الإثنين 25 نوفمبر 2024

فن

"مرحبا بك في عالم الفضاء السيبراني".. من كتاب السيبراني.. أضغط هنا لـ"أكرم القصاص"

  • 17-10-2020 | 17:21

طباعة

تنشر "الهلال اليوم" فصلًا من كتاب "السيبراني.. أضغط هنا" للكاتب أكرم القصاص، الصادر عن كتاب الهلال، وجاء الفصل بعنوان "مرحبا بك في عالم الفضاء السيبراني":

أنت مش أنت على «فيس بوك».. 

محترفون وهواة وأقنعة

هناك شكوك واسعة في أن يكون هناك من يمكنه النجاة من هذا القصف اليومي واللحظي الذي يزحم العالم، فلا وقت لدى كثيرين ليُجروا تجارب ويستعملوا أدوات ومفاتيح لاختبار كل ما يتدفق أمامهم من مواد.. وتظل دعاوى البحث والأخبار مجرد شعارات، لا تهم سوى هؤلاء الباحثين عن موضوعية، وغالبًا ما يكون هؤلاء قليلي العدد، وربما غير مؤثرين وسط زحام وضجيج لا ينقطع ونجوم يولدون كل لحظة بخطط أو بمصادفات، ونجوم يختفون ليظهر غيرهم بنفس السرعة ضمن قوانين تبدو متداخلة ومعقدة، لكن هناك بالطبع محترفون يمكنهم تضخيم شهرة فلان أو تقديم النصيحة لعلّان، لديهم مفاتيح التعامل مع «السوشيال ميديا» بالتسويق والانتشار، بصرف النظر عما يسوقونه من سلع أو أشخاص.

مجتمع «السوشيال ميديا» يحمل كل صفات المجتمع الطبيعي بتنوعاته وأشخاصه، هناك الطيب والشرير، والهادئ والصاخب، والعارف والجاهل، والمدعي والحقيقي، والشريف والنصاب، والمتعجرف والعنصري والمعتدل، والمسالم والشرير.. وهؤلاء لا يمكن اكتشافهم من أول نظرة، في عالم الأقنعة، هناك جبناء يتحدثون عن الشجاعة، ومتوحشون يتحدثون عن الطيبة.. مجرمون ولصوص ونصابون يصعب اكتشافهم من شكل «الآفاتار»، صورة البروفايل على تويتر وفيس بوك.

هناك «الزياطون» وهو مصطلح قديم لكنه شاع في عالم «فيس بوك»، وهؤلاء الزياطون هم من يشكلون الأغلبية في مجتمع «فيس بوك»، ينفعلون ويبالغون، يؤيدون الرأي ونقيضه، يصدقون الشائعات ويشتمونها، يمارسون النميمة ويلعنونها، ينضمون لحملات خيرية أو حملات انتقام وشماتة وشتائم وحزن وفرح وهيصة.. هؤلاء هم جمهور الفيس بوك والتواصل، وهم من يصنعون الضجة واللايكات و«الدسلايكات» والتعليقات.. متناقضون أحيانًا مع بعضهم ومع أنفسهم، وهذا الجمهور هو ما يشكل «الرأي العام» فيما يتعلق بعالم التواصل، وهو رأي عام معقد، ولا يشكل مزيجًا متجانسًا، لكنه يعكس المجتمع في أكثر صوره عشوائية.

من بين هؤلاء حسابات وأسماء معلنة، وأخرى ترتدي قناعًا باسم مستعار أو صورة أخرى أو شخصية أخرى.. مفارقة أن هؤلاء هم من يمثلون الرقم الضخم للمشاهدة والتفاعل، وهي أرقام تتحول إلى رؤوس أموال لأصحاب المواقع ومنصات التواصل، لا يكسبون شيئًا إذا استثنينا من يعمل بأجر، لكنهم يتحولون إلى ملايين ومليارات في خزائن المواقع والمنصات .

اللي يروح ومايرجعش

في أفلام مصاصي الدماء والمستذئبين، يتحول الشخص الطبيعي إلى مصاص دماء أو مستذئب بعضّة أو قُبلة أو عدوى ما، أما الشخص العادي فهو قد يتحول إلى واحد من هؤلاء التواصليين بعد فترة من ارتياد عالم فيس بوك وتويتر أو باقى الطاقم المعروف.. هناك أشخاص على طبيعتهم، لكن لا أحد يمكنه أن يتأكد من ذلك، وأنت في هذا العالم الافتراضي، لا تضمن ما تحصل عليه أو تتأثر به أو تؤثر فيه، البعض يستعير صورًا وكلمات وبوستات قد تتناقض مع شخصيته، أو يكتب عكس ما يعتقد لمجرد أن يسير في زحام يجذب له اللايكات والمشاركات.

وليس كل هؤلاء كذلك، لكن الظاهر في عالم فيس بوك وأدوات التواصل أن من يصنع ضجيجًا أعلى يصبح أكثر شهرة، بصرف النظر عما يقدمه، وإذا أصبح الواحد مشهورًا فقد امتلك سلطة التأثير في آخرين، ودائمًا في مقاعد الجمهور تابعون وجمهور يفضل الشهرة على العمق.. حيث  نجم الكرة والسينما أشهر من فيلسوف أو روائي أو كاتب، وهي طبيعة تفاعل الجمهور مع الأكثر شهرة وليس الأكثر عمقا. 

نحن نريد أن نعرف شكل المستقبل القريب أو البعيد، وهو أمر يمكن للخيال أن يتصوره، لكن الحقيقة أننا في الحاضر لانزال غير قادرين على اللحاق بلحظة توقف أو تأمل، الحاضر يسبقنا ويقفز كل لحظة بينما نتصور أننا نلحقه.. نحن جزء من مجتمع محلي وإقليمي وعالمي يفرض قواعده وقوانينه علينا، ويحمل لنا كل يوم فكرة أو خبرًا، حقيقة أو شائعة، لا نتوقف عندها لنبحث عن مستقبلنا، لأن هذا المستقبل يبدو أسرع، والحاضر لا يمنح فرصة لمعرفة ما إذا كان هذا هو الطريق الذي يجب علينا أن نسلكه أم أننا رحنا في «سكة اللي يروح ومايرجعش».

عالجت أفلام السينما والروايات قصصا عن الآلة التي تتفوق على الإنسان وتهزمه وتستعبده، وربما يكون هذا اليوم قريبًا لكنه بشكل مختلف، فالعالم الشبكي يضخ أفكارًا وخيالات تعيد تشكيل الوعي، وتجرف كثيرين منا في طريقها فيما يبدون متفرجين، وبينما يظن الواحد منهم أنه يتحكم في عالمه بينما هذا العالم يقوده ويعيد تشكيله ويفرض عليه ما يشتريه وما يقرأه أو ينشغل به سواء أكان حقيقيًّا أم افتراضيًّا.

أنت في عالم الإنترنت، سباح أو غارق، أو متعلق بقشة، باحث عن شهرة أو عن تسلية، فاعل ومفعول، متفرج أو تائه، في مغارات الغياهب، فرد بين أفراد وفرد بين مجاميع، تجمعات مصالح، أنهار لمعلومات حقيقية ومزيفة، وأشخاص طبيعيون ومزيفون، وبرك ومستنقعات.

داخل هذا العالم وقّعت على تنازل عن روحك، مثلما فعل فاوست للشيطان، ومادمت قد دخلت فأنت واحد من هؤلاء أو بعضهم.. سوف ترى وتقرأ وتسمع وتتحدث وتحكي وتتفرج، على حكماء وتافهين، عمقاء وسطحيين، خبراء في السياسة والاستراتيجية، وبلهاء لا يفكون الخط،  خبراء في الحروب والطبيخ، مع حكماء في الكرة ونط الحبل، والوصفات السحرية للشباب والعلاج والكحة، أطباء بلا طب وخبراء بلا خبرة، وقليل من الحكمة وسط أكوام من القش.

الأنا تتفوق على أي شيء، البعض يتحدث في آخر زاده، يقدم نظريات وأفكارًا وأوراقًا وتواريخ منقولة أو مكررة، أنت في عالم الضجيج الاجتماعي، تجد «قرداتيًا»، وقد أصبح نجمًا يكتب تاريخه من جديد ليتحول من خادم في دولاب إلى زعيم صاحب تاريخ في المعارضة غير المرئية.. عضو الشلة سيقدم نفسه على أنه مستقل.. تصعب التفرقة بين الثوري والإصلاحي، وبين الجاد والهازل، والعميق والسطحي، الكل متساوون تمامًا، أو هكذا يرى كل واحد نفسه، لا قداسة تحت المقصلة، ومادمت ارتضيت أن تكون في هذا العالم فلن تمنع معلقًا من أن يلقي شتائمه على كاتب أو معلق، ومهما كنت عميقًا فلن تمنع سطحيًّا من ممارسة ذاته المتضخمة.

هنا نتحدث بصوت عالٍ، في محاولة لرسم هذا العالم، وربما فك بعض طلاسمه، فهو عالم حديث نوعًا ما، وإن كان قديمًا، تطور لسنوات وعقود من المعارف، وخلفه ملايين من البشر يبثون ويكتبون ويتحدثون ويتراقصون ويحزنون ويفرحون، وكل هذا علنًا أو من وراء قناع.

شبكة عنكبوتية، لانهائية تربط البشر بخيوط غير مرئية، بالرغم من شعورهم أنهم يمكنهم الاستغناء عنها في أي وقت تمامًا، مثل المدمن الذي لا يعترف بأنه دخل مرحلة الإدمان، ويعلن دائمًا أنه قادر على ترك الكيف وقتما شاء.. تعرف شعورك عند انقطاع أو بطء الإنترنت والواي فاي، أنت في عصر غيّر سلوكيات كثيرة، ومن زمن الحكايات والأساطير عن زمن التواصل المباشر والزيارات والكلام واللقاءات، إلى حالة ينشغل فيها كل طرف بنفسه وعالمه الذي أصبح أضيق وأكثر اتساعًا في نفس الوقت.. ما بعد الثورة الصناعية و الموجة الثالثة حتى الحنين يمارسه أون لاين.. مرحبا بك في عالم عنكبوتي يتغير كل لحظة.

 

أنت مش أنت على «فيس بوك»

فى عالم «فيس بوك» وتويتر والماسنجر وإنستجرام ويوتيوب وتليجرام، أو أيٍّ من أدوات التواصل الاجتماعي «سوشيال ميديا»، هناك كثيرون يدخلون بأسمائهم وشخوصهم وصورهم، وأعداد كبيرة يدخلون إلى هذا العالم بأسماء وصور مستعارة، ربما خوفًا من الإعلان عن حقيقتهم، أو خجلاً، أو رغبة في التحرر من المباشرة، أو لأهداف أخرى، منها متابعة الآخرين أو المشاركة بعمل تجاري أو سياسي وما يسمى اللجان الإلكترونية.

وترصد تقارير مواقع التواصل وجود أعداد متزايدة من الحسابات الوهمية، لصالح شركات تسويق أو حملات سياسية، وهناك أيضًا مشاهير يمتلك الواحد منهم بعض الحسابات بأسماء أخرى لزوم متابعة الآخرين من خلال عين غير مرئية.

ويتعامل المستخدم مع مئات آلاف من البشر المتنوعين في كل شيء، يرى صورًا ويقرأ كلامًا بعضه حكم وبعضه شتيمة، ونقاشات أو مواد ثقافية وتجارية، ويجد نفسه منضمًّا بالاختيار أو الإجبار لمجموعات «Groups» إنسانية أو سياسية، طبية أو إعلانية، تجارية أو لتربية البط أو دود القز أو صناعة المربى وإعداد الوجبات، أو مجموعات للتسلية والسخرية والتعبير عن الهوايات، يمكن أن تجد مجموعات لهواة الكرش، أو لراغبي الرشاقة، وبعضها جروبات مفتوحة وأخرى مغلقة أكثرها للكلام وأقلها للنقاش، وبعض الجروبات المغلقة قد تدخل ضمن الرغبات غير الخاصة أو غير المشروعة، مثل تبادل الجنس أو تجارة الأعضاء أو الآثار، أو توظيف الأموال.

كل هذا يجعل عالم فيس بوك وإخوته من أدوات التواصل بالفعل عالما متشابكًا ومعقدًا، بالرغم مما قد يبدو من سطحه كعالم هادئ، يتيح لساكنيه الاستمتاع بالأخبار والمعلومات والصور والفيديوهات.

خلف هذا العالم المتنوع آلاف الأشخاص، لكل منهم هدف، وربما يمثل جهاز أمن، أو معلومات، أو مطربًا أو نجمًا سينمائيًّا، أو شركة تجارة إلكترونية، أو مركز أبحاث، أو حتى ممثل لإحدى شركات التقنيات، أو ربما هاكر يتربص بالمستخدم الساذج، ليسرق حسابه.. ذكور بأسماء إناث، وإناث بأسماء ذكور، ومع هؤلاء شعب فيس بوك أغلبية الناس المواطنين المتفرجين أو الراغبين في الإعلان عن أنفسهم.. وكثيرًا ما يحدث تبادل أدوار وانتقالات من موقع لآخر ومن الجمهور إلى اللاعبين ممثلي الجهات والأفراد.

هناك شخصيات حقيقية، أسماء معروفة لسياسيين وإعلاميين وفنانين ومهنيين، معلمين، أطباء، مهندسين، كومبارس، نجارين، أصحاب شركات إلى آخره.. وبجانبهم أسماء مستعارة، ومخفية لبعض هؤلاء أو لغيرهم.

ويُبدي بعض الأشخاص الدهشة لأنهم يجدون أصدقاءهم على مواقع التواصل غيرهم في الواقع، يكتبون آراء على عكس قناعاتهم، أو يَبدون أكثر شجاعة أو تحفظا من طبيعتهم في الواقع، ومع أن خيار الاسم المستعار يتيح للبعض نوعا من التحرر على العكس من طبيعتهم المتحفظة، فإن التحول قد يصيب البعض ويدفعهم إلى تغيير آرائهم بحثا عن تريند أو شهرة أو رضا فريق هنا أو هناك، وأحيانًا، لا يعني تعبير الشخص عن رأسه على موقعه أو صفحته أنه مقتنع تماما بهذا الرأي، فهناك جمهور افتراضي يميل لرأي أو يرفض رأيًا، بناء على عاطفة أو رغبة في تصفيق.

لكن الأكثر لفتًا للنظر، هو ازدواجية الشخصية، وظهورها على مواقع التواصل بشكل يختلف عن طبيعتها في الواقع.. تروي الصحفية هيام هداية في مجلة صباح الخير  2 إبريل 2014 في موضوع كتبته بالمجلة، قصة فتاة التقت بها في مؤتمر استعارت منها جهازها بعد نفاد الشحن، ولما أعادت فتحه عرفت رغمًا عنها أن الفتاة الطيبة الرقيقة مشتركة في مجموعات سادية، وأنها عنيفة وأنها لها حساب باسم مستعار «القاتلة»، باللغة الإنجليزية، و تعاني إحساسا بالعزلة والكراهية. وهناك حالة فتاة طلبت الانفصال عن خطيبها الطيب بعد أن اكتشفت أنه مراهق يعيش ازدواجية ولديه خمس صفحات على «فيس بوك»، وكل صفحة باسم وشخصية بأسماء «الدنجوان» و «كازانوفا» و»الداعية»، وأنه يمارس المجون في بعضها، والدعوة والأخلاق في البعض الآخر.

زوجة أخرى طلبت الطلاق بعد أن اكتشفت أن زوجها له ميول أنثوية، يهوى فتح صفحات بأسماء فتيات، وأنه يتحدث مع البنات والذكور كفتاة، واعترف لها أنه مريض وفشلت في علاجه.. بالطبع فإن أطباء التحليل النفسي لديهم تفسيرات للشخصية المزدوجة، التي تعاني  فصاما، حيث يعيش الرجل أو المرأة بشخصيتين، لكن أحيانا ما يبدو عالم التواصل الاجتماعى قادرًا على إظهار هذه الازدواجية، أو أنها تنتشر بأكثر مما نراها في الواقع.

وحسب تقارير مواقع فيس بوك وتويتر، فإن منح المستخدمين خاصية إخفاء الأسماء، أو الدخول بأسماء مستعارة، أو حتى اتخاذ اسم لأحد مشاهير السياسة والفن والنجوم، من شأنه أن يمنح البعض قدرة على الاختفاء، وهناك عشرات الحسابات الساخرة أو الجادة بأسماء سياسيين وزعماء ورؤساء، مثل باراك أوباما الرئيس الأمريكي السابق، أو عمرو موسى وحمدي قنديل وليلى علوى وعادل إمام، وغيرهم.. ويضطر بعض هؤلاء لإعلان تبرؤهم من هذه الحسابات عندما تنشر أخبارًا أو آراء تسبب أزمات.. والبعض يضع صورة إسماعيل ياسين أو الشاويش عطية.. وقد ابتكرت مواقع التواصل مايسمى «التعريف أو الفريفكيشن» لتأكيد نسبة الحساب للشخص المشهور أو المعروف، لتمييزه عن الحسابات المستعارة، لكن هذا لم يوقف الحسابات المجهولة ولا إقدام المشاهير وأنصاف النجوم على إنشاء حسابات بأسماء مستعارة لزوم المراقبة أو المتابعة بدون ضجة، وأيضًا غالبًا ما يسند النجم إدارة حسابه لأدمن أو يسمح بإنشاء لجان إلكترونية تدافع عنه وتقوم بدور الدعاية لأعماله وصوره؛ لإبقائه موجودًا على مواقع التواصل، وللدفاع عنه وخوض معاركه إذا لزم الأمر.

وعليه، فإن المستخدم العادي على مواقع التواصل قد يصعب عليه التفرقة بين الأصدقاء في الواقع والفريندز الافتراضيين الذين لا تعبر عنهم صورهم ولا الانطباعات عنهم؛ لأنهم إما أشخاص آخرون أو مزدوجون أو عابرو سبيل أو مغامرون وصيادون.. وبالطبع هناك أعداد كبيرة هم أنفسهم بأشخاصهم ولحمهم ودمهم.

 

خدعة الانطباع الأول «البروفايل»

حتى هؤلاء الذين يظهرون بشخصياتهم، منهم الطبيعي ومنهم الذي يخفي شخصيته الحقيقية، خلف صورة أخرى.. فالطيب والشرير والجاد والساخر، هي انطباعات يمكن أن يلتقطها المستخدم من الصورة التي يراها أمامه في البروفايل، حيث يرى شخصًا مبتسمًا، أو طيبًا، حالمًا، جادًّا، ومن خلال هذه التأثيرات يبني المتلقي تصوراته عن الشخص الذي أمامه في «البروفايل».

أنت تنظر إلى الشخص من صورته، خاصة لو لم تكن تعرفه، هذه الصورة للرجل الهادئ الطيب ربما لا تكون هي المعبر عن الشخصية الحقيقية للشخص على الشاشات، وربما يكون الشخص الذي يبدو حادًّا ومشاغبًا هو في الواقع خجولاً ومنطويًا، والشخص الوقور الطيب، قد يكون من متحرشي الإنبوكس الباحثين عن فريسة، وقد يكون صاحب صورة البروفايل الجاد الرسمي من مدمني المواقع الإباحية، أو محترفي توجيه الشتائم بحساب مستعار، وبالتالى قد تتنافى الصورة الذهنية التي تتشكل لدى الشخص عن الآخرين، في حالات كثيرة، مع صورته الحقيقية.

قد تكون الصورة لرياضي رشيق أو فتاة جميلة أو سيدة جذابة أو شيخ، مجرد تعبير افتراضي مصنوع أو «فوتوشوب» أو فوتوسيشن، وأحيانًا ينشر البعض صورة له قبل عشر سنوات، وربما يفضل صورة نجم أو نجمة عالمية لكنها غير مشهورة.

كل هذا يقدم شخصًا آخر للمستخدمين، وما لم يكن الشخص صديقًا في الواقع، يصعب التحقق منه؛ حيث «الفريند» ليس هو الصديق، فهو مجرد عابر، قد تكبر العلاقة معه، أو تتوقف عند حدود الإعجاب والشير واللايك.

وفى كثير من الأحيان تبين الممارسة العملية وجود تناقض بين الشخص الظاهر والصورة التي يصدرها عن نفسه، وبين الحقيقة.. ناهيك عن أن أحدًا لايمكنه أن يعرف كل أصدقائه على الصفحة، وبالكاد يدور في مائة أو بالكثير خمسمائة اسم، والباقون هم «فريندز» افتراضيون غير معروفين في أماكن وربما دول أخرى.

وهؤلاء «الفريندز» بينهم ناشطون يكتبون وينشرون بوستات يوميًّا، يعلنون فيها آراءهم فيما يجري، أو يشيّرون (يشاركون) ما ينشره غيرهم، أو يشاركون في حملات اجتماعية أو سياسية، وأعداد أخرى خاملة تكتفى بالمراقبة والمشاهدة الصامتة، وحتى هؤلاء منهم من يتلصص أو يمارس الفضول أو يعمل لجهة ما أو شركة.

لقد غيرنا عالم التواصل، جعل البعض منا أكثر اندماجًا أو أكثر عزلة، يفضل الاتصال افتراضيًّا، ينفعل ويتحدد له ما ينشغل به، الأغلبية مجرد واحد في بحر يجرفه الموج في طريقه.. كل هذا يجعل مقولة «أنت مش أنت على فيس بوك»، حقيقة في عالم التواصل كله؛ حيث لا يمكن لأحد الزعم بأنه يعرف كل هؤلاء، فضلاً عن أن كثيرين يظهرون على العكس من طبيعتهم، أو باختلافات واسعة عما يمثلونه في الواقع.

أنت واحد تاني

مجتمع التواصل الاجتماعى هو انعكاس للمجتمع بكل تناقضاته، ويزدحم بالأخيار والأشرار والنصابين، ممن ينصبون شباكهم، ويلقون الطُّعم لمداعبة طمع البعض وسذاجة البعض الآخر.. لكن الأهم في كل هذا أنه مثل المجتمع العادي؛ حيث يظهر البعض على طبيعته، ويتصرف بفطرته ومن دون تلوين، وهناك من يرتدي وجهًا آخر لشخصية مختلفة، ويحاول البعض أن يتجمل، فإذا به يمارس الكذب.

وهناك من يقدمون أنفسهم في صورة يختارونها بعناية ويرسمونها، لتكون شخصًا نموذجيًّا، حكيمًا، أو عميقًا، خبيرًا أو عارفًا، بينما تختلف حقيقتهم عن الصورة التي يصدرونها في الصفحات العلنية.

وتستقبل مراكز الطب النفسي والاجتماعي شخصيات معروفة تعاني إدمان المواقع الإباحية، أو تختفي خلف أسماء مستعارة، لتمارس الشتائم أو التحرش أو الأقوال الفاحشة؛ بما يجعل الحقيقة تختلف عن الصورة المصدرة في «فيس بوك» أو «تويتر».. وترصد أبحاث مراكز التحليل النفسي الحديث الازدواجية الافتراضية لبعض رواد مواقع التواصل، بين الخطاب والسلوك؛ حيث يصدر الشخص عن نفسه نموذجًا مثاليًّا، بينما هو في الواقع على العكس من ذلك.

هناك بعض السيدات على «فيس بوك» يشكون من تعرضهن للتحرش اللفظي، من قِبل شخصيات لا تظهر في الواقع بهذا الشكل من الفحش، والعكس أيضًا صحيح، مع الأخذ في الاعتبار أن نسبة ممن يتوسعون في الشكوى من الهجمات غير المرغوبة يفعلن ذلك لتسويق وجودهن كمكافحات ضد التطفل، وهو مولد يصعب فيه التفرقة بين الزبون والبائع.

هناك أشخاص ينجحون في تلميع أنفسهم وترويج صورتهم وتسويقها، على عكس حقيقتهم، في عصر يختلط فيه الحابل بالنابل، وأي شخص يمكن أن يروج لنفسه من خلال عملية تسويق تحول الوهم إلى حقيقة، والمدعي إلى خبير، كل هذا بالتكرار والإلحاح، بما يصنع هالة حول الشخص تجد من يصدقها.

بينما يُخفي بعض هؤلاء جهلاً وسطحية، وكثيرًا ما يتورطون في تحليلات تستند لأخبار وتقارير مزيفة، وبعض مشاهير الشبكة من سياسيين أو محللين قد يقعون فريسة الاستناد إلى أخباروتقارير مضروبة، ويبنون وجهات نظر متكاملة على معلومات ناقصة أو مزيفة؛ وذلك لمساندة وجهة نظرهم، و يراهنون على وجود معجبين يضعون اللايكات على بوستات لم يقرأوها لمجرد أن كاتبها وناشرها مشهور.

وهناك من يبني وجهات نظره على وجهات نظر لآخرين، فيصبح انعكاسًا لهم، بل ويمكن التقاط بعض من يتخذون مواقفهم تبعًا لآخرين، مجاملة أو تبعية أو إحراجًا، خاصة في الآراء السياسية، التي تمثل المجال الأعمق للتبعية والازدواجية.

فالأشخاص يختلفون في الحقيقة عن صورتهم الافتراضية، وبعضهم يحمل أكثر من شخصية تتناقض مع بعضها البعض، بما يثبت نظرية «أنت مش أنت على فيس بوك».

 «الفريند» ليس هو «الصديق»

هنيت فلان؟ الإجابة: آه على «فيس بوك».. طيب عزيت فلان؟ آه على صفحته على «فيس بوك» أو بـ«الواتس آب»، الأمر أصبح طبيعيًّا وعاديًّا جدًّا، حيث يصحو المواطن العالمي ليتفقد صفحاته على «فيس بوك» و»تويتر»، ويفحص الـ»واتس آب» ليقرأ الرسائل التي تلقاها، ويبدأ في أداء الواجب الاجتماعي.. علامة «لايك، قلب، ضحكة» للتهاني، وعلامة «الدمعة» على بوستات الوفيات.. الأغلبية تكتفي بالعلامات «لايكات، دموع، ضحكات، اندهاشات»، والبعض يزيد ويكتب عزاء أو تهنئة، وهي أمور تتم معًا، ويوميًّا عدد من الأحداث الفرحة.. نجاح، زواج... وعلى المواطن أن يتفاعل مجاملة أو مشاركة، حتى يرد له الفريندز «لايكاته ودموعه وقلوبه واندهاشاته.»

الفرق ضخم بين حجم التفاعل على بوست فرح أو وفاة، كتبه بعضهم على صفحة «فيس بوك» أو في «واتس آب»، وحجم التفاعلات المباشرة بالاتصال أو الزيارة، هناك فرق بين هؤلاء الذين قدموا التعازي على «فيس بوك» ومن كلفوا أنفسهم تقديم العزاء تليفونيًّا، ومن ذهبوا لتأدية العزاء أو التهنئة مباشرة.. الفرق كبير، وهو نفسه الفرق بين «الصديق» ومن يمكن أن نسميه «فريند»، الصديق هو الشخص الطبيعي الذي يرتبط بعلاقات مباشرة.

بالطبع هناك فرق بين «الفريند» والصديق.. «الفريند»إنسان افتراضي لا تربطه بالآخر غير الصفحات والبوستات واللايكات، بينما الصديق هو كائن من لحم ودم، تعرفه ويعرفك، زميل دراسة أو عمل أو شارع، صديق العيش والملح والأيام والليالي، تختلفان وتتفقان في الشأن العام والخاص، تتفقان في نوعية الكتب والأفلام والفنون والموسيقى.

من هنا يتضح أن الفرق بين الفريند والصديق، هو نفس الفرق بين الشعور الحقيقي باللقاء والمناقشات وممارسة شؤون الحياة على المقاهي وفي الشوارع، وعليه تختلف المجاملات والعزاءات والتهاني، فالصديق لا يكتفي بلايك أو الدمعة الافتراضية، بل يتحرك ليشارك في الفرح أو الحزن، أو يتصل تليفونيًّا ليسمع الصوت ويصافح الوجه.

لكن في ظل التطورات المتسارعة والانشغالات المتتابعة، تتداخل العلاقات الحقيقية بالافتراضية، وتسود التهاني الجاهزة والمحفوظة والمجمدة.. صور جاهزة لرمضان وعيد الميلاد وشم النسيم وعيد الفطر ومولد النبي.. في البدء حلت التليفونات مكان الزيارات، والرسائل القصيرة محل الاتصالات، ثم الصور الجاهزة والفيديوهات المتحركة، ويتسع نشاط الإنسان الجالس ليمارس حياته الاجتماعية من خلف شاشته وحيدًا مع وحيدين، وحتى في السياسة، أصبحت البوستات مكان النشاط السياسي، وإعلان الموقف يتم بالبوست، مع صور وتعبيرات وكوميكسات ساخرة أو حزينة.

 صحيح أن مواقع التواصل هي بالفعل أدوات اتصال وإعلام توفر توصيل الأفكار، وتفتح باب المناقشات، لكنها في الأصل عوامل مساعدة، والأصل هو الممارسة السياسية والمؤتمرات والمساعي والاستطلاعات الحية، وليس مجرد الاكتفاء باللايكات أو الريتويت.. خلال سبع سنوات تطورت المشاركة السياسية مثلما تطورت المشاركة الاجتماعية، أصبحت أكثر افتراضية، استُبدل بالخطبة والبيان، البوست، وبالمؤتمر، اللايك والريتويت.

وحتى هؤلاء الذين كنا نشاركهم المناقشات والحوارات حول السياسة والمستقبل، أصبحنا نتعامل معهم كما نتعامل مع العزاءات والتهاني، «لايك أو شير»، وأقصى أماني السياسي الافتراضي أن يحصل بوسته على «شيرات ولايكات وقلوب حمراء»، وتحول بعض الأصدقاء إلى مجرد فريند، ومن خلال كل هؤلاء الأفراد المعزولين كلٌّ في مكانه، تتكون المواقف وتنتهي، ويشعر البعض بأنه أدى ما عليه تمامًا، وحتى هؤلاء الذين ليس لهم في السياسة و«دوشتها»، أصبحوا سياسيين «افتراضيين»، وأحيانًا زعماء، يملك الواحد منهم آلاف الفريندز ومئات الآلاف من الفلورز، يمارسون حالة «كأنها» سياسة، تكفي أحيانا لإرضاء الغرور، حيث تتقلص نسبة المشاركة الحقيقية، وتنتشر نسبة الحالة «كأنه».

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة