفكاره
للدرجة التى تصبح فيها صفحات جريدة الوفد منبرا للأستاذ هيكل.
استجاب الباشا
سراج الدين لوجهة نظر قيادات الوفد ومفكريه ومنهم أحمد أبو الفتح رئيس تحرير
المصرى القديم لسان حال حزب الوفد، وأيضا إحسان عبد القدوس الذى كان يكتب مقالا
أسبوعيا على صفحة كاملة من جريدة الوفد، وأيضا مصطفى أمين صاحب دار أخبار اليوم.
لم تكن قيادات
الوفد وحدها التى اعترضت على أن يكتب هيكل فى الوفد، بل كانت كل قيادات ولجان
الوفد فى المحافظات وبالذات فى بورسعيد والإسكندرية والغربية وأسوان والبحيرة
والجيزة، ومن الذين قادوا هذه المعارضة على سلامة القطب الوفدى الكبير وسكرتير عام
مساعد الحزب ورئيس اللجنة العامة فى محافظة الجيزة.
واقتنع فؤاد باشا
بوجهة نظرهم وتناسى حواراته الطويلة مع الأستاذ هيكل وإبراهيم شكرى وهو فى معتقل
الرئيس السادات إلى أن أفرج عنهم الرئيس حسنى مبارك ف بداية حكمه.
كلفنى الباشا سراج
الدين بالإعتذار للأستاذ هيكل، ولكن الأستاذ قال لى: تعرف... كنت أتوقع اعتذار
الوفد عن عدم النشر.
وجد عباس
الطرابيلى نفسه فى مواجهة سؤال: فهل كان رد الأستاذ نابعا من مصادر معلوماته أم
أنه كان يتوقع ذلك لسابق معرفة بالمعارك القديمة بينه وبين الوفد؟
عاد جمال بدوى من
رحلته مع الرئيس مبارك، وما أن عرف بالقصة حتى ذهب للقاء الباشا فى قصره بجاردن
سيتى، ولما لم يقتنع بوجهة نظره، قدم استقالته من رئاسة تحرير الجريدة.
وضع هيكل هذه
القصة فى دفاتر النسيان، لم يتحدث عنها، ولم يسأله عنها أحدا، ولا أحد يدرى هل نشر
المقال الذى كان قد أعده للنشر فى الوفد... أم أن المقال دخل هو الآخر إلى ملفات
النسيان؟
****
من بين مفاتيح
هيكل التى لابد أن نستسلم لها تماما، أنه يكون واضحا عندما يريد، ويكون غامضا عندما
يشاء.
كان يضع المنهج،
ويعرف كيف يخرج عليه، يطوع كل شئ لما يريده هو.
اسمعه وهو يقول:
إحدى أزماتنا أن هناك رواة كثيرون، وروايات أكثر، لكن لا أحد يدقق، المشكلة أيضا
أن أحدا لا يسجل، ويكتفى الجميع بالاعتماد على الذاكرة، والنتيجة أنهم فى كل مرة
يتكلمون فيها عن واقعة أو رواية يضيفون جزئية صغيرة يحاولون بها تجميل صورة، أو
تشويه صورة، وهذا عمل إنسانى مفهوم، ولكن مع الوقت واستمرار الحذف والإضافة تظهر
الروايات عن الوقائع والأحداث فى صورة بعيدة عن الحقيقة، وليس لها علاقة بالواقع،
وتصدر الأحكام بناء عليها.
ويضيف هيكل: أنا
وقعت فى هذا الخطأ، فقد قمت بكتابة كتابين عن السويس، أحدهما اعتمدت فيه على
الذاكرة فكانت الأخطاء فيه فظيعة، والثانى اعتمدت والتزمت فيه بالوثائق.
لقد مارس الأستاذ
هيكل نوعا من الإرهاب يمكن أن نطلق عليه " الإرهاب بالوثائق"... وهو
الإرهاب الذى مكنه من أن يقول ما يريده دون أن يعترض طريقه أحد، رغم أننا لو
حاسبناه بنفس المنهج سنجد تناقضات كثيرة بين رواياته على امتداد عمره... وهى
التناقضات التى وقف أمامها الكثيرون عاجزين تماما، اعتقادا منهم أنهم حتما على
خطأ... لأن الأستاذ لا تزل قدمه أبدا.
لقد ازدادت
المناطق الرمادية فى حياة هيكل، لأنه كان كثيرا ما يعطى إشارة يمينا ثم يتجه إلى
اليسار.
فى مناسبات كثيرة
تحدث ليرسى مبدأ يمكن أن نلخصه بقوله هو وبكلماته هو: عودت نفسى أن أتجنب الرد على
الكثير مما يمكن أن ينشر عنى أو يذاع، ولم يكن ذلك عن بلادة حس أو عن مركبات غرور،
وإنما كان دافعى إليه أننى أعرف من واقع الحال وعن طبائع الظروف ما يغنينى وأكاد أقول
يرضينى.
ويضيف: إننى تمثلت
بنصيحة الفيلسوف القديم" قل كلمتك وامش"، وقد قلت كلمتى ومشيت، ولم أسمح
لنفسى أن أتلكا على باب أو أن اقف فى انتظار دقة جرس.
ويعترف: لقد هممت
فى بعض المرات أن أرد على القائلين وأن أصحح، لكنى فى معظم المرات نجحت فى أن
أتغلب على نوازعى – وهى إنسانية – وأن أتنازل عن حق الرد وهو شرعى أو على الأقل
ينبغى أن يكون كذلك.
لم يكن ما قاله
هيكل دقيقا أبدا، فعلى طول حياته وهو يرد على كل من يتحدثون عنها، لكنه كان يفعله
فى معظم الأحيان بترفع، فلا يرفع خصومه إليه، بل يرد عليهم من عل، وقد يكون من بين
ما فعله هيكل أيضا أنه كان يستخدم رجال جيشه فى الرد على خصومه، وأعتقد أن كثيرين
من الكتاب الذى التفوا حوله فى سنواته الأخيرة كانوا سلاحه الخفى.
لم يكن هيكل يغوص
بقدميه فى وحل المعارك، بل كان يترك ذلك لآخرين، محاولا إقناعنا أنه لا يتورط فى
رد لا يريده.
شئ آخر أعتقد أن
أحدا لا يتوقعه عن الأستاذ هيكل، فقد كان يرد على خصومه فى جلساته الخاصة بما
يهينهم ويجهز عليهم تماما... ثم يترك لمن يجالسوه أن ينقلوا عنه ما قاله... فيظل
ما قاله هذا يطارد خصومه دون أن تكون لهم القدرة على الرد عليه أو مواجهته به".