بقلم د. زين عبد الهادي
يبلغ الحجم الاقتصادي لصناعة الدوريات في العالم ما قيمته 62 مليار دولار سنويًّا ، ويعمل في هذه الصناعة نصف مليون إنسان، وحوالي 30 ألف شركة على مستوى العالم. لكن نصيب العالم العربي منها أقل من 2%، ونصيب مصر أقل من 1%. ومع تفشي فيروس كورونا، فمن المُتوقع حدوث انخفاض كبير في الأرباح هذا العام. (التقرير الاقتصادي لصناعة المجلات في العالم، 2019)
من البديهي أن صناعة النشر هي قضية اقتصادية بحتة، وفي القضايا الاقتصادية، من أشد الأمور مضاضةً على النفس أن يكون لديك المعرفة والخبرات اللازمة لترتقي بصناعة الدوريات (المجلات) إلى مصاف الدوريات العالمية، ورغم ذلك لا تستطيع - لأسباب تنظيمية ومهنية - أن تحقق هذا الحُلم. فنحن لدينا العلماء والمؤسسات العلمية، ولدينا اقتصاد يُتيح لنا المنافسة، فما الذي ينقصنا لنضارع المؤسسات العالمية؟ وللعلم، فإن هؤلاء - في أغلبهم - ناشرون من القطاع الخاص. بل إنهم - أيضًا - يستعينون بخبرات من العالم العربي لصناعة مجدهم الحالي والمستقبلي.
أَتَذَكَّر أن إحدى المؤسسات العالمية، العاملة في قطاع صناعة الدوريات، خاطبتني - عام 1999 - لحضور ورشة عمل أتحدث فيها عن أمرين: الأول، ما القطاعات الأكثر ربحًا في صناعة الدوريات؟ والثاني، كيف يمكن لي - كناشر للدوريات - أن أواجه مجتمع المعرفة؟. وانتهزت الفرصة لأطرح أيضًا مجموعة من الأسئلة في مجالات أخرى، تتعلق بمعايير إنتاج الدوريات العلمية والعامة، وأهم النماذج في هذا المجال، والعائدات الاقتصادية لها، وكيف يمكن المنافسة معها. وأظن أن تلك الدار - الآن - أصبحت واحدة من أهم دور النشر على مستوى العالم في صناعة قواعد بيانات مقالات الدوريات.
ظهرت شبكة الإنترنت على المستوى العالمي، ومنذ عام 1990انتشرت مثل النار في الهشيم. وحَدَثَ أنني استُدعيت من الخارج للعمل في واحدة من أهم المؤسسات المصرية آنذاك، وهي "مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار" التابع لرئاسة مجلس الوزراء المصري. في هذا الوقت كنا نضع المعايير اللازمة لبناء مجتمع المعرفة في مصر على أساس مؤسسي، يبدأ بالمؤسسات الحكومية، وكان من المفترض لهذه المعايير أن تنمو لتشكل نماذج متعددة في جميع قطاعات الدولة، واستمر الحال على ذلك حتى عام 2000، ثم بدأت الأمور تأخذ منحًى آخر.
كنت على يقين أن استخدام الإنترنت في المؤسسات الحكومية والأهلية والخاصة في مصر ما هو إلَّا مسألة وقت، وأنه لن يستغرق أكثر من عقد من الزمان حتى تكون كل المؤسسات قد تحوَّلت - بالكامل - إلى الشكل الرقمي. ويبدو أنني كنت متفائلًا أكثر من اللازم، إذْ لم أضع في حُسباني عوائق مثل: نقص الموارد وضعف استراتيجيات التطبيق ومجموعة أخرى من التعقيدات، وقبل هذا وذاك عائق المقاومة للتغيير. وأدركتُ - حينذاك - أن التغيير المنشود لن يبدأ إلَّا من متخذ القرار، وهو ما عشت لأراه في هذا العام، في مشروع البنية التحتية الرقمية بالعاصمة الإدارية، الذي يقوده رئيس الجمهورية. ذلك هو بداية الخيط الذي كان يجب أن يحدث منذ عشرين عامًا، وأنا أكتب هذا الكلام بصفتي عالمًا وأستاذًا مُتَخَصِّصًا في علم المعلومات.
أعود لما بدأت به، وهو صناعة الدوريات في العالم. إذْ كان بإمكان الناشرين المصريين أن يُحَوِّلُوا وجهة صناعة النشر في مصر، ولكن ضعف التعاون بين الأقسام العلمية بالجامعات وبين الناشرين (وفي كل التخصصات بالطبع) أدَّى إلى ما يشبه الانهيار لهذه الصناعة. دليل ذلك أنها باتت تعتمد على استقطاب أموال المغامرين الباحثين عن الربح السريع، بغضّ النظر عن إحداث التطوُّر المنشود. ليس هذا فحسب، بل إن الإنتاج التقليدي للدوريات استمر على نفس المنوال، في ظل الاستسلام لبعض المستثمرين العرب الذين لا عهد لهم بهذه الصناعة. في حين أن تحالف الناشرين المصريين بإمكانه - دون تكلفة باهظة - أن يُنتج صناعة فريدة لمصر، تحقق ملايين الدولارات. ولكن صناعة النشر المصرية - مع شديد الأسف - تقوم على استثمارات وتحالفات عائلية، شأن أغلب الصناعات في مصر، بمعنى أن تحقيق الربح أهمُّ من إحداث التطوير.
تحتاج صناعة نشر الدوريات إلى تغيرات ثَوْرِيَّة وإلى اتفاقات مؤسَّسِيَّة، فهل حان الوقت لنوع من هذه الثَوْرِيَّة في صناعة النشر بشكل عام؟، وصناعة نشر الدوريات بشكل خاص؟ أعني ثَوْرِيَّة تشبه ثَوْرِيَّة قيادة الدولة - مُتَمَثِّلَةً في رئيس جمهوريتها - من أجل تحويل مصر كلها إلى دولة رقمية، وما يمكن أن يقدمه هذا التَّحَوُّل من خيارات اقتصادية عظيمة، تنهض بالدولة كلها إلى مصافّ الدول العُظمى، وترفع من متوسط دخل الإنسان المصري وصحته إلى المستوى المأمول!.
لقد أتاح رئيس الدولة النموذج الأكبر لهذا التَّحَوُّل. ومن هنا، فإن الصناعات المصرية - وعلى رأسها صناعة النشر - لم يَعُدْ أمامها خيارٌ سوى أن تقوم بتحويل نفسها وخطوط إنتاجها واقتصاداتها، حتى يمكن لنا إنتاج صناعات إبداعية جديدة.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 يونيه ويوليو 2020