بقلم رضوى زكي
"لماذا الدم؟ لما هذا الإصرار على تناول المؤلم والدامي من أحداث التاريخين العربي والإسلامي؟"
بهذا التساؤل، يبدأ وليد فكري في سرد سبب اختياره لتسليط الضوء على أحداث شائكة في عمر التاريخ العربي والإسلامي الممتد عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان، خلال مقدمة كتابه "أيام من دم: من كربلاء إلى مذبحة القلعة"، الصادر عن دار "الرواق" للنشر والتوزيع في مطلع عام 2019.
يعد تاريخ الدماء في الحضارة الإسلامية هو القاسم المشترك لثلاثة كُتب للمؤلف الشاب وليد فكري، الباحث في مجال التاريخ، صاحب الجمهور العريض من غير المختصين بعلم التاريخ، ومن فئة الشباب بصفة خاصة.
يرى الباحث أن الحفاظ على عقد تلك الحضارة من الانفراط وما قدمته للتاريخ الإنساني، على الرغم من تلك التحديات والأحداث العاصفة، لهو أكبر دليل على قوتها ورسوخها، ويستدرك في موضوعاته من منطلق عدم الخوف من إبراز مثالب تلك الحضارة من عنف وصراعات في ظل تاريخ تسوده فترات مضيئة قائمة على العلم والمدنية والسيادة، فلم يكن التاريخ العربي الإسلامي بمنأى عن تاريخ باقي الأمم التي لها نصيب من الدماء والصراعات الدينية والسياسية، وكذلك بغرض التعلم من الماضي لفهم الحاضر وبناء مستقبل قائم على الإدراك الصحيح للتفريق بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ خاضع للأهواء والمصالح، خاصة في ظل وجود جماعات إرهابية تستحضر الفتن الدموية التاريخية وسياقاتها إلى واقعنا اليومي.
يستدعى الكتاب بين طياته قصص عشرة معارك فاصلة في التاريخ الإسلامي سجّلها الدم بدلاً من الحبر، احتجبت بعض وقائعها والتبست أحداثها بينما سادت عواقبها على الكثيرين.
يتتبع وليد فكري بموهبة قصاص، سيرة الأحداث الدموية والفتن التاريخية ومسارها، بدءًا من عصور بني أمية إلى أيام محمد علي باشا.. من كربلاء في العراق إلى قلعة الجبل بقلب القاهرة.
تبدأ فصول الكتاب بسرد وقائع وتحليل الفاجعة الكبرى في التاريخ الإسلامي، بتفاصيلها الكثيفة وملابستها المتداخلة، لاستشهاد "الحسين بن علي بن أبي طالب ابن بنت رسول الله"- رضي الله عنه وعنهم أجمعين- إثر الخلافات السياسية مع عبيد الله بن زياد من بني أمية، في معركة كربلاء بالعراق في عام 61 هجرية / 680 ميلادية، وبزوغ أول "فضيحة دموية تاريخية" تعاظمت آثارها في عهد الأمويين طوال حكمهم الذي استمر طيلة تسعين عامًا من جانب، وكرسّت للفكر الشيعي إلى يومنا هذا من جانب آخر.
كانت تلك الفعلة الشنيعة بحق آل بيت النبي بذرة التطرف المتجذرة إلى اليوم، فباسم الدين.. كم ارتُكبت من جرائم وأريقت دماء للوصول إلى سدة الحكم!
ومن كربلاء إلى المدينة المنورة، حيث وقعت المقتلة الثانية في عام 63 هجرية/ 683 ميلادية على أثر موقعة كربلاء ورفض أهل المدينة لما حدث على يد يزيد بن معاوية والأمويين، فيما عُرف بمعركة "الحرة"، إذ دار السيف في أهل المدينة بتدبير من مسلم بن عقبة حتى سُمى بمسرف بن عقبة، لإسرافه في القتل الذي لم يفرق فيه بين الصحابة والتابعين وأبنائهم وأهل المدينة، الذين استُبيحوا على يد جيش من الشام، فما لبث المسلمون يلتقطون أنفساهم من معركة كربلاء لتروعهم مقتلة أهل المدينة.
ولم تمر عقود طويلة على تلك الأحداث، حتى سقطت دولة الأمويين القائمة على الدماء وضرب السيوف عام 132 هجرية / 750 ميلادية في أرض العراق، ومرة أخرى تعاد كتابة أيام التاريخ بالدم على يد سلالة العباس بن عبد المطلب، لتدور رحى المقتلة الثالثة بين مروان بن محمد وأبي العباس قرب نهر الزاب، ليعلن العباسيون تأسيس دولتهم وخلافتهم، ويعلمنا التاريخ دومًا أن الدول لا تُقتل، بل تنتحر بأفعالها حين تتخذ من القتل منهجًا وسبيلاَ، ومن يعش بالسيف يمت به.
ويبدو أن أرض العراق كتب عليها أن ترتوي بالدماء، لكن هذه المرة في البصرة عام 257 هجرية / 1871 ميلادية، على يد سفاحها "صاحب الزنج"، الرجل الذي قاد حرب عصابات على يد مقاتلي الزنج ضد الحُكم العباسي، ليسيطر على أجزاء من العراق قبل أن تتمكن الخلافة من قتله بعد 13 عامًا من المناوشات في معركة حاسمة وقعت عام 270 هجرية / 883 ميلادية، بعد أن فنى خلق كثيرون من الفريقين إثر "واحدة من أقدم الحركات الإرهابية في التاريخ الإسلامي"، على حد وصف المؤلف.
"مذبحة القرامطة" هي المقتلة الخامسة الوحشية التي وقعت عام 317 هجرية / 930 ميلادية، حين انقض جيش القرامطة- المنشقون عن الدولة الفاطمية وأحد فروع المذهب الإسماعيلي الشيعي والملقبون أنفسهم بالمصلحين في الأرض- على حجاج بيت الله الحرام؛ فسفكوا دماءهم ودنسوا الكعبة المشرفة وسرقوا الحجر الأسود في حادثة لم يسبق لها مثيل، فمنهجهم هو الأقرب للحركات الإرهابية المنتشرة في دول العالم باسم الإسلام، ومبدؤهم "من ليس معي فهو ضدي، ومن كان ضدي فهو مستحق للقتل".
وإلى الفسطاط بقاهرة المعز، حيث دبر الحاكم بأمر الله، شيعي المذهب، فاجعة كلفت أهل المدينة ثمنًا ثقيلاً من القتلى والحرائق والدمار لتمردهم عليه، هذا الرجل الغامض محل بحث واهتمام الباحثين لسلوكه الغريب، وسفكه للدماء الذي جمع بين الجنون والدهاء.
ويعتبر عبد الرحمن الداخل، سليل بني أمية، من أكثر الشخصيات التاريخية جدلاً، حيث جمع بين العدل والرخاء في عهده وبين سفك دماء كل من يعارضه، هو مؤسس بلاد الأندلس وصاحب الحفرة والربض الذي دفن الثائرين على حكمه في حفرة عقب ذبحهم، وقمع ثورة أهل حي الربض بالقتل والحرق.
تتبع الكتاب كذلك مسيرة صعود القائد العربي الأشهر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب نحو السلطة، التي شابها الدم لسحق الثائرين في القاهرة، هذا الرجل الذي نال من التعظيم والتقدير بقدر ما نال من النقد والهجوم، وعرض الباحث للهول الأكبر الآتي من الشرق على يد تيمورلنك، وواحدة من معارك المغول الدامية في حلب إبان حُكم المماليك، وختامًا بأشهر مذابح العصر الحديث على يد محمد علي باشا، والي مصر وحاكمها الذي أنهى سلالة المماليك وأفناهم بلا رجعة، في قلب قلعة الجبل، مقر حُكم مصر.
حاول الكاتب اتباع نهج حيادي قدر المستطاع، متخليًا عن الأحكام الأيديولوجية المسبقّة أو الانحياز لصالح أحداث معاصرة، ما يحسب له ويزيد من قدر مصداقيته، وقدم جرعات من الأحداث التاريخية المثيرة للجدل بين طرفين "كليهما مسلم" في قالب يجذب قارئًا غير معني بالتاريخ، بأسلوب شيق أقرب للكتابة الروائية، في ثوب يناسب وتيرة الإيقاع السريع الذي نعيشه.
يستخدم وليد فكري أدواته القائمة على الحكي الروائي وصناعة الحبكة حتى الوصول إلى ذروة الأحداث، انطلاقًا من مكان وتاريخ محدد في بداية كل فصل، أو معركة دموية من معارك وفصول كتابه، وتنتهي بتعقيب المؤلف على الأحداث وتحليلها.
ويذيل المؤلف كل فصل من فصول الكتاب بمجموعة من المصادر التراثية والدراسات المتخصصة، التي استقى منها مادته دون تفاصيل عن الطبعات أو الإحالة إلى صفحات بعينها، ما قد يحتاج مزيدًا من التوضيح والإشارة.
جاءت ألفاظ الكتاب في بعض الأحيان متكلفة لغويًّا لدى القارئ العام، بالنظر لأن بعض الفقرات منقولة من متون المصادر التراثية المعاصرة لوقائع الأحداث التي يرويها الكتاب، كما أن بعض موضوعات الكتاب سبق أن تناولها المؤلف في مؤلفات سابقة له.
وختامًا، فإن إدراك المشكلة هو منتصف الطريق لحلها، وتناول بعض الأحداث الدموية في العهد الذهبي للإسلام من منطلق التتبع التاريخي للأخطاء البشرية، وتحليل تداعيتها المتعلقة بالحُكم والحرب والمطامع السياسية، أمر لا مفر منه، فالتاريخ وقائع حدثت بحلوها ومُرهّا، ومن لم يتعلم من التاريخ فلا معلم له.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020