كُنتُ بصددِ إصلاحِ سيارتى القديمة بـ «ورشةِ الأسطى سليمان يرموك لميكانيكا السيارات» حيثُ أخبرنى أحدُ الهواةِ مثلى أن «سليمانَ يرموك» هذا أبرعُ ميكانيكىٍ فى إصلاحِ أعطالِ السياراتِ الكلاسيكيةِ القديمةِ بصفةٍ خاصةٍ..
- كانت الورشةُ فى منتهى الجمالِ : الحوائطُ كلُها من السيراميكِ الأبيضِ النظيفِ، والأرضياتُ من الإنترلوك الجيدِ، ومراوحُ بالسقفِ تعملُ بانتظامٍ، وإضاءةٌ كافيةٌ فى كلِ مكانٍ، وجميعُ العمالِ يرتدون العفريتةَ الزرقاءَ النظيفةَ، وسياراتٌ غاليةُ الثمنِ من ماركاتٍ نادرةٍ، سواءٌ كانت حديثةً أو قديمةً، تنتظرُ دورها فى الإصلاحِ..
- أما الأسطى سليمان يرموك نفسَه فكان رجلاً فى منتصفِ عمرِه، فى منتهى الأناقةِ: يرتدى قميصاً من الحريرِ وبنطالاً من الجينز الأزرقِ وينتعلُ حذاءً رياضياً فاخراً، كما تتدلى من طرفِ فمِهِ سيجارةٌ «مور» بنيةُ اللونِ رفيعةٌ للغايةِ وقد أشعلها بولاعةٍ «رونسون» ذهبيةٍ، كما يرنُ فى يدِه باستمرارٍ موبايل واضح أنه آخرُ صيحةٍ فى هذا المجالِ، تفوحُ منه رائحةُ برفان «سان لوران» الجميلةَ، تعلو وجهَهُ ابتسامةٌ ساحرةٌ، كما يغمضُ عينيه كلما تحدث، له شاربٌ منمقٌ بعنايةٍ .. لاتمتدُ يدُه إلى أعمالِ الإصلاحِ المتنوعةِ فى ورشتِه، سواءٌ أكانت فى السياراتِ الكلاسيكيةِ أو الحديثةِ، تاركاً الأمرَ لمجموعاتٍ مكونةٍ كلٍ منها من صبيةٍ صغارِ السنِ يترأسُهم أسطى متمرسٌ، حيث تتولى كلُ مجموعةٍ إصلاحَ سيارةٍ بعينِها، حسبَ توزيعِ الأسطى سليمان يرموك الذى يكتفى بالمرورِ على مجملِ الأعمالِ آمراً بحلِ قطعةٍ وإعادةِ تركيبِها على نحوٍ معينٍ أحياناً، ثم الجرىِ لقلبِ ورشتِهِ النظيفةَ الأنيقةَ ليجلسَ فى كشكٍ زجاجىٍ مكيفِ الهواءِ به كلُ وسائلِ الراحةِ والرفاهيةِ، وأنا وغيرى من أصحابِ السياراتِ الكلاسيكيةِ لايعنينا من هذا كلِه سوى النتيجةِ، وهى الضبطُ على نحوٍ مرضٍ.. فهذا النوعُ من السياراتِ من الصعبِ إصلاحِ أعطابِه، لكن لو حدث فستستمرُ السيارةُ فى أداءٍ جيدٍ لسنواتٍ..
- شاء حظى أن تكون المجموعةُ التى تتولى العملَ بسيارتى بها أحدُ الصبيةِ مصاباً بـ «متلازمة داون» تظهر على قسماتِ وجهِهِ بصورةٍ واضحةٍ ويعاملُهُ سليمان يرموك بعطفٍ بالغٍ، حيث أعطاه بقايا كوبِ الشاىِ الذى كان يشربُهُ وسطَ حسدِ باقى الصبيةِ على هذه المعاملةِ الخاصة ِ!
- كان الولدُ للحقِ فى منتهى الذكاءِ النسبى عمن هم مثلِه، ينفذُ ما يُطلبُ منه بمنتهى الدقةِ والتفانى، لكنه كان بطيئاً فى مجملِ أدائه بصورةٍ ملحوظةٍ..
- أما ريسُ المجموعةِ التى كانت تعملُ بسيارتى «الأسطى دبانه» فكان ضخمَ الجثةِ مفتولَ العضلاتِ صعبَ المراسِ حادَ النظراتِ خَشِنَ الردودِ، وقد كلف كلَ صبىٍ فى مجموعتِهِ بحلِ جزءٍ معطوبٍ من السيارةِ حسبما أوضحتُ بشكواى، حيث شرع صبى المتلازمةِ بحلِ العمةِ، والكربراتير وسليمان يرموك داخلَ كشكِهِ الزجاجى يدخنُ سجائرهُ المور ويرقبُ كلَ حركةٍ بورشتِه، ولأن صبى المتلازمةِ كان أبطأ فى حركتِه من غيرِه فقد نالَهُ قلمٌ ساخنٌ على قفاه من أسطى المجموعةِ دبانه أعقبهُ قَفْلُ كبودِ السيارةِ ثقيلِ الوزنِ مراتٍ عديدةٍ على نصفِ جسدِه المتدلى بفعلِ قوةِ الصفعةِ داخلَ حوضِ المحركِ، بعدها ظهر صبىُ المتلازمةِ والدمُ يسيلُ من رأسِهِ ووجهِهِ مُمْسِكاً المَفَك بيدِه فاغراً فاهُ دون بكاءٍ، وقد لوثتْ الدماءُ الغزيرةُ كلَ ملابٍسِه، حيث خرج سليمان يرموك من كشكِه الزجاجىِ ووقف على بابِه آمراً أسطى المجموعةِ دبانه بحسنِ معاملةِ صبىِ المتلازمةِ بنفسِ السمتِ الهادئ والسيجارةِ المور تتدلى من طرفِ فمِهِ والابتسامةِ الساحرةِ مع الشاربِ المنمقِ !
- بسببِ هدوءِ صوتِ سليمان يرموك لم يسمعْ أسطى المجموعةِ دبانه ما قالهُ - أو ربما سمعَ وتجاهلَ - حيث انهال ركلاً وصفعاً على صبى المتلازمةِ وسليمان يرموك مستمرٌ فى محاولةِ نهيِهِ عن ضربِ صبىِ المتلازمةِ من نفسِ موقعِهِ على بابِ كُشِكِه الزجاجىِ لم يغادرُهُ وبنفسِ الهدوءِ والسيجارةِ والشاربِ والابتسامةِ الساحرةِ !!
- كان صبىُ المتلازمةِ المسكينِ ما زال فاغراً فاهُ والمفكُ بيدِهِ لايبكى ولاحتى يحاولُ ملاقاةَ أو تفادى ما يتعرضُ له، حتى تدخلتُ دونَ وعىٍ منى لاعناً أبو اللى جاب دبانه على أبو اللى جاب سليمان يرموك نفسَهُ، ثم شرعتُ من فورى فى الاتصالِ بنجدةِ الطفلِ من هاتفى المحمول..
- عندما تبينَ سليمان يرموك محاولتى الاتصالَ بالشرطةِ - كما أعلنتُ على الملأ - خرج مذعوراً - لأولِ مرةٍ - من كشكِه الزجاجىِ محاولاً تهدئتى وإفهامى أن ريس المجموعةِ هو أسطى صبىِ المتلازمةِ ولابدَ أن يُعَلِمَهُ أصولَ الصنعةِ، ولاسبيلَ أمامَهُ إلا هذه الطريقةِ، لضعفِ مستوى ذكاءِ صبىِ المتلازمةِ، وعندما نال سليمان يرموك بدورِه وابلاً من شتائمى واصفاً إياهُ بالشخصِ الباردِ غيرِ المحترمِ، الذى لايصدُ ولايردُ عن صبيةِ ورشتِهِ الصغارِ المسئولين منهُ، وبدلاً من أن يغضبَ أو حتى يتظاهرَ بذلك وسط عماله أو يدافع عن نفسه بأى منطق حفظاً لماءِ وجهِهِ، إذ به تزدادُ ابتسامتُهُ ويُحْضِرُ لى بسرعةٍ كوبَ ماءٍ مُثْلَجٍ مُشَبَرٍ فى هذا القيظِ الشديدِ من ثلاجةٍ صغيرةٍ داخلَ كُشْكِه الزجاجىِ، وقد رفضتُ شُربَهُ رغمَ عطشى الشديدِ، حيث طلبتُ منهُ فى حزمٍ وبصوتٍ عالٍ إنهاءَ أعمالى بسرعةٍ لمغادرةِ هذا المكانِ الذى لايسعدُنى التواجدَ به..
كلُ هذا وسليمان يرموك على نفسِ حالتِه .. وكان فقط يختلسُ النظراتِ - وكذا دبانه - من آنٍ لآخرٍ ليدى وبها هاتفى المحمول، فقد بدا لى أنه -ودبانه - يخشيان صنفَ رجالِ الشرطةِ على نحوٍ خاصٍ !
- أشرف سليمان يرموك بنفسِه على إتمامِ الإصلاحاتِ بسيارتى - وكان هذا على ما يبدو أمراً نادرَ الحدوثِ - كمحاولةٍ منهُ لترضيتى - وأنا أرفضُ الجلوسَ على كرسىِ أحضرَه لى كما رفضتُ مجاراةَ أسطى المجموعةِ دبانه فى محاولته الساذجةِ التلطفِ مع صبىِ المتلازمةِ لإرضائى.. والولدُ المسكينُ يختلسُ النظراتِ إلىَّ من آنٍ لإخرٍ بنظراتٍ ناعسةٍ عاجزةٍ يعجزُ خيالى عن نسيانِها..
- عند تمامِ كافةِ الإصلاحاتِ وقيامِ سليمان يرموك بنفسِهِ بتجربةِ المُوتور سحب سيرُ مروحةِ التبريدِ البدائيةِ يد أسطى المجموعةِ دبانه، فأوقف سليمان يرموك المحركَ بسرعةٍ وأحضر منشاراً حاداً فى الحالِ، وقام بقطعِ السير، وإخراجِ يدِ دبانه حيث كانت أصابعُه قد فُرمت تحت ضغطِ السيرِ المشدودِ فى تجويفِهِ على بكرةِ المروحةِ..أما عن دبانه ضخمِ الجثةِ مفتولِ العضلاتِ صعبِ المراسِ حادِ النظراتِ خشنِ الردودِ فكان يعوى ككلبٍ ضالٍ عجرتُهُ سيارةٌ مسرعةٌ فى ليلةِ شتاءٍ قارصةِ البردِ..
- إثر ماحدث هدأت أعصابى - لأولِ مرةٍ فجلستُ على الكرسى الذى كان قد أحضرَه لى سليمان يرموك كما شَرِبْتُ كوبَ الماءِ المُثْلَجِ المُشَبْرِ فيما انصرف البعضُ ومعهم سليمان يرموك بسيارته «الكريزلر السوداءِ الحديثةِ» لنقلِ دبانه لأقربِ مكانِ علاجٍ، فيما ظل صبىُ المتلازمةِ واقفاً واجماً فى ركنٍ من الورشةِ يقضمُ أظافِرَهُ، وربما استكثر على نفسِهِ السعادةِ والرضا لأخذ المولى سبحانه وتعالى حقَهُ ممن آذاهُ، حيث طلبت منه فى ودٍ بالغٍ تركيبَ سير جديدٍ بدلاً من الذى جرى قطعُه، فنفذ المطلوبَ على الفورِ، ثم قدرتُ تكاليفَ الصيانةِ والخاماتِ جزافياً، ووضعتُها على المكتبِ الصغيرِ فى الكشكِ الزجاجىِ تعلقِ سليمان يرموك الذى غادر مع دبانه لإسعافِه، وأجزلتُ العطاءَ لصبىِ المتلازمةِ المسكينِ وانصرفتُ بسيارتى لحالِ سبيلى..
- فيما بعد تألمتُ كثيراً لأنى لم أُبْلِغْ نجدةَ الطفلِ للتصرفِ إزاءَ التعدى على صبىِ المتلازمةِ كما ندمتُ أيضاً على تطاولى على سليمان يرموك ولم يكن هذا هو التصرفُ الأمثلُ، وكلما تذكرتُ أنه قابلَ منى هذا بالابتسامِ كلما ازدادت دهشتى وندمى فى نفس الوقت، حتى حزمتُ أمرى وقررتُ أن أذهبَ إليه بورشتِه لأعتذرَ لهُ عما بدرَ منى وأسددُ ما عساه يكونُ مطلوباً منى مما يزيد عما قدرتُه، وبالمرةِ أطمئنَ على أحوالِ صبى المتلازمةِ..
- بوصولى للورشةِ وجدتُها مغلقةً بالضبةِ والمفتاح، وباتصالى بصديقى الذى دلنى على الورشةِ من البدايةِ للسؤالِ عن السببِ، أخبرنى - بكل حسرةٍ وألمٍ كمن ضاع منه شئٌ قيمٌ للغايةِ - أنه قد جرى القبضُ على سليمان يرموك فى قضيةِ الآدابِ الشهيرةِ الأخيرةِ..
- كان الأسطى سليمان قوادًا محترفًا يستخدمُ ذكاءه بذكاءٍ فى إخفاءِ نشاطِهِ السرىِ خلفَ ورشةِ ميكانيكا سياراتٍ معلنةٍ للكافةِ: حىّ على خير العمل !
- كانت فكرةُ الورشةِ فى بدايةِ الأمرِ مجردَ غطاءٍ ذكىٍ لممارسةِ نشاطِ سليمان يرموك السرى، وفى نفسِ الوقتِ وسيلةً لاصطيادِ الزبائنِ من روادِها ذوى المستوى الرفيعِ ممن يجدُ لديهم قابليةً لذلك بحرفيتِه ومهارتِه التى اكتسبها على مدارِ سنواتٍ فى ذلك العالم، ثم وجد الورشةَ تدرُ دخلاً وفيراً هى الأخرى يناهزُ القوادةَ وربما يزيدُ، فاستمر فى إدارتِها بجديةٍ إلى جانبِ نشاطِه السرى الآخرِ !!
- أبى سليمان يرموك أن يكونَ شخصاً محترماً فاستمر فى ممارسةِ أحطِ الأعمالِ رغمَ إمكانِه الاستغناءِ عنها بسهولةٍ، والعيشِ المُحترمِ من إيرادِ ورشتِه، وهو ليس بالقليلِ على أىِ حالٍ..
- يظهرُ - واللهُ أعلمُ - أن القوادةَ تلك هى جيناتٍ تكمنُ فى تكوينِ هذا الصنفِ من المخلوقاتِ، لايستطيعُ منها فكاكاً !!