الجمعة 10 مايو 2024

المستشار سعيد العشماوي ومعركة الإسلام السياسي

فن18-10-2020 | 20:08

واحد من رواد التنوير في القرن العشرين، ومن أوائل الذين خاضوا حروبا شرسة مع تلك الجماعات الظلامية التي تعيش في الماضي، مذهبها إراقة الدماء وتكفير الآخر، هو المستشار محمد سعيد العشماوي الذي ولد سنة 1932م وتوفي 7 نوفمبر 2013، كاتب ومفكر مصري وقانوني عربي عمل قاضيًا، تولى سابقا منصب رئيس لمحكمة استئناف القاهرة ومحكمة الجنايات ورئيس محكمة أمن الدولة العليا.


عمل بالتدريس محاضراً في أصول الدين والشريعة والقانون في عدة جامعات، منها: الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة توبنجن بألمانيا الغربية، وأوبسالا بالسويد، ومعهد الدراسات الشرقية بليننجراد بروسيا، والسوربون بفرنسا، وهارفارد، وبرنستون بالولايات المتحدة، وغيرها.


وقد بدأ التأليف بعد تخرجه في الحقوق بأربع سنوات بكتابات إنسانية عامة، مثل: (رسالة الوجود) عام 1959م، و(تاريخ الوجودية في الفكر البشري) عام 1961م، و(ضمير العصر) عام 1968م، و(حصاد العقل) عام 1973م.


بدأت كتاباته في الفكر الإسلامي بكتابه (أصول الشريعة) عام 1980م، ثم كتاب (الربا والفائدة في الإسلام)، ثم توالت كتبه الأخرى: (الإسلام السياسي 1979) (جوهر الإسلام) (الخلافة الإسلامية) (الشريعة الإسلامية والقانون المصري) (إسلاميات وإسرائيليات) (معالم الإسلام).


نشر أكثر من ثلاثين كتابا بالعربية والإنجليزية والفرنسية منها الإسلام السياسي – أصول الشريعة – الخلافة الإسلامية – ديوان الأخلاق – العقل في الإسلام – الأصول المصرية لليهودية وأهم كتاب له بالإنجليزية طبع عدة مرات ويباع في الأسواق والمكتبات الأمريكية كما تجده على موقع أمازون للكتب وكان يكتب في عدد من الصحف والمجلات المصرية، وبالخصوص مجلة أكتوبر.


هذا فضلا عن عشرات المقالات التي نشرت في أشهر الصحف والمجلات العربية ومواقع الإنترنت.


أدرجت الجماعات المتشددة اسم المستشار محمد سعيد العشماوي فى أول قوائم المرشحين للاغتيال، نتيجة لكتاباته ومواجهته الجريئة والقوية لأصحاب الفكر الديني المتشدد في مصر منذ أواخر السبعينيات، فقد حارب العشماوي على جبهتين، الأولى الجماعات الإسلامية المتشددة التي تصاعدت حدة نداءاتها لأجل إقامة دولة الخلافة الإسلامية، لدرجة حمل السلاح واستهداف أبرز المخالفين لهم فكرياً، وفنّد في كتابه «الخلافة الإسلامية» ادعاءات المتشددين بأن «صلاح الأمة الإسلامية مرهون بعودة الخلافة» مستعيناً في ذلك بروايات تاريخية منها أن «الخلافة الأموية ضربت الكعبة بالمنجنيق مرتين فهدمتها في كل مرة، وسمحت لجنودها بدخول مسجد الرسول بخيولهم»، وأن الجزية التي ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز قائلاً إن «محمداً أُرسل هادياً ولم يُرسل جابياً» هي نفسها الجزية التي فرضها الخلفاء الأمويون على رعاياهم من غير المسلمين «كأنما هم رعايا دولة أخرى أو كأنهم غير مسلمين»، وأن الخليفة المأمون الذى أنشأ بيت الحكمة والترجمة وكان عهده عهد الحرية الفكرية «هو الذى أثار فتنة خلق القرآن وفرض على الناس اعتقاده بمرسوم خاص كالمراسيم التي تصدر عن المجامع المقدسة غير الإسلامية (مثل مجمع نيقية ومجمع خلقدونيا)».


 أما الجبهة الثانية التي حارب فيها الكاتب الراحل فكانت السلطات الرسمية ذاتها التي سمحت لمجمع البحوث الإسلامية، التابع للأزهر، بمصادرة خمسة من كتبه إبان عرضها في معرض الكتاب الدولي في القاهرة عام 1992م، وهى «الخلافة الإسلامية (طبعة 1990)، وأصول الشريعة (طبعتا 1979، و1992)، والإسلام السياسي (طبعة 1987)، والربا والفائدة في الإسلام (طبعة 1988)، ومعالم الإسلام (طبعة 1989)». إلا أن قرار التحفظ على تلك الكتب قوبل باستنكار من قبَل الكاتب ذي الخلفية القانونية، حيث ذكر في صدر الطبعات التالية لأحد هذه المؤلفات المصادرة أسباباً ثلاثة لرفض قرار المصادرة، في مقدمتها أن «صميم عمل مجمع البحوث الإسلامية ليس مصادرة الكتب، لكن مواجهتها بالتصحيح والرد، فالكتاب يرد على الكتاب». وأدت دفوع العشماوي عن مؤلفاته الخمسة إلى تحريك مؤسسة الرئاسة بقرار رئاسي «بإلغاء قرار المصادرة إعمالاً لصحيح القانون الذى لا يعطى الأزهر أي حق في المصادرة». وهو ما التزمت به المؤسسة الدينية لاحقاً، حيث أردف مفتى الديار المصرية في حينها محمد سيد طنطاوي رداً أُرفق في كتاب «حقيقة الحجاب وحجية الحديث»، وجاء رد طنطاوي في ضعف عدد صفحات الكتاب الأصلي تقريباً.


 تعرّض العشماوي في كتابه «حقيقة الحجاب وحجية الحديث» لروايات تفيد بأن الحجاب ليس فرضاً في الإسلام كما هو شائع، وإنما هو دعوى سياسية «فرضته جماعات الإسلام السياسي أصلاً لتميز بعض السيدات والفتيات المنطويات تحت لوائهم من غيرهن من المسلمات وغير المسلمات». وذيّل سعيد العشماوي كتابه برأي موجزه أن منهج الإسلام لا يفرض حتى إقامة الحدود وأنه لو حاول الجاني الهرب من إقامة الحد فعلى الجماعة معاونته على ذلك وإلا خالفوا منهج الإسلام. ومن أبرز كتب العشماوي كتاب «جوهر الإسلام» الذى تناول فيه الآيات التي يستدل بها أنصار عودة الخلافة على موافقة مطلبهم لصحيح الدين، وفى مقدمتها «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.. هم الظالمون.. هم الفاسقون» مشيراً إلى أن «كلمة الحكم في القرآن لا تعنى سياسة أمور الناس مما يُسمى في العصر الحالي: الحكومة. والقرآن يعبر عن الحكم السياسي والسلطة العليا في المجتمع بلفظ الأمر، ومنه الأمير، أي الشخص الذى يتولى الحكم والسلطة، ولذلك لقّب عمر بن الخطاب نفسه بلقب أمير المؤمنين (لا حاكمهم) وفى القرآن: (وشاورهم في الأمر)، و(أمرهم شورى بينهم)، والأمر هنا هو السياسة العليا للجماعة».


ويرى العشماوي في كتابه "الخلافة الإسلامية" أن هناك خلط عام بين تاريخ الدين وبين الدين نفسه ويقول في هذا الصدد "إن الخلافة الإسلامية ليست ركنا من أركان الإسلام ولا حكم من أحكام الشريعة، لكنها جزء من تاريخ الإسلام كان من الممكن أن يقع بصورته التي حدثت أو يقع بصورة أخرى مغايرة أو لا يقع أبدا، والخلط بين الإسلام والتاريخ خطأ فادح جعل البعض يعتقد خطأ أن الخلافة الإسلامية هي الإسلام ومن ثم ينظر إليها من منظور عاطفي ويحكم عليها بمعيار وجداني ويضفى عليها هالة من الأوهام وينسب إليها كل فضيلة ويرفع عنها كل زلل" ويرى العشماوي أن :-


 الخلافة ليست هي الإسلام ولم تخدم الإسلام حقيقة بل إنها أضرت به حين ربطت العقيدة بالسياسة والشريعة بالحكم ثم جعلت الحكم وراثيا وصيرته مطلقا مستبدا.


الخلافة لم تحقق وحدة العالم الإسلامي ففي صدر الإسلام وجدت خلافتان إحداهما لعلى بن أبى طالب والثانية لمعاوية والذى في عهده وجدت خلافة ثانية في مكة لعبد الله بن الزبير، وكانت توجد في الوقت الواحد ثلاث خلافات، عباسية في بغداد، فاطمية في القاهرة، وأموية في قرطبة مما أدى لتمزق العالم الإسلامي.


الخلافة لم تحقق عزة للإسلام ومجد للمسلمين بصورة دائمة وإنما كان شأنها في ذلك شأن أي إمبراطورية قيصرية أو كسروية تمر بها فترة عزة ومجد ثم تتحول إلى الفشل والضعف.


الخلافة لم تنشر الإسلام الحق ولم تخدم المسلمين ذلك أنها نشرت للإسلام صيغة سياسية عسكرية أساءت إليه وشوهته فلو لم يتم غزو البلاد المحيطة بشبه الجزيرة العربية، ولو تم نشر الإسلام من خلال الأفراد والجماعات كما حدث في غرب إفريقيا وجنوب شرق آسيا لكان أفضل للإسلام ونفيا لأى ادعاء بأن الإسلام قد انتشر بحد السيف.


ويتعرض العشماوي في معظم كتاباته إلى فك الارتباط بين المفاهيم والمفاهيم المغلوطة ويقوم بتحليل وتفكيك تلك المفاهيم الراسخة كمفهومي الشريعة والتشريع. 


فالشريعة عند العشماوي ليست التشريع، كما يدّعي أنصار الإسلام السياسي. إنّهما مجالان متمايزان، لغوياً، وتاريخياً، وموضوعياً، وإثبات هذا التمايز ضروريّ في سياق الدولة الحديثة، حتّى لا يتمّ استغلال الدين (الإلهي - المقدس) في تجاذبات/صراعات السياسة (الدنيوية)، كما يحدث اليوم، بنتائج مكلفة، على المستويات كافّة. 

وكتاب العشماوي (أصول الشريعة)، واحد من المساهمات التأسيسيّة في هذا المجال؛ فهو يندرج ضمن أفق التفكير النقدي في التراث الديني من منظور عقلاني تنويري، وهو من النماذج المبكّرة في هذا المضمار، وقد صدر في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، في ظلّ التوتّرات الفكريّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، التي أوجدها صعود الحركات الإسلاميّة في مصر والعالم العربي، ولا سيما بعد الثورة الإيرانية (1979م)، التي أكسبتها قوّة دفع هائلة، ومعلوم أنّ بعضاَ من هذه الحركات، ذات التوجه التكفيري - الجهادي، دخل في مواجهات عنيفة مع الدولة، وتمكّن، في أكتوبر (1981م)، من اغتيال الرئيس محمد أنور السادات (كان عدم تطبيق السادات للشريعة الإسلامية مبرراً أساسيّاً لقتله بحسب اعترافات الجناة في المحكمة).


ويقوم الأفق الإدراكي لعشماوي، في تشخيصه النقدي للواقع العربي - الإسلامي، تاريخياً وراهناً، على الوعي بضرورة التجديد الديني، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، مع ما يقتضيه ذلك من الحفر بلا مواربة في أغوار العقل التراثي الإسلامي، وتفكيك قداساته، ومواجهة قراءاته/ادعاءاته، وإعادة تقييم جذريّة لكلّ مفاعيله في الحياة العامة الإسلامية، على ضوء معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، باعتباره المسؤول الأوّل عن حالة الأزمة، والركود، والتخلّف، والفوات الحضاري، التي يرزح تحت وطأتها المسلمون منذ قرون طويلة.


ويؤكد العشماوي في كتابه "أصول الشريعة" على الإطار المرجعي له ومنطلقاته الفكرية إذ يحددها فيما يلي:

- مراجعة الفهم الحرفي للنصوص الدينية (القرآن والسنة)، والدعوة إلى قراءتها بمنهجيّة جديدة قائمة على أساس الواقعية الظرفية للنص الديني =( تاريخية النص)، مع التسليم الابتدائي بأنّ القرآن، في ذاته، نصٌّ منزّه تنزيهاً كلياً.


- تجاوز المدوّنة الفقهية التقليديّة بكلّ ما تنطوي عليه من تفاسير، وشروحات، وتأويلات، ولاسيما في ما يتعلق بموضوعات الدولة، والسياسة، والجهاد.

- إعادة تقييم التجربة التاريخية الإسلامية.

- نزع القداسة عن الإسلام التاريخي التراثي.

- الاستقراء التاريخي للفكر/الفقه الإسلامي.

- مناهضة القراءات المتأسلمة/السلفية.

- القطع مع شعار «الحلّ الإسلامي».

- إبراز البعد الإنساني للإسلام.

- تنمية الخطاب الإسلامي في اتجاه العلمنة.


ويخلص العشماوي إلى أنه من الصعب جداً (إن لم يكن من المستحيل) تطبيق الشريعة، بالمعنى الحرفيّ المتداول، في المجتمعات الحديثة، لاعتبارات متعدّدة أهمها تعذر تحقق شروطها، وأركانها المعتبرة يقيناً، الأمر الذي يمنح المشرع الوضعي مجالاً واسعاً للتدخل في سنّ القوانين، التي تناسب ظروف الواقع الراهن، في حدود الأحكام العامة للإسلام، ومن ثَمَّ إن دعاوى تطبيق الشريعة، التي يرفعها المتأسلمون اليوم، ويجعلونها أساساً لمشروعهم السياسي، ليست واقعية من كلّ الوجوه، ولا تساير حقائق العصر، ولا الأصول، التي تقوم عليها الشريعة نفسها، موضوعاً وتوقيتاً، من حيث إنّها منهج حيّ يتجسّد اكتماله في السعي الدائم والمستمر إلى ملاحقة أحوال المجتمع، والتفاعل مع الحياة، والتقدم بالإنسان، بما هو إنسان كرمه الله، وجعله خليفته في الأرض.


ويؤكد العشماوي في معظم كتاباته التي تناول فيها نظام الحكم، أن القرآن الكريم لم يتعرّض لنظام الحكم في الإسلام بعد النبي، ولم ترد عن النبي أحاديث تدل عليه. فلقد فوجئ المسلمون بوفاة النبي، فارتبكت أحوالهم، واهتزت نفوسهم، وفي هذا الوقت، لم تتحدّد طبيعة الحكم والنظام، الذي يتعين على الخليفة الذي اختاروه: أبو بكر الصديق، التزامه، بسبب تسارع الأحداث، وانعدام أيّ شكل من أشكال الفكر السياسي. كما أنّ لفظ «الخليفة»، وما يرتبط به من معنى وراثة كلّ الحقوق والالتزامات الخاصة بالنبي، ساعد على اضطراب الفهم، وغموض المشهد السياسي، ليس في تلك الفترة المبكرة فحسب، ولكن على امتداد التاريخ الإسلامي، حتى اختفت الحقائق تماماً، وتغير شكل المفاهيم كلياً.


وأن هذا الغموض والالتباس المبكّر كانت له آثار سيّئة ممتدة على نظام الحكم في الإسلام، وعلى الفكر السياسي الإسلامي عموماً؛ إذ جرى دمج الدين والسياسة في شخصية الخليفة، وأصبح هذا اللقب يحمل مدلولاً دينياً يفيد السمو والقداسة، فاستمر الحكام/الخلفاء في اعتبار أنفسهم ورثة للنبي، وظلّوا يحكمون ويمارسون سلطتهم على الناس على هذا الأساس، ما أدّى إلى حدوث اضطراب كبير في السياسات، وفي نظام الحكم، نتجت عنه كوارث كثيرة، وفجائع كبيرة، ومع ذلك لا يزال هذا الالتباس سارياً حتى اليوم في أدبيات دعاة الإسلام السياسي، التي تنادي بإقامة دولة «الخلافة»، التي يجمع فيها الخليفة بين السلطتين: الدينية والزمانية؛ أي استنساخ حكومة الله في زمن النبي التي انقطعت بوفاته، ولا يمكن أن تقوم ثانيةً لانتفاء شرطها وركنها الأساسي، وهو وجود نبيّ على رأسها يمارس سلطته بوحي من الله.


    Dr.Radwa
    Egypt Air