الجمعة 17 مايو 2024

أمينة

فن18-10-2020 | 20:10

مثل كل صباح خرجت في جلبابها الأسود من دارها المبنية بالطوب اللبن وأغلقت ورائها الباب الأحمر الخشبي العريض ذو المصراعين. مشت تتهادى بجسدها الممتلئ قليلاً وقامتها القصيرة نسبياً حاملة فوق رأسها صينية مستديرة عليها ثلاثة أطباق، طبق مفلطح به قطعتان من الجبن القريش، وآخر عميق به عسل أسود، وثالث كبير يضم بعض ثمرات الطماطم والخيار تتوسطهن سكين، وعلى جانب في الصينية عدد وفير من أرغفة الخبز البلدي الساخن القادم لتوه من طابونة القرية.


أمينة، عجوز قاربت السبعين تعيش وحيدة في دارها الكبيرة بعدما مات بكرها منذ سنوات، قبيل زفافه إثر حادث أليم وتبعه أبوه كمداً، ثم انتقل الابن الآخر التاجر الثري للإقامة في المدينة، بينما غادرت البناتُ الخمس البيتَ واحدةً تلو الأخرى طوعاً لأحكام الزواج ولم تعد تراهن سوى في المناسبات والأعياد، وضنَّ أخواها عليها بالزيارة وتصدقا بالمحادثات الهاتفية القليلة.


 امتثلت العجوز لسنَّة الحياة رغم قسوة قوانينها بدلاً من الموت كمداً، ورأت في المواظبة على الصلوات وقراءة الأوراد اليومية والرضا بتقتير الأبناء والأهل في السؤال وتعويضهم بالجارات - رأت في كل أولئك أفضل أداء لسنة الحياة في ركعاتها الأخيرة وخير استعداد ليوم الرحيل- واعتادت مغالبة وحدتها بتقليد تفتتح به يومها تستجدي الأمل من أكف الزمن بعدما أدار لها وجهه الباسم، إذ تحضر إفطارها كل صباح وتحمله إلى بيت إحدى جاراتها بالتناوب حيث يتقاسما اللقمة والشاي ويمرران الصبيحة في الحديث.


 أمينة هذا الصباح سعيدة رغم حرارة جو مايو، فالدور على زينب جارتها المحبوبة. رغم أنَّ زينب في عمر كبرى بنات أمينة لكنَّ ثمة أخوة نشأت بينهما تبدت في تولي زينب العناية بأمينة حين تمرض وإعداد الغداء لها من حين لآخر واستشارتها في أخص أمورها، فلم يكن مفاجئاً صراخ زينب المهول يوم وفاة فلذة كبد أمينة وزوجها وعدم خلعها الأسود إلا بعدما حال الحول على كل وفاة.


أشرق وجه أمينة حين تذكرت تامر أو تمورة صغير زينب.. هذا الطفل الجميل الشقي ذو السنوات الخمس، ففضلاً عن تميز يومنا هذا باجتماع الحبيبتين أمينة وزينب كانت ثمة ميزة أخرى هي روح المرح التي يضفيها تمورة على جو الإفطار ومجلس الشاي، فما ينفك يدور حول المرأتين بدراجته الصغيرة متجاذباً مع أمينة الهذر، ثم يجلس على حجرها وتوسعه تقبيلاً ومداعبة وهو يحكي لها مغامراته الخيالية فتعطيه الحلوى. توقفت أمينة متحسسة بيمناها جيب جلبابها فاطمئنت على وجود حلوى تمورة فابتسمت وأكملت سيرها..


فرغت المرأتان من طعامهما بمدخل البيت كالمعتاد حيث تحط أمينة طبقها مفضلة ألا تزعج من في البيت مرددة دوماً "البيت بيتي ولا أحتاج دعوة، فدعوني أجلس حيثما أرتاح". كان تامر اليوم نائماً، فجلست أمينة تنتظر زينب ريثما تعد الشاي بالداخل، ولم تلبث أن أبصرت تامراً واقفاً في وسط الصالة بجسده الضئيل وشعره الأسود المنساب إذ كان باب البيت مفتوحاً. كان تامر يفرك عينيه فابتسمت أمينة ونادته قائلة: "صح النوم يا تمورة..هيا تعال سَلِّم عليَّ يا حبيبي لأعطيك الحلوى"، فرد عليها بصوت به حشرجة خفيفة من أثر النوم: "أهلاً يا غراب البين".. انطفأ وجهها وسقط ناظِرَاها في لحظة الانطفاء ذاتها على جلبابها وسألت الطفل:


غراب ماذا يا تامر؟


 بابا هو من يقول هكذا.


 لطمت كلمات الطفل قلبها.. انعقد لسانها إذ غص حلقها وتسمرت في مكانها للحظات حتى أدركت وضعها، فاستلمت الطبق وهبت من مكانها وتوجهت إلى دراها مسرعة فكأنَّ الموقف قد استحث قواها الضعيفة أو خدَّر آلام قدميها الكليلتين. دفعت الباب وأغلقته بسرعة ونَضَّدَت الطبق واستلقت على كنبة مطلقة لعينيها الأعنة كي تسحَّا دموعهما الحبيسة. أخذت الأرملة الثكلى تسترجع شريط الذكريات، سيدة كاملة لبيت كبير غَنَّاء بمرح البنات ومعمور بالشباب اليافع يكنَّه سيد عظيم وزوج حنون، قد باتت عجوزاً مخيفة ونذير شؤم منعزلة في مأوى واسع المبنى ضيق المعنى.

 

مرت الأيام على أمينة وهي معتكفة في بيتها بعدما تركت عادة الإفطار الخارجي لا تخرج إلا مرتين في الأسبوع لابتياع الحد الأدني من مستلزماتها من جبن وخبز وخضروات. أيام كثيرة تصرمت لا تعلم عددها.. فما أهمية الزمن هنا؟! وما هي قيمته أصلاً؟ هل ثمة مواعيد؟ زيارات؟..... إلخ؟ الجارات يأتينها قلقات من تخلفها عن سنة الإفطار فتتعلل بتعب قديها أو نزلة برد زائفة..


    كرَّت الأيام وأوراق الأشجار تلامس نهايات الصيف فتشدها إرهاصات الخريف، وأمينة في دارها صامدة أمام تصاريف الحياة. جنَّ الليل وهي جالسة في وسط الدار بجلباب بيضاء خفيفة على سجادة الصلاة بعدما فرغت من العشاء وسننها ووترها، مضيئة لمبة كيروسين معلقة في مسمار كبير احتفر في الحائط إذ انقطع النور ساعتئذ.


 لكنَّ ثمة أنواراً أخرى بدت تباشيرها في الأفق.. أنوار وجه ابنها الراحل واقفاً يتبسم في جذل وخلفه وجه أبيه ذو الابتسامة الوقورة. تلألأ وجهها لكنَّ ثمة ذكرى عاجلتها. اليوم ذكرى التاريخ المضروب لعرس ضناها قبل أن يمحوه من التقويم مأتمه فغام وجهها المقمر خلف سحابة الذكرى السوداء.. استندت إلى أقرب جدار وانثالت دموع حارة على خديها وعلا نحيبها على التذكار، وبسمة الشباب لم تزايل وجه ابنها والنظرة الحانية تزداد في وجه زوجها.


 بدأت سحابة الذكرى تنقشع عن وجهها فبانت ومضة على محياها وكتمت نحيب صوتها ووجيب قلبها، لكنَّ وخزاً أصابه فبدأت تحس ألماً. حدثت نفسها أنَّه ألم لحظي لن يلبث أن يزول، وكانت وقتتئذ في ضيق أن عكَّر هذا الألم صفو اللقاء بالأرواح العزيزة. الألم يزداد وقد انتشر في صدرها حتى أصبح لا يطاق وكأنَّ شرايينها تتقطع، وأحست بانسداد حلقها واستحالة التنفس فانبهرت عيناها.. أخذت تهتف في دخيلتها: "يا الله يا كريم.. يا رسول الله يا رسول الله" فازدادت ابتسامة وجهي ابنها وزوجها وبان المرح على وجه الأخير حتى وصل الألم درجة ذروته وكأنَّ سكيناً حادة تذبحها، وفجأة انقطع كل شيء.. راح الألم وطار ابنها وزوجها بعيداً وأظلمت الدنيا، نور أبيض يغمرها.. تخففت من ثقل جسدها ووجدت كنهها يعلو بسرعة مهولة لامحة جسدها ثاو في مكانه، وأخذت تسبح بعيداً.. 


لملمت الشمس أشعتها وأذنت للمغيب، وسكبت الدجنة حبرها في الأفق.. التف الجمع حول جثمان أمينة.. ابن وشقيقان جاءوا لتلقي العزاء في السرادق الفخم بعدما أخَّرا الجنازة لمغرب اليوم التالي حتى يحضر كل بعيد.. بنات اتشحن بالسواد وانطلقن بالنعيق. زينب أعماها البكاء وبح صوتها من الصراخ.. مشيعون اكتنفهم الصمت حاملين عدداَ من الكشافات.


انطلق الموكب يمخر الظلام تقوده أمينة في نعشها مسرعةً، فكأنها فرحة باقتراب لمِّ الشمل بابنها وزوجها. أخيراً سيعانق الغصن شجرته وزهرته المقطوفة في ريعان ربيعها.


وصل المشهد المقابر وحط نعش أمينة أمام مثواها الأخير، أخذ اللحاد يواريها الثرى، وانصرف الابن والشقيقان لاستقبال ضيوفهما، وطفق البنات يبكين ويعددن مناقب الفقيدة، وزينب منهارة غير قادرة على الوقوف مستندة إلى سيدتين.


أُغلِقَ باب المقبرة على الشمل الملتئم، واستقبلها الواعظ خاطباً: "يا أمينة يا بنت أَمَةِ الله؛ ذهبت عنك الدنيا وزينتها"..