بقلم عزة سلطان
في عالم الحكايات هناك دومًا بطل، يختلف الأبطال، بشرًا كانوا أو حيواناتٍ أو طيورًا، لكن هل تخيلت أن يكون البطل كتابًا؟ وللدقة ديوان شعر، وبالتحديد مخطوطًا تأتي الحكايات على لسانه، ويستمر الحكي في نحو (432) صفحة من القطع المتوسط، دون أن ينساب الملل إلى القارئ.
هو تَحَدٍّ للمؤلف إسكندر بالا، مؤلف رواية "الموت في بابل والحب في إسطنبول"، التي صدرت ترجمتها العربية عن دار العربي للنشر والتوزيع، ترجمة ريم داوّد.
يُعطي الناشر في كلمة الغلاف بعضًا من تفاصيل الرواية، كما هي عادة كلمات الغلاف، لكن المتعة والمفاجأة الحقيقية حين يشرع القارئ في القراءة.
نحن إذن نتعرف إلى الحكاية من مخطوط، لديه وعي بنفسه كمخطوط ومراحله وترميمه، وهو ليس أي مخطوط، فهو عبارة عن ديوان شعر يحمل شفرة سرية للوصول إلى كنز مادي وعلمي، لجمعية قُتِلَ كل أعضائها.
يلعب المؤلف بخطوط درامية متنوعة، فالراوي هو المخطوط، وهو الذي يمثل العمود الفقري في الحكي. وعن طريقه يتم التنقل بين الشخصيات التي تحوز المخطوط، فهناك نساء عاملنه برقة ومحبة، وما ينطبق على ذلك من خط للرومانسية وقصص الحب، وهناك من يسعي للحصول على المخطوط في محاولة لفك شفرة الكنز.
فنقرأ على لسان المخطوط: "في ذلك النهار، كنت أشعر بآلام رهيبة في جسدى؛ جراء خطوات التجليد المختلفة" ص 92.
تتلاعب خطوط السرد، فالروائي تمكن من نسج قصة خيالية، هي جماعة بابل بما فيها من تشويق وإثارة، وما يستتبعها من جرائم وألغاز، ومحاولات كشف للشفرة والأسرار الملحقة بهذه الجميعة وكنوزها المخبأة. حيث يبدو المخطوط هو بؤرة انطلاق الأحداث ونقطة التلاقي، فعن طريقه ندور في عوالم المتصوفة، ثم يسحبنا المخطوط إلى قصر السلطان سليم، بعوالمه وعالم الحرملك والجواري، ثم عمليات سطو وقتل سعيًا للحصول على المخطوط الذي يحتوي الأسرار. هكذا يبرع المؤلف في الانتقال بين خطوط السرد، متوازنًا بين ما هو رومانسي وما هو تاريخي، بحيث تُصبح الرواية عملًا يحقق أغراض تنوع الذائقة لدى القراء.
أن يكون الكتاب / المخطوط بطلًا، يعني أن تتعامل مع جماد، وهي حالة مختلفة في السرد المُوَجَّه للكبار، على أن البطل واعٍ لنوعه، فليس هناك سمة الراوي العليم، فقد جعل "بالا" بطله يحمل شفرة، ومن ثم فالمخطوط يحكي ما يدور من حوله مهما اختلف غرض مالكه.
"تصفحوا أوراقي منذ البداية من جديد، وأعادوا قراءة الأبيات التي تحتوى على شيفرات، وهي التي تحمل أرقام 6.7، 617، 687 .. (ص287). في ضحى أحد الأيام أنهى "نفعي أفندي" عمله في مكتب المحاسبة، وتأبطني مُتجهًا إلى القصر، جلسنا حول المدفأة، مع غيرنا من الضيوف..عرفت لاحقّا أنه قد شُنق داخل مخزن أخشاب التدفئة في القصر، ثم أُلقيت جثته في مياه البحر، تنفيذًا لتوجيهات "بيرم باشا" الذي بلغت مسامعه الأبيات التي انتشرت بين الناس" (ص 267) .
يكشف إسكندر بالا عن مهاراته كروائي يمتلك أدوات السرد، فالحبكة الدرامية متماسكة، والجهد البحثي الموجود عبر خطوط السرد بين ما هو تاريخي وما هو تخيلي، وتماسك الخطوط الدرامية، كل ذلك يُقدم لنا روائيًّا غير اعتيادي، وعملًا روائيًّا نعيد من خلاله كشف أدوات الكاتب، فالبطل يمكن أن يكون أي شيء، شريطة أن تمتلك مهارات إدارته.
جاءت الرواية في ترجمة بديعة لريم داوود، التي قدمت عملًا يصعب خلال قراءته اكتشاف أن القارئ بصدد قراءة ترجمة، وليست لغة العمل الأصلي، ونُشرت الترجمة وفق سلسلة كتب مختلفة قدمتها دار العربي للنشر والتوزيع.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020