الإثنين 25 نوفمبر 2024

فن

المرأة في ميزان قضاة الفكر والأدب

  • 18-10-2020 | 20:12

طباعة

بعد إخفاق الموجة الحضارية قصيرة العُمر التي حرّكها رفاعة الطهطاوي في تحقيق آثارهِا المرجوّة، ووقوع البلاد في قبضة الاحتلال الإنجليزي، كان الرجال في طمأنينة تامة أن "حريمهم" قابعات وراء جدران البيوت، تحميهن البراقع  والأثواب الطويلة من الفتن الخبيثة ذات الأصوات الخافتة التي تطالب بتعليم المرأة وظهورها بين الناس، لتفاجئهم في ثمانينيات القرن التاسع عشر الأميرة نازلي فاضل، حفيدة محمد علي باشا، بظهورها في هيئة الأوروبيات، وفي صالونها الثقافي المسمّى "فيلا هنري"، تخالط الرجال سافرة بدون حجاب، وإلى جانب الأميرة تظهر السيدة الأرستقراطية عائشة التيمورية، وتتبوأ مكانة اجتماعية رفيعة، وتنبُغ في الشعر والأدب، ثم تقتحم السيدة زينب فواز، مضمار النضال السياسي بقوة، تؤازر الإمام المجدِّد محمد عبده، ويُغَير الزعيم مصطفى كامل لأجلها افتتاحية خطبه الرنانة لتكون"سيداتي سادتي"؛ فيما ظلّ الرجال يتجاهلون - أو يتناسون -  أمر أولئك النسوة، ممن برزن في الحياة الاجتماعية، اعتبروهن مارقات وظواهر فردية دخيلة علي المجتمع ستتوارى وتضمحل أمام القيم الدينية والأعراف الراسخة. 


* القاضي الفقيه ونصير المرأة :


في تلك الفترة الزاخرة بالمفاهيم المغلوطة والأفكار الملتبسة، كان المتصدي الأول لحقوق المرأة المغبونة هو الإمام المجدد محمد عبده، المستتشار بمحكمة الاستئناف، ومفتي الديار المصرية، ليُصدر مجموعة فتاوى تضع المرأة وقضيتها علي رأس اهتمامات الفكر الشرعي، والجدل الاجتماعي بين رافض ومؤيِّد، إذ رأى الإمام أن تبخيس حق المرأة وقهرها وجعلها في نطاق "الحريم" المعبر عن ذروة التخلف المجتمعي الذي عانت منه الأمة في العصر المملوكي وامتداده العثماني، وكذلك ابتعادًا عن جوهر الدين الحقيقي ومقاصد الشريعة الإسلامية، وأنّ ما وصل إليه حال المرأة المزري من : كبت وإجبار وازدراء، أزمة وعي يعاني منها العقل الجمعي، لأن الشرع الإسلامي لم يهضم حقوق المرأة في الحياة أبدًا، ولم يحرمها من أداء دور عام في المجتمع، فقد ساهمت في تأسيس الدولة الإسلامية في صدر الإسلام، وبالتبعية لا يجوز اختزال دورها كجارية للمتعة أو مجرد رَحم للإنجاب، ومن الجاهلية أن تقضي حياتها في غرف البيوت بغير تعليم، إنما جاء الإسلام لتحريرها من العبودية. 


وقبيل نهاية القرن الثقيل على المصريين بشهور - عام 1899 -  أقدم بشكل مفاجئ قاضٍ شاب، مستشار في محكمة الاسئتناف، ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية يدعى قاسم أمين، وأشعل فتيل قضية المرأة الكامنة في الصدور والمؤرقة للعقول، أصدر القاضي الجسور كتابه "تحرير المرأة" الذي اعتبر من وقت ظهوره "المانيفستو "الكتاب الرسمي" لقضية المرأة، وخصّهُ بعنوان أكثر جرأة "تحرير المرأة" ليُقيم الدنيا معه ولم يقعدها من حينها وحتى الآن، ثم أتبعه بكتاب أشد وطأة من سابقه بعنوان "المرأة الجديدة" ليصدر في أجواء مستعرة بالغضب ضده وضد من يناصره. 


نادى أمين في كتابيهِ بتعليم المرأة والدعوة إلى اختلاطها بالرجال في الحياة الاجتماعية والسياسية، ثم تمادى في المغالاة في بعض من آرائه، وطالب باستصدار تشريعات تُقَيِّد حق الطلاق، وتمنع تعدد الزوجات.


اتسعت شهرة قاسم أمين في العالم بأسره، وبعد يوم حافل ألقى في نهايته محاضرة بنادي المعلمين علي وفد نسوي من دولة رومانيا، توفي في بيته فجأة بالسكتة القلبية، رحل وهو في ريعان شبابه، بعدما أطلق قضية المرأة الشائكة من عقالها ودافع عنها بكل ما أوتي من قوة، ليُطلق عليه لقب "محرر نصير المرأة".


* قضاة الفكر ونِسَاء الثورة :


خاض قاسم أمين في حياته القصيرة، معركة فكرية ضارية مع رجال الدين والفكر والسياسة، اتهم على أثرها في دينه وأخلاقه، ونُبِذَ من المجتمع لآرائه، بدءًا من الخديو عباس حلمي الثّاني الذي منعه من دخول قصره، مرورًا بالنخبة المثقفة أمثال: مصطفي كامل، محمد حسين هيكل، طلعت حرب، الشاعر أحمد محرم، الشيخ محمد إسماعيل المقدم، وصولًا إلى جحافل الجمهور العادي الذي كان يسبهُ في الطرقات أينما قابله. 


وفي غمار تلك الكراهة المجتمعية لقاسم أمين، والمعترك الفكري العنيف، لم يقف في صفهِ حينها داعمًا لأفكاره وموقفه السياسي سوى قِلّة أبرزهم: الإمام محمد عبده، سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، عبد العزيز فهمي، عبد الخالق ثروت، والمفارقة - التي تستوجب التوقف عندها - أن جميعهم قضاة أجلاء، وأدباء ومفكرون رفيعو المستوى، ومن قادة الوعي، ورغم عدم اتفاقهم مع قاسم أمين كليًا في كل ما يطرحه من آراء، إلا أنهم كان لديهم من الاستنارة وحصافة قراءة الواقع والمستقبل ما يدفعهم لأن يدركوا ضرورة إلقاء حجر ثقيل بمثل أفكار قاسم أمين - على شطط بعضها - كفيلٌ بتحريك المياه الراكدة لإحداث التغيير في المجتمع برمته، بما يقتضيه العصر، وأن أثر الصدمة الثقافية كفيلٌ بخلق منطقة وسطى سوف تتسم بالاعتدال، بين جمود النخبة المثقفة وراديكالية "تطرف" قاسم أمين، وقد تحقّقّ ظنهم، بأن ظهرت في تلك المنطقة الرمادية سيدات صرن فاعلات في المجتمع والحياة العامة، ممن شكلن الرعيل الأول للحركة النِسويّة أمثال: مي زيادة، ملك حفني "باحثة البادية"، وهدى شعراوي، وصفية سعد زغلول؛ وكذلك أولئك القضاة المفكرون الكبار أنصار قاسم أمين، صاروا بعد وفاته بمثابة الشعلة التي اهتدى بها الشعب نحو الاستنارة واعتلاء متون الحرية، وباتوا هم أعلام السياسة الأهم في تاريخ الوطن، تؤازرهم وتدعم قضيتهم تلك النخبة النسوية التي أعدوها وساندوها، إذ كانوا - القضاة - نواة لجنة الوفد المصري التي فجرّت ثورة 1919، ومن العوامل المهمة لنجاح ثورتهم واستحقاقها لقب ثورة شعبية أمام العالم بأسره، أن تحقق فيها أول مظاهرة نسائية في مصر، أذهلت المستعمر ووضعته في حرج باتهامه للمجتمع المصري بالرجعية، وإهانته للمرأة المقهورة الّتي زعم أنه جاء مدعيًا الانتصار لها.


* راهب الفكر .. عدوٌ للمرأة :


بعد ثورة 1919، انفتح المجتمع المصري على نظيره الأوروبي بشكل أكبر، ومن أوجه ذلك الانفتاح كان تقبله لأنواع جديدة من مصادر الفهم وتلقي المُثل العليا بخلاف الفتاوى الشرعية من الأزهريين، والخطب والمقالات والفكر البحت من رجال السياسة، تمثلت في الأدب الذي حوى في جعبته فنون الرواية والشعر والقصة والمسرح، ومن هذه الزاوية ظهر قاضٍ آخر خفيف الظل، متمرد ليس علي الأوضاع الثقافية المتردية والاجتماعية المتناقضة فحسب، بل على وظيفته القضائية أيضًا، إذ استقال من ولايته القضائية ليتفرغ للأدب ويتخذه مضمارًا لرسالته وفلسفته في الحياة، وهو القاضي توفيق الحكيم، وقد سُمّي بـ"راهب الفكر"، إذ تدثر بعباءته وارتدى "البيريه"، ولَم تفارقه عصاه الطويلة منذ كان وكيلا للنيابة. 


برع الحكيم في المسرح والرواية والقصة، اشتهر كذلك بأنه عدوٌ للمرأة بعد مقال كتبه بعنوان "انا عدو المرأة والنظام البرلماني"، والحكيم بهذا اللقب صار على النقيض من - زميله القاضي - قاسم أمين، نصير المرأة.


دافع الحكيم عن نفسه مرارًا ونفى ذلك اللقب واعتبره اتهامًا له بالرجعية، وقال إن هدى شعراوي هي من روجت لهذا اللقب لأنه انتقد طريقتها في تربية البنات وحض الزوجات على ما رآه استعلاء من الزوجة في خدمة زوجها وأبنائها، وأنه لا ينتقص من حقها أبدًا، بل يرفع من شأنها.


فيما أكدّ أديب نوبل نجيب محفوظ، الذي لازم توفيق الحكيم كظله طوال أربعين عامًا، أن "عداوة المرأة لم تكن في توفيق الحكيم من شيء، بل هو نفسه اعتبرها على سبيل الدعاية الفنية"، وما يؤكد ذلك أدب الحكيم نفسه وآراؤه، أنه ليس عدوًا للمرأة، بل نصيرٌ لها، إذ تميز فن توفيق الحكيم تجاه المرأة بالإيجابية، وهو ما ظهر في مسرحياته ( شهرزاد، إيزيس، الأيدي الناعمة، بجماليون، السلطان الحائر)، وكذلك في روايات ( الرباط المقدس، عصفور من الشرق، يوميات نائب في الأرياف)، بخلاف عدد كبير من المقالات. 


وبإطلالة تأملية على المرآة في فكره وفنه، نجد أن المرأة بطلا ذهنيًا في مسرحية "شهرزاد" عالج بطش شهريار، وفي "الأيدي الناعمة" صورها أنها محور الأحداث وأنها مفتاح الاستنارة التي أقبل عليها المجتمع ومعول هدم الرجعية، ومثال للتضحية كما صورها في مسرحية "أهل الكهف" و"محمد" - صلى الله عليه وسلم - وفي مسرحية "بجماليون"، التي تسرد أسطورة الملك الذي نحت تمثال امرأة حتي عشقه، يرى المرأة فيه جميلة ومصدرًا للفن والإلهام، وفي مسرحية "السلطان الحائر" تظهر الغانية / المرأة، التي اشترت السلطان لمدة ليلة بمثابة ضمير المجتمع وتمثلت فيها الحكمة وحسن التفكير، وفِي رواية "الرباط المقدس" اعتبر المرأة مخلوقا مرهفا ومتسامحا رغم تعسف المجتمع معها وسجنه لها في قفص العادات، واستنكر النظرة الذكورية العنيفة التي لا تغفر للمرأة أصغر أخطائها، ويبرر للرجل كل آثامه ونزواته مهما عظمت؛ ومن ثم لا يجوز أن يكون عدوًّا للمرأة من يراها في أدبه : العقل والحكمة والفن والجمال والرحمة والحب والتسامح والتضحية والخير، وفِي مجمل مقالاته عن المرأة، يرى أن الزواج إنما في الأساس زواج عقلي في الغرض الأول، وأن الكتب فيه أهم من الفراش، والموسيقى فيه أكثر من الطعام، وأن المرأة جميلة ما لم تتجرد من أنوثتها أو تخالف الشريعة الإسلامية.


*خاتمة :


فهكذا حين نجد أن مصر صاحبة "الصَيحة" النِسْوّية الأولى في الشرق بأسرهِ، رأينا القضاة هم الحاملين الأوائل لشُعلتها ورافعي لواءها، فبعدما ازدان محراب العدالة بعدلهم، أضاءوا بأفكارهم الرائدة السابقة لعصرهم عَتمَة سماء الفكر، وتغيَّر على يديهم وَجهَ مصر الحديث، غرسوا بقوة "حقوق القواري" الأصيلة في تيار الرجعية الجارف، وانبروا يدافعون عنه بروح الثائرين، يَسقون بذوره : عدلًا، علمًا، نضالًا، فنًا، وأدبًا.


    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة