الأربعاء 29 مايو 2024

سعيد نوح يكتب: «أصابع حبيبتي»

فن17-10-2020 | 15:07

في رواية "أصابع حبيبتي" التي صدرت حديثًا للكاتب صاحب اللغة السلسة، أشرف عبد الشافي، نحن في حضرة جابر عبد العظيم، ذلك الطفل الذي جِيء به إلى القاهرة محمولًا على كتف أبيه من الجنوب، وبالتحديد محافظة المنيا، تلك التي سيتخذ منها اسمًا رابعًا يضيفه إلى اسمه المقطوع النسب، ليحط الرحال في 3 شارع مدكور بمحافظة الجيزة في مساءٍ ما من منتصف القرن الماضي. 


كان رأسه الصغير قد شُجَّ بمسمار خلال الرحلة التي قطعها مع أبيه بعد أن ترك أمه، وهو لا يعرف إن كانت قد ماتت أم أنها على قيد الحياة. وهو يتنقَّل بين حجور نساء القطار كان يبحث داخل جلابيبهن السوداء عن رائحة لما تُسمى الأم، تلك التي سيقول عنها الأب جملة وحيدة حين يسأله عنها: كانت عرجاء. 


إنها جملة لا تشي بشيء، إلَّا أنه سيظل طوال عمره الذي يربو على الستين يبكي كلما أغمض عينيه ليتذكرها. 


دخل إلى بيت عمته نعيمة، المريضة بالسل، التي هرب منها زوجها تاركًا إياها للمرض، ليتعرَّف عليها للمرة الأولى وتأسره بحنانها طوال وجودها، ويكتشف القنبلة الموجودة بجوار سريرها، ولم تكن سوى أنبوبة أوكسجين، وحين يخرج بها أبوه يقف أمام الست أم محمد التمرجية التي تراعي عمته، تلك المرأة الثانية التي شكلت حياته. منذ اللحظات الأولى تظهر طيبة العمة التي سوف يتخذها جابر أمه البديلة، ويعيش داخل عالمها المليء بالألم، والسيخ المحمي الذي يدب في ظهرها كل مساء جمعة، ويتعايش مع رائحة المطهرات.


كما يرى الصبر المفرط والطيبة البالغة، ويرى عديدًا من الشخصيات الحميمة، الزاخرة بالمشاعر الإنسانية الفياضة، التي يعطف بعضها على بعض، وتتماسك في محبة وتتكافل في الأفراح والأتراح. شخصيات بسيطة، لكنها أكثر عمقًا من كل الشخصيات المركبة، شخصيات هامشية لكنها أكثر حضورًا من كل الشخصيات المركزية. 


 تمر الأعوام، ليتخرج في الجامعة بصحبة صديقه الدائم محسن، تلك الشخصية التي تمثل الضمير المصري الأصيل. ويقترن جابر بمديحة ابنة أخت الست التمرجية بناءً على طلب عمته التي أرادت رد الجميل للست أم محمد. كانت مديحة قد أوقعت في حبها أخوين من عائلة معروفة بالبلطجة، وكاد الصغير فيهما أن يقتل الكبير. ومع معرفة جابر بكل ما تفعله مديحة لم يكن بإمكانه أن يرفض طلب عمته وأبيه، ولم يجد أمامه إلَّا الست أم هاشم والحسين؛ ليشتكي إليهما في خشوع. 


يتم تعيينه في إدارة التوثيق حيث يبدأ العمل، ورويدًا رويدًا يجد فيه النجاح الذي يُعَوِّضه عن خذلانه في كل حياته. تموت العمة، ويبكي أبوه لعدم وجود مدفن، حينئذ يتجه إلى محسن صديقه الذي يقف دائمًا معه. ويطلب صاحب البيت إخلاء الشقة، فلا يجد أمامه غير الدكتورة زينب بنت أستاذه ليطلب منها بقية ثمن الشقة. 


يكمل زواجه من مديحة، ويكتشف خبثها. وما إن تأتي له بالصغيرة حتى تتركه، وتتصنع الجنون، وتهرب من البيت، ثم تعود، وهو لا يتخذ موقفًا إزاء أفعالها، حتى إنه يتشمم ريح عشيقها ولا يصنع شيئًا، فهو يخشى المواجهة، بل يتهرب منها مُنشغلًا بنجاحه الكبير في عمله وتربيته للصغيرة التي تكبر يوما بعد يوم؛ ليجد نفسه في النهاية مركونًا على المعاش ومرفوضًا من ابنته وزوجته، ومطرودًا أيضًا، فيتجه إلى محسن - صديقه الدائم - الذي يجد له حجرة أستوديو فوق سطح أحد بيوت القاهرة، وهنا تبدأ الرواية. 


في لغة بسيطة وشفافة، تحمل داخلها أحلام العمر الضائع، يبدأ عبد الشافي لقاءه مع بطله المهزوم، بعد أن اكتشف تجرده من كل ما يملك وهو في الطريق ليلبي نداء زوجته وابنته للمرة الأخيرة، وهو يقدم ساقًا ويؤخر أخرى، وعلى وجهه علامات الأسى؛ ليلتقي بالست زينب، ابنة أستاذه وصاحب الأفضال عليه، وهي تطلب منه أن يستضيف أختها التي تريد السفر إلى بلدها تونس لتمكث عنده في بيته لمدة يوم، ويصطحبها في الصباح إلى مجمع التحرير لتتسلم تصريح السفر. ولمّا كانت الدكتورة زينب - هي وأبوها - أصحاب الأيدي الخيّرة الوحيدة على بطلنا، لا يجد أمامه مفرًّا من الإمساك بيد المرأة، التي بدت له حينذاك عجوزًا شمطاء ومجنونة، وفوق ذلك كله صَمَّاء، ويذهب بها إلى السطح حيث مكانه الجديد الذي رفض الإفصاح عنه للدكتورة. 


رجل مأزوم، وامرأة مجنونة تريد السفر لابنها في تونس. وخلال تذوقها لفنجان القهوة التي صنعها البطل، تتعرَّف عيناها على المكان، وتسقطان على لوحة للفنان المصري العالمي، ومن خلال اللوحة وشخصياتها الكثيرة تعود إليها نفسها، وروحها التي غابت عنها جراء خوفها على ابنها الوحيد الذي سقط من الدراجة،  ولم ترمِ به زوجة أبيه كما تدعي.


رويدًا رويدًا - وهي تتابع اللوحة - تتحول الكآبة التي كانت تمسك بملامحها، ليكتشف البطل أنثى جميلة لم يتخيل ذات يوم أن يجلس معها، يمر المساء الطويل ولا يغمض له جفن في وجود تلك المرأة، ويكتشف خلال همسه لها أنها تدعي الصمم. 


يلتقي صديق العمر محسن كي يُعَرِّفه بالرجل الذي يخلص الأوراق بالرشوة، وتجلس صامتة أمامه على المقهى، في حين يتحدث صديقه عن كيفية تعامل جابر معها. ولسوء الحظ يعود الرجل ويخبرهم أن الموظفة لم تأتِ، وعليهم أن يأتوا غدًا. عندئذ يجد جابر نفسه في مأزق، فالجمعة والسبت إجازة رسمية، لكنه وجدها فرصة للتعرف عن قرب بهذه المرأة التي تمثل له لُغزًا، فشعر براحة نفسية. 


يعود بها جابر لنتعرف أكثر على بطلة النص، امرأة في نهاية الأربعينات، أتت لتعيش في مصر بعد أن تزوج زوجها بامرأة أخرى، ولم يكتفِ بذلك، بل أخذ ابنها حبيبها الذي من أجله ظلت لمدة ربع قرن تعيش مع ذلك الرجل، الذي اكتشفت خيانته في شهر العسل، لكنها ظلت سنوات تحت جناحه من أجل ابنها الحبيب، الذي خذلها – هو الآخر - وأخذ حقيبته وذهب بإرادته إلى بيت زوجة الأب. ليس ذلك وحسب، بل راح يكتب في يومياته على الفيس بوك كلامًا جميلًا عن زوجة أبيه، وكأنه ليس ذلك الولد الذي من أجله فقط عاشت سنوات عمرها مع رجل خائن على كل المستويات. 


وكأنه حين يلتقي الإحباط والصدمة تحدث الأعاجيب. تتغير معالم الحجرة بعد أن ظهرت أنثى حقيقية داخلها، ولم لا؟ وهي الأنثى التي بوجودها فقط ولا شيء آخر نعيش الحياة. البطل الذي لم يتعرف على الجنس من قبل، وربما جاءت ابنته الوحيدة من إحدى اللقاءات القليلة بينه وبين زوجته، ها هو ذا يتعرف على لغة الجسد للمرة الأولى في الحياة. 


يعيش مع تلك الأنثى لحظات مختلفة ومدهشة، لم يختبرها قبلُ مع زوجته، ولم يكن له علاقات قبلُ مع نساء أخريات. 


إنها رواية اللذة في لغتها وتعبيرها وما تحمله من مشاعر فياضة. لكن- حسب تعبير البطل -  لا بُدَّ للمقدر أن يحدث، هو الذي عاش على هامش الحياة خائفًا من كل شيء، لا بُد َّللمقدر أن يحدث، فها هو ذا ينهار تحت تهديد أخت عشيقته، التي تعرفنا من خلالها على بعض المفردات باللهجة التونسية


ولأن البطل لم يتعود المواجهة، وخوفًا من كل شيء، يتركها تمضي، ليعيش من بعدها في رحاب أولياء الله. 


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020