المؤلف محمد صفاء عامر..
ما يميز الإنسان المبدع عن غيره من سائر البشر هو اختياره الدائم للطريق الأكثر صعوبة، الأمر الذي يمكنه بسهولة من الدفع بكل الاستقرار والأمان المجتمعي الذي ينعم به في مقابل حياة جديدة كليا يعمها الغموض لا يعلم عنها شيئا ولا يستطيع التكهن بها ولكنه يشتهي العيش فيها، هذا بالتحديد ما فعله مستشار محكمة الإسكندرية محمد صفاء عامر بتنحيه عن منصبه مقدما استقالته في سبيل التفرغ من أجل كتابة الأعمال التلفزيونية والسينمائية، فمن هو محمد صفاء عامر وما هو السبب الذي جعله يتخذ مثل هذا القرار؟ وهل تسبب هذا القرار في إثراء الحركة الفنية؟
مذبحة القضاة واضطرابات يوليو
ولد كاتب السيناريو محمد صفاء عامر في 22 يناير 1941، بمحافظة قنا مركز دشنا قرية فاوغرب والتي تنتمى إلى قبيلة البلابيش، تخرج في كلية الحقوق عام 1963، وعمل في السلك القضائي حتى أصبح مستشارًا بمحكمة الإسكندرية، ولكن فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وقتها تسببت في تقديم محمد لاستقالته وتفرغه للكتابة وذلك بسبب "مذبحة القضاء الشهيرة" حسب تأكيد المخرج مجدي أبو عميرة.
ينظر المجتمع المصري إلى القضاة بوصفهم ظل الله على الأرض ولهذا فهم في مكانة تكسبهم التقدير والاحترام المجتمعي دائما، فالقضاء بمفرده هو أحد الأعمدة الرئيسية لقيام الدولة واستمرارها وقوتها وقبلة الشعوب لتحقيق العدالة من جور السلطة وتجاوزات أصحاب المصالح وإنصاف الشخص الواقع عليه الظلم، فالقضاء هو من يمكنه أن يجبر الحكام والمحكومين على الالتزام بالشرعية والخضوع للقانون العام الذى ارتضته الدولة لنفسها، وتاريخ القضاء فى مصر تحديدا يبدأ منذ الحضارة الفرعونية والعديد من الرسومات أكدت القيمة العليا للقضاة، وبالتأكيد مرت مصر بالعديد من الأنظمة القضائية فى ظل توالى الحكام عليها، حتى استقر النظام القضائى الإسلامى منذ الفتح العربى لها.
ولكن عقب أحداث ثورة يوليو في ظل حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حدثت بعض الاضطرابات تسببت في الإخلال بهذه الصورة السابقة حتى أصبح كل من لا شأن له يتطاول على القضاة، ففي أعقاب ثورة 23 يوليو وفي ظل تأميم الحياة السياسية والديمقراطية في مصر شهدت العلاقة بين بعض ضباط الجيش والقضاة صدامات حادة وعديدة، وهذا كان بسبب رغبة البعض منهم في فرض هيمنته والفوز بجميع السلطات العليا، لذلك كان طبيعياً أن ينتهي الأمر بصدام مروع بين الطرفين وهو ما عرف تاريخياً في أغسطس 1969، باسم "مذبحة القضاء"، والتي تم وقتها التخلص من أكثر من (مائتي)قاضيعن طريق عزلهم بسبب مخالفة القانون، ولكن فيما بعد تم الكشف عن عدم مصداقية هذه التقارير وزيفها مما ترتب عليه تسمية مذبحة القضاة.
ولهذا فقد قرر محمد صفاء عامر أن يستقيل من وظيفته والتي كانت "مستشار محكمة الإسكندرية" مع تحد جديد له وهو كشف الفساد القابع في أسفل مصر، في الصعيد.
كيف نقل الصعيدي الصعيد؟
لن تكون مبالغة إن تم القول إنه لولاكتابات محمد صفاء عامر التلفزيونية والسينمائية لم يكن من الممكن مشاهدة دراما صعيدية بمثل هذه الحرفية والدقة ولا كان المشاهد علم شيئا عن ثقافة أهل الصعيد وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم ولهجاتهم، فقد صنع رصيد حقيقي وثمين داخل ذاكرة المشاهد المصري، ولهذا فإلى الآن مازالت أعماله التلفزيونية الأقرب إلى قلب المشاهد، وهذا ليس بسبب دقة التفاصيل وكشف أسرار هذا المجتمع وإنما بسبب اللهجة أيضا.
وضع صفاء عامر مبدأ أساسيا في اللهجة الصعيدية المنطوقة في أفلامه ألا وهي التحدث بلهجة أهل قنا فقط، وهذا ليس بسبب كونه ابن لهذه المحافظة ولكن أيضا أدرك خلال عمله في السلك القضائي والذي أتاح له التنقل لمعظم محافظات الصعيد أن لهجة محافظة قنا هي أقرب اللهجات على أذن المشاهد المصري فلا يشعر بالغربة من الحوار الذي يتم تقديمه أمامه بل يتشارك معه بانتظاره الأحداث الجديدة بفارغ الصبر.
من الأعمال المميزة التى تركت أثرا كبيرا لدى المشاهدين ذئاب الجبل،والضوء الشارد،ومسألة مبدأ، وحدائق الشيطان،وأفراح إبليس،وحق مشروع، وحلم الجنوبي ومن الأفلام السينمائيةصعيدي رايح جاى،واتفرج يا سلام، والهروب إلى القمة، وعند مشاهدة هذه الأعمال يتم ملاحظة وجود قضايا بعينها يتم تكرارها.
الصعيدي الحامي للآثار والتاريخ
يعرف صعيد مصر بأنه منبع الآثار المصرية والأمر هنا لا يختص الآثار الفرعونية فقط ولكن اليونانية القبطية أيضا بسبب تاريخها الحضاري الخصب، ومن هذا المنطلق اهتم صفاء عامر في طرح هذه القضية الشائكة بسبب تكرار محاولات سرقة بعض أهالي الصعيد لآثارنا محاولين بيعها خارج مصر بأعلى سعر، ولهذا فقد طرح الأمر في المسلسل التلفزيوني "حلم الجنوبي" من تأليفه وإخراج جمال عبدالحميد، وبطولة صلاح السعدنى، محمود الجندى، حسن حسنى، جيهان فاضل، عبدالله فرغلى، يوسف داود، سعيد طرابيك، مصطفى متولى، طلعت زكريا، محمد كامل، أبوبكر عزت، سيمون، معالى زايد، شوقى شامخ، أحمد السقا، سناء شافع، عهدى صادق، آلان زغبى، وأحمد سامى عبدالله.
تدور أحداث المسلسل حول نصر وهدان القط، فهو مدرس التاريخ الصعيدي العاشق للحضارة المصرية القديمة، يذهب إلى منزل الثري الأقصري عمران الجارحي -الذى يعمل فى تجارة الآثار الفرعونية- ليطلب يد ابنة شقيقه زينب، يوافق عمران على خطبة زينب، مستغلاً إجادة العريس للغة الهيروغليفية، فيخبره عن عثوره على بردية فرعونية قديمة فى مقبرة فرعونية وأنه يسعى جاهدا لبيعها لتجار الآثار الأجانب، ولكن عقب قراءة نصر لمحتوى البردية، أدرك مدى أهميتها في تحديد موقع مقبرة الإسكندر المقدوني فى مدينة الإسكندرية، فيراوغ ويرفض إعادتها.
وطرحت هذه القضية مرة أخرى ولكن في عمل سينمائي وبصورة كوميدية وهو الفيلم الكوميدي "صعيدي رايح جاي" الذي عرض في عام 2001، من بطولة هاني رمزي والراحلين عبدالله فرغلي ويوسف داوود وإخراج محمد النجار، وتدور أحداثه حول "فضل" مدرس التاريخ الصعيدي ولكنه يعمل في القاهرة، وخلال أحداث الفيلم ندرك أن والده وهو "العمدة البهنساوي" وصديقه شيخ الخفر يبحثان عن المقابر الأثرية في الصعيد ويبيعامحتوياتها إلىعصابات تهريب الآثار، وفي أحد الليالي يختلف العمدة مع شيخ الخفر فيستغل أحد العصابات هذا الخلاف ويقتل شيخ الخفر، وتلصق التهمة بالعمدة.
عاهات وتقاليد
من المنصف إدراك إمكانية تحول العادات القديمة إلى عاهات جديدة، فليس من المنطقي أن يحدد مصير شخص بسبب نشأته في مكان مصحوب بقوانين محددة منذ سنين وعليه اتباعها رغما عنه ولهذا طرح صفاء عامر مشاكل كبري في العادات والتقاليد الصعيدية ومنها "قانون العائلات الخاص" و "تقاليد الزواج" في اثنينمن أهم كتاباتهالدرامية وهمامسلسل "الضوء الشارد" ومسلسل "ذئاب الجبل".
فنجد القضية الخاصة بقانون العائلات هي أساس مسلسل الضوء الشارد والذي تدور أحداثه حول مشكلة الصراع الطبقى بين الإقطاعيين القدامى متمثلين فى عائلة العزايزة العريقة وطبقة الملاك الجدد متمثلة فى عائلة السوالم، ولعائلة السوالم تاريخ قديم وهو أنهم كانوا أجراء فيما مضى ولهذا لجأ السوالم إلىالطرق غير الشرعية من أجل الحصول على المال لمنافسة العزايزة على السلطة لأنها كانت حكرا على العزايزة فقط.
المسلسل من إخراج مجدى أبوعميرة، قصة وسيناريو وحوار محمد صفاء عامر، وموسيقى تصويرية ياسر عبدالرحمن، وبطولة محمد رياض، رانيا فريد شوقي، سميحة أيوب، سمية الخشاب، رشوان توفيق، أحمد سلامة،سلوى خطاب، وجمال إسماعيل.
أما القضية الخاصة بحق البنت في الزواج مما تريد فقد تم طرحها في مسلسل "ذئاب الجبل" والذي تدور أحداثه في بلدة تسمى "بهتون الجبل"والتي تعيش فيها عائلة "هوارة" وهذه العائلة تلتزم بالعديد من العادات والتقاليد المتعصبة، ولكن الشيخ بدار قام بكسر هذه العادات المتعارف عليها عن طريق تزويج ابنته إلى رجل غريب عن العائلة، أي خارج عن هذه الأسرة، فهذه العائلة لا يسمح لبناتها أن تقرن بأحد من خارجها، هذا الأمر هو الذي دفع شقيقها لأن يحاول قتلها، وتستمر أحداث المسلسل إلى أن يُتهم أخيها بقتلها على الرغم من أنه لم يقتلها ولهذا يضطر للهرب إلى مدينة الإسكندرية.
المسلسل من تأليف الكاتب الكبير محمد صفاء عامر، وإخراج مجدي أبو عميرة،بطولة عبد الله غيث، حمدي غيث، زوزو نبيل، إنعام سالوسة، فاروق نجيب، رجاء حسين، أحمد ماهر.
كانت الدراما المصرية محظوظة بتخليه عن السلك القضائي واتجاهه إلى الكتابة الدرامية خاصة الكتابة عن صعيد مصر، الأمر الذي يجعل اسمه يذكر كلما ذكر جملة "أحداث الدراما تدور في صعيد مصر".