الخميس 27 يونيو 2024

لا عقوبة على خيال

فن18-10-2020 | 20:48

في البدء كانت الكلمة، وستظل، هي النبراس الذي يضيء عتمة الدرب، ولأن للكلمة أمانة يثمنها أهل الذوق والعقل، ويشعر بوطأتها من يحسن تقديرها وتوظيفها، ظلت طريدة بين مؤيد ومعارض.. بين موظِّف لها ومنتفع بها.. ظلت سلاحا جميلا يشق عتمة العقول والقلوب وسلاحا حادا أيضا يُسلَط على رقاب أهل الكلمة خاصة المبدعين منهم.


ومن قديم وأهل الكلمة البديعة والمستنيرة موضع جدل ومجابهة قد تصل إلى حد المحاربة أو المحاكمة، فلم يسلم التوحيدي وأبو الطيب والحلاج من الرمي بالزندقة، ولم يسلم المحدثون أيضا من الاتهام بالكفر والخروج عن الملة وازدراء الأديان والذات الإلهية والدعوة إلى الفجور، وشهدت المحاكم قضايا شهيرة في هذا الشأن، تتعلق بكتب وكتابها أو بناشريها، وشملت ألوان عدة من الإبداع الأدبي كالنقد (الشعر الجاهلي)، وكتب التراث(ألف ليلة وليلة) والرواية(استخدام الحياة)، وحتى قصائد الشعر(تحت شرفة ليلى مراد) والسيناريو(قضية الفنان عادل إمام).


إن الدعوة لإقامة الحد على المبدعين تعكس اتجاها فكريا ظلاميا من جهة، وفي المقابل يأتي انتصار القضاة للكلمة المبدعة ممثلا لتيار مستنير من جهة أخرى، فما أورده "محمد نور بك" وكيل نيابة عموم مصر من أسباب حفظ التحقيق مع طه حسين بشأن كتابه(الشعر الجاهلي) يشير إلى أنه على وعي ودراية بأن الأسلوب المستخدم في النص الأدبي يختلف عن نفس الألفاظ حينما ترد في الخطاب العادي.. فكان منهج محمد نور الدين بك، والذي صاغه في منطوق قرار حفظ التحقيق:«من حيث إن العبارات التى يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين الإسلامى، إنما جاءت فى كتاب فى سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذى ألف من أجله، فلأجل الفصل فى هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها، والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلا لتقديرها تقديراً صحيحاً وبحثها حيث هى فى موضوعها من الكتاب، ومناقشتها فى السياق الذى وردت فيه، وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسؤوليته تقديرا صحيحا».


ثم يورد سببا آخر لحفظ التحقيق: «غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه، إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، حيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، تحفظ القضية إداريا».


إن هذين المقطعين من القرار الصادر في 30 مارس 1927، يعكسان أهمية كبرى، لذلك لا يجب النظر لما كتبه محمد نور بك على أنه مجرد قرار نيابة، بل على أنه منهج يجب أن يحتذيه كل متصدٍ للحكم في مثل هذه القضايا، وأن يكون القاضي على دراية ووعي بخصائص الأسلوب الأدبي، والمعايير الفنية المتعلقة بنقده وتقييمه فنيا.


كذلك أتى حكم القاضي سيد محمود يوسف رئيس محكمة شمال القاهرة الصادر في 23يناير 1986، برفض مصادرة كتاب (ألف ليلة وليلة) معليا شأن الإبداع، ومبينا اختلافه عن الخطاب العادي؛ فجاء حكما تاريخيا اعتمد على أسانيد قانونية وعلى حجج فكرية قوية؛ تعكس مدى تميز القاضي واتساع وعيه، وإلمامه بجوانب المعايير الفنية المرتبطة بموضوع القضية؛ وبتثمينه للقيمة الفكرية والإبداعية للكتاب، الذي«هو من أشهر كتب التراث العربية التي لها طرائقها الخاصة في التأليف المخالفة لطرائق التأليف المعاصرة، وإلا ما كانت كتبا تراثية».


كذلك استنارته في استكناه جوهر الكتاب والغاية من تأليفه، فالقصد الذي يتجلى من وراء حكايات ألف ليلة وليلة، إجمالا، بعيد كل البعد عن فكر انتهاك حرية الأخلاق، فهو والكتب المماثلة لألف ليلة، «كتب جد وهزل في آن واحد، وأن هزلها يعين على إدراك جدها، فهي كالأعمال الجمالية التي تقرن الجمال بالمنفعة والتسلية بالتعليم، دون أن تخرج على الأخلاق في التحليل الأخير، لا الأخلاق بمعناها الضيق، وإنما الأخلاق بمعناها الأرقى والأشمل والأعمق الذي يستخلص قيم الفضيلة من أفعال الرذيلة».


ومعرفته الحقة بأهمية السياق ـ كنظام تتساوق فيه الكلمة مع كلمات أُخر داخل نظام الجملة، مما يكسبها معنى خاصاً محدداً. فالمعنى في السياق هو بخلاف المعنى الذي يقدمه المعجم؛ وعليه «فالعبرة في مثل هذه الأعمال بالمحصلة الكلية والنهائية، وقياسها الجمالي كالأخلاقي لا يقوم على انتزاع هذا الجزء من العمل والحكم عليه في ذاته، وإنما رد الأجزاء إلى الكل والحكم على كل جزء من خلال البناء الكلي الذي ينتسب إليه». 


فحسبه - وفق تعبير الدكتور جابر عصفور- الاستنارة الفكرية التي تتجلى في طرائقه في استخدام المنطق السليم من ناحية، وقياس النتائج على أسبابها المنطقية، فهو يحسن التعليل العقلي والقانوني في آن واحد.


جاء تفنيدات أحمد سميح الريحاني لحكمه ببراءة كاتبي السيناريو: لينين الرملي ووحيد حامد، والمخرجين شريف عرفه ونادر جلال، والفنان عادل إمام ـ جاءت معبرة عن مدى إلمامه بالفوارق اللغوية بين النقد كمفرق بين الجيد والرديء، والإغماص كمحقِّر ومقلل من الشأن، كما جاءت تفاسير القاضي للاستخدامات الخاطئة لبعض المصطلحات، وبيان آثارها السلبية، معبرة عن عين تحسن التأمل وتقدير العواقب بربط المقدمات بالنتائج المترتبة عليها: «إن استخدام هذا المقياس الفضفاض(المسمى بالأفكار المتطرفة) والذي لا يبين حدا ضابطا لما يعد متطرفا وما يعد غير متطرف، الأمر الذي يهدد بأن ينتهي بالنظام القانوني بما يشبه محاكم التفتيش فيفتح باب التفتيش في الأفكار، ومن ثم العقائد والحجر عليها بدعوى الهرطقة بالمفهوم المسيحي تارة، والردة والزندقة بالمفهوم الإسلامي تارة أخرى، ويرد المجتمع بأثره إلى الظلامية والجمود».


كذلك يستعرض الحكم آراء التنويرين كقاسم أمين ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وابن رشد، والقانونين المصريين والدوليين، وإعادة قراءة المقولات المتوارثة، ورفض تأليه الأشخاص وتقديسهم، ما يؤكد إمعان القاضي في بحث كل صغيرة وكبيرة تتعلق بقضيته، ومعرفته بمدى أثر حكمه على مجتمع بأثره وليس على ستة أفراد هم الموجه إليهم الاتهام.


وحين قضت محكمة جنح بولاق أبوالعلا، برئاسة إيهاب الراهب، والمنعقدة في 2يناير 2016 بمجمع محاكم الجلاء، ببراءة الروائي أحمد ناجي بتهمة خدش الحياء العام، ورئيس تحرير صحيفة أخبار الأدب طارق الطاهر بتهمة التقصير في مهام عمله للسماح بنشر فصل من رواية(استخدام الحياة).. حينها ظهرت أهمية أن يستعين القاضي بالخبراء المتخصصين في الأدب، على غرار استدعاء الخبراء في الاقتصاد والطب والضرائب، فقد طالب القاضي إيهاب الراهب بالاستعانة بشهادة كل من الكاتب محمد سلماوى، والروائي صنع الله إبراهيم، والناقد الدكتور جابر عصفور، والذى حضر الجلسة متأخرا ولم تأخذ المحكمة شهادته، وكان الاتكاء على ما قاله محمد سلماوي وصنع الله ابراهيم كأهل اختصاص سببا في إصدار القاضي حكمه المستنير، وهذا بدوره يبين مدى احترام إيهاب الراهب لقدراته القانونية من جهة، ولتقييمه المبدعين المتخصصين من جهة أخرى، كما يؤكد أيضا من خلال شهادة محمد سلماوي على أهمية الاستناد للسياق الكلي حين الحكم على نص أدبي: « من المبادئ الراسخة فى النقد لمن درسوه أن العمل الفنى لا يؤخذ إلا فى مجمله لأن المقصود منه هو تأثيره الكلى على المتلقّى وليس تأثير جزء واحد منه منفصلا عن السياق الذى جاء به، لذلك لا يمكن لنا أن نجتزئ قطعة من تمثال لرائد فن النحت المصرى الحديث محمود مختار، مثل ثدى الفلاحة فى تمثال نهضة مصر الشامخ أمام الجامعة ونعرضه وحده على الملأ، وإلا كان بالفعل خادشا للحياء لأنه خرج عن المعنى الوطنى الذى يرمز له التمثال ليصبح تأثيره حسيا بحتا، فما يخدش الحياء فى الحياة لا يكون كذلك فى الفن، وفى الوقت الذى يخدش حياءنا مشهد العرى فى الطريق العام فإننا نرسل طلبة المدارس إلى المعارض والمتاحف التى تضم لوحات فنية قد يكون بها بعض العرى دون أن يكون فى ذلك ضررا عليهم».


هؤلاء قضاة استثنائيون انحازوا للأدب والفن والإبداع بوجه عام، بغية رفع ذائقة المتلقي، وانتشار الجمال في مواجهة القبح.. وأعلوا من قيمة التخييل، ومنعوا مروجي القبح من الانقضاض على رقبة الخيال فحرروه من قبضتهم بمبدأ(لا عقوبة على خيالٍ مبدِع).