من كتاب ( بشتك )
الموجود بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب تعلم الشيخ محمد رفعت، وحفظ
القرآن الكريم ووفاءا للمكان ظل يقرأ به لثلاثين سنة صباح كل يوم جمعه وتحت قدميه
عشرات من المشاهير يحجزون أماكنهم قربا منه من عبد الوهاب لكامل الشناوي وبديع
خيري ونجيب الريحاني وفكري أباظة وغيرهم , ولما حبس صوته لسبع سنوات اكتتب الكاتب
فكري أباظة لجمع النقود وعلاجه فرفض بعزة نفس , وإذا كانت معظم تسجيلاته حفظها
معجبوه وعلى رأسهم زكريا باشا مهران فإن من جمعها وحفظها من الضياع هو مهندس صوت
مسيحي كان بالإذاعة إنه جورج يوسف , هذا هو الشيخ محمد رفعت الذي اجتمع على حبه كل
المصريين والأجانب وكانت إذاعات لندن وبرلين تتنافس على جذب المستمعين العرب
بإذاعة تسجيلاته , وقد صار صوته علامة من علامات رمضان , وكان افتتح بصوته الإذاعة
المصرية في 31 مايو سنة 1934وكان قبل ذلك يرفض تسجيل القرآن حتى لا يذاع في موضع
لا يبجل فيه حتى أفتى العلماء بحل تسجيله , إنه سيد القراء وأشهرهم ورمز دولة
التلاوة المصرية وصوت السماء إلى أهل الأرض .
لم يكن للشيخ رفعت
تسجيلات كاملة للقرآن - كما حكت حفيدته هناء حسين رفعت - بل كانت متفرقة إما
بالمساجد أو في البيوت وجمعها معجبوه ثم استكمل والدها حسين المهمة سنة 1953وكان
الشيخ لا يغير عاداته ولا يخضع لإغراءات المال فقد منحه أهل بيت بضع قروش وكانت
أجرته تحسب بالجنيهات الذهبية , فوضعها في جيبه ولما جاؤا يعتذرون إليه ويطلبون
منحه الذهب رفض وقال إنه راض بما أخذ , ولرداءة بعض التسجيلات قام الشيخ أبو
العينين شعيشع باستكمال بعض الآيات لتشابه صوته مع صوت الشيخ رفعت , وللشيخ
بالإذاعة 40 تلاوة مدة كل منها 45 دقيقة و60 تلاوة مدة كل منها 30 دقيقة و80 تلاوة
مدة كل منها 15 دقيقة و100تلاوة مدة كل منها 10 دقائق و110 تلاوة مدة كل منها خمس
دقائق , فضلا عن عشرات الأسطوانات القديمة التي تحوي عشرات التلاوات وبحاجة لعملية
نقل وإنقاذ سريع لتظهر للنور ويكتمل تراث الشيخ .
ومما يذكر عن أسطورة
رفعت في زمانه أن عبد الوهاب اصطحب معه كامل الشناوي للاستماع لصوت رفعت بمسجد
فاضل باشا صباح يوم جمعه ومما تندر به الشناوي كعادته : ( هل نحن ذاهبين لصلاة
الفجر أم الجمعة ؟ ) ثم قال الشناوي بعدها : ( ما إن بدأ الشيخ يتلو بصوته حتى
شعرت أن كياني كله اهتز ولم أشعر بنفسي ) !
كان الشيخ رفعت ممن
تنبأوا للشيخ مصطفى إسماعيل بالتألق وقال ابنه عاطف : سألت والدي عن سر عظمة صوت
الشيخ رفعت فقال له ( إن استهلاله لا يباريه فيه أحد من القراء ) . وقال الشيخ
الشعراوي في وصف صوته : ( إنه جمع كل أصوات المقرئين في صوته ) . ووصفه الناقد
كمال النجمي بأنه :( أعظم من تغنى بالقرآن ), وقال فؤاد حلمي إن صوته قريب من طبقة
( الألتو ) الأوبرالية , وهذا ليس غريبا على الشيخ رفعت الذي وجدوا في بيته
ومكتبته أسطوانات مشاهير أهل الطرب والموسيقى من مصر والعالم وكان بيته بالبغالة
بالسيدة زينب مقصدا لكل مشاهير عصره وكانت شهرته تفوق شهرة أهل الطرب وجعل من
قراءة القرآن نجومية كما فعل أحمد ندا من قبل .
ولد هذا الصوت
العبقري في حي المغربلين بالدرب الأحمر بالقاهرة في 9 مايو سنة 1882 ورحل في 9
مايو أيضا من سنة 1950 ولقى ربه عن 68 عاما وكان أتم حفظ القرآن قبل العاشرة بكتاب
( بشتك ) الملحق بمسجد فاضل باشا وكف بصره وظل وفيا للمسجد الذي تربى فيه فلم
يغيره طيلة ثلاثين عاما , كما رفض تسجيل القرآن للإذاعات الأهلية وكان يقول : ( إن
قارئ القرآن لا يمكن أن يهان أو يدان ) ، ولكنه افتتح الإذاعة المصريثة بصوته : (
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) يوم 31 مايو سنة 1934 ثم تنافست إذاعات لندن وباريس
وبرلين على إذاعة تسجيلاته لجذب المستمعين العرب إليها , كان سريع البكاء وإذا قرأ
انهمرت دموعه والتقى على محبته الباشاوات والفقراء ولما حبس صوته لسبع سنوات بكى
ولزم بيته واختار بيع بيته وقطعة أرض للعلاج ولا يأخذ العشرين ألف جنيه التي جمعها
له فكري باشا أباظة لعلاجه ثم قرر وزير الأوقاف آنذاك الدسوقي باشا أباظة معاشا
شهريا بطلب من جموع القراء وعلى رأسهم أبو العينين شعيشع , كان يركب عربة الحنطور
التي تجرها الخيول على عادة قراء عصره , وأنجب ثلاثة أولاد هم ( محمد وأحمد وحسين
) وابنة واحدة هي ( بهية ) وترك 26 حفيدا والأهم أنه ترك لنا تراثا صوتيا لا نظير
له وأبرز صفاته الخشوع وتفسير كل حرف وآية وكان كمن يقرأ لنفسه , إنه علامة مميزة
لشهر رمضان وأحد رموز قوة مصر الناعمة في العالم كله وأحد عباقرة التلاوة الذين
خلدوا أنفسهم أو بالأحرى خلدهم القرآن الذي قرءوه وعظموه ونشروه بين الناس .