السبت 8 يونيو 2024

"في بيتي.. جدران من الأحباب".. من كتاب هيكل المذكرات المخفية لـ"محمد الباز"

فن19-10-2020 | 12:16

"الهلال اليوم"، تنشر فصلاً من كتاب "هيكل المذكرات المخفية"، للإعلامي الدكتور محمد الباز. الفصل بعنوان "في بيتي.. جدران من الأحباب"، وجاء فيه:

"أتينا إلى بلدة ديروط الشريف قبيلة من بلاد العرب عبرت، وتركت فروعها فى كل مكان حتى استقرت فى صعيد مصر، ثم هاجر جدى لأبى إلى الشمال وجاء والدى بتجارته إلى القاهرة.

تلقيت دروس تحفيظ القرآن فى مندرة جدى لأمى فى حى الحسين مع أطفال العائلة من الشيخ قاسم فى بيت جدى بالحسين، كان الشيخ قاسم موظفا مستديما لدى جدى، وكان من يحفظ جزءا كاملا من القرآن يجازى من الجد جزاء حسنا، فإذا ختم المصحف فنصيبه جنيه ذهبى، وكان يحضر معنا أحيانا دروس القرآن بعض أطفال بيوت جيراننا، ومنهم بيت الرافعى وبيت الرزاز. 

كان جدى يصطحبنى معه إلى سيدنا الحسين لأجلس إلى جواره فى مقصورة المسجد لأستمع إلى مشاهير العلماء والقراء فى ذلك الوقت: الشيخ على محمود والشيخ على حزين والشيخ محمد رفعت والشيخ عبد الفتاح الشعشاعى.

من وقتها والأصوات الجميلة الندية تطربنى، لدرجة أننى كنت أقول لمن حولى مبتسما وربما ساخرا: لو أن صوتا لا يتقن التلاوة أو به نشاز قرأ القرآن على قبرى فإننى قد أموت فيها.

فى منزل جدى لوالدتى وهو من عائلة سلام المعروفة، كان هناك تقليد صارم لكل أطفال العائلة، وهو حتمية تعلم وحفظ القرآن، وكان فى بيت جدى مندرة مليئة بالكتب، جمعها جدى وخالى من مكتبة صبيح بالأزهر، وبيت جدى كان موجودا فى المنطقة التى بها مشيخة الأزهر الجديدة، وهذه المنطقة كانت مقرا للتجارة الوطنية فى مصر، وتمتد إلى ميدان الأوبرا والسكة الحديد حتى ميدان عابدين، وهو الخط الفاصل بين قاهرة التجارة الوطنية، وقاهرة التجارة الأجنبية، كما كانت المكتبات ودور النشر تتمركز إلى جوار المنطقة التى بها بيت جدى وهى المنطقة التى يطلقون عليها الآن السكة الجديدة والأزهر والغورية، فالتجارة الوطنية كانت فى هذه المنطقة، وفى الجهة المقابلة كانت البنوك الأجنبية.

وقد ساهمت هذه المنطقة بكل ما تحمله من زخم دينى فى تشكيل ملامح شخصيتى الأولى، هذا إضافة إلى البيت الذى يحمل استعدادا ثقافيا كبيرا، وهنا أؤكد على أننى ولدت بمنطقة الحسين وليس فى قرية باسوس فى القليوبية كما يكتب الكثيرون.

القرآن الكريم كان الرافد الثقافى الأول فى حياتى، بعد أن تحول إلى واجب عائلى، فقد كان على وعلى كل أطفال العائلة أن نتعلم القرآن، ثم الافتتان بالسير الشعبية، ومنها إلى المجالات الأدبية المختلفة، والفضاءات الثقافية المفتوحة، والثقافة بشكل عام عملية مستمرة تعيش مع الإنسان من ساعة مولده إلى ساعة موته، وتحتاج إلى المعايشة، فليس من المعقول أن أطلب منك أن تتصور معرضا أو مكتبة أو مرسما، لأن عليك أن تتعايش مع هذه الأنشطة الثقافية حياة بالدرجة الأولى، تدفعك إلى إمتلاك النظرة الكلية إزاء الزمن والعصور والتطورات والتاريخ.

أول كتاب قرأته كان " أدب الدنيا والدين"، وعانيت كثيرا فى فهمه، وقرأت بعد ذلك فى دواوين الشعر وفى كتاب الأغانى للأصفهانى، وفى كتاب ألف ليلة وليلة، ثم جذبتنى كثيرا كتب السير الشعبية مثل ذات الهمة والظاهر بيبرس، وقد التفت إليه طفلا يهدهده ملاك النوم بينما نبرات صوت أمى تهبط وتعلو بانفعال مواقف دراما السطور وهى تقرأ لوالدى سيرته.

الظاهر بيبرس واحد من الشخصيات التى تأثرت بها كثيرا، لأنى رأيت فيه صورة البطل، وأحببت فيه أنه بطل استطاع تغيير أقداره، فرغم أنه بيع كمملوك بعشرة جنيهات من الذهب، فى حين أن أقرانه يباعون بمائة جنيه أو أكثر، وذلك لأنه كان يعانى من نقطة بيضاء فوق عينه، ورغم هذا استطاع تكوين أفضل وأقوى إمبراطورية مملوكية فى ذلك الوقت بعد انهيار عصر الخلفاء، وباختصار كان بيربس علامة مميزة فى عصره.

(2)  

كان أبى يخطط لمستقبلى، وخطته أن أكون فى خدمة العلم، ونذرنى للأزهر، وانتظمت أولا فى التعليم حتى حان الوقت للأزهر، وكان لى إخوة أكبر منى من زوجة طيبة سابقة من الريف، وكان إخوتى يعملون معه فى تجارته، كان ذلك ما تفعله عادة أسر الطبقة المتوسطة فى مجالات الزراعة والتجارة.

الجيل الأول من الأبناء مع الآباء، والجيل الثانى للعلم والدين، والجيل الثالث لوظائف الحكومة.

تمنت أمى لى مستقبلا آخر، وما إن سافر أبى فى رحلة لمدة خمسة عشر يوما، حتى سارعت بالإتصال بأخيها واتفقا على أن ألتحق بالمدرسة الأميرية، وبالفعل، وهنا أتذكر صورة مشوارى صغيرا معها فى وسط البلد لمحل اسمه " بلاتشى" حيث اشترت لى بدلتين جديدتين مع المناسبة الجديدة، وبعدها بأيام كنت أجلس تلميذا فى سنة أولى بمدرسة " خليل أغا .

 أمى عملت انقلابا جذريا فى حياتى.

عرفت إحسان عبد القدوس لأول مرة فى مدرسة خليل أغا التابعة للخاصة الملكية.

عرفته بمعنى رأيته، فحين وقعت عيناى عليه لأول مرة كنت تلميذا فى السنة الأولى وكان هو فى السنة الرابعة، وكانت أعداد التلاميذ فى مدارس ذلك الزمان صغيرة، وكان طابور الصبح فى فناء المدرسة المربع ملتقى لتجمع كل الفصول، وكان ترتيب الوقوف فى طابور الصباح يضع تلاميذ الصف الداخل إلى المدرسة حديثا بقرب الصف الذى يوشك على تركها، فأحدهما بداية والآخر نهاية، ومع أضلاع المربع المصطفة، فإن طرفى البداية والنهاية كانا على نقطة تماس.

كان طابور الصباح يحتوى على مراسم طويلة، أناشيد وتمارين وتفتيش على مكواة المرايل السوداء فوق ملابس المدرسة، وعلى ترتيب الكتب والكراريس فى الحقائب، وعلى درجة لمعان الأحذية، وعلى نظافة الأظافر، وبالطبع فإن هذا الطابور الذى اعتدنا امتداده إلى قرابة نصف الساعة كل يوم كان يتيح لكل تلميذ أن يلف بالبصر على بقية الصفوف، وأن يعرف من فيها أو يعرف عنهم.

وأعتقد أنى مدين بشدة لمدرسة خليل أغا الإبتدائية والتى كانت تابعة للخاصة الملكية، فالتعليم بهذه المدرسة كان شديد الرقى والتميز، ولا زلت أتذكر معامل المدرسة وملاعبها وخلايا تربية النحل والزراعة، ومثل هذا التعليم الراقى هو الذى يستطيع أن يعطيك المفاتيح التى يمكنك أن تصل من خلالها إلى العلم الحقيقى والآفاق الأوسع.

لم أختر هذه النوعية من الدراسة، ولكن الأمر يكمن فى أن جدى ووالدى كانا يعملان بالتجارة.

 التجارة كانت مهنة كل العائلة، وشاءت الأقدار أن يصر والدى على أن أعمل معه فى التجارة، حيث كان لى أخوان أكبر منى من زوجة أخرى غير والدتى، وقد عملا بالفعل مع أبى فى التجارة، ولكنهما ماتا بسبب المرض، وأصبحت الابن الأكبر، فكان لابد وأن أعمل مع والدى فى تجارته، ولذلك دخلت مدرسة التجارة المتوسطة، بينما إخوتى الصغار ذهبوا إلى الجامعة، فأخى الأصغر منى مباشرة ذهب إلى هندسة القاهرة، وأصبح بعد ذلك أستاذا فى جامعة جورج واشنطن.

ورغم أن الحرب العالمية كانت ضاغطة على كل شئ، ومن الصعب تغيير المسار إلا أنى ذهبت إلى الجامعة الأمريكية لكى أغير مسار حياتى وقد اختلفت كثيرا مع والدى لكى أفعل ذلك، ولكن دعم ومساندة والدتى كانا الدافع الأكبر لتكلمة هذا المشوار، وقد تجلى دعم والدتى فى أكثر من موقف فى بداية حياتى.

لم أستطع اقناع والدى بإختياراتى، لكن شاءت الأقدار أن أحصل على اعترافه ورضاه فى المحكمة، حيث كان طرفا فى قضية خلاف تجارى، وكان محاميه المحامى الكبير جاك كحيل، وهو أجنبى متمصر، وكان معجبا ومتابعا لكتاباتى الأولى، وألح على والدى كثيرا لكى يرضى ويبارك خطواتى، ولكن والدى كان يرفض دائما.

 جاءت هذه القضية، وفجأة سأله القاضى: هل لك علاقة بالصحفى محمد حسنين هيكل؟

 فقال أبى: إنه ابنى.

 كنت وقتها قد نشرت بعض كتاباتى عن فلسطين، فذهب والدى إلى والدتى وقال لها: يبدو أن كلام جاك كحيل صحيح وأن محمد له مستقبل كبير ويظهر إنى كنت غلطان.

(3)

أنا شاعر فاشل.

 ويمكن أن تعتبروننى شاعر مقموع.

كان الشعر جزءا أصيلا من قراءاتى الأولى، فقد قرأت شعر " الدنيا والآخرة" وشاء حظى أن يكون أول مدرس لى فى الإبتدائى الشاعر الكبير على الجندى، وأذكر عندما جاء ولى عهد إيران الشاه محمد رضا بهلوى بعد ذلك ليخطب الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق أن كتب الأستاذ الجندى قصيدة يقول فيها.

سبحان خالقه سبحان باريها.... قل فيه ما شئت لا تحرج وقل فيها

يا من رأى الشمس فى أفق العلى ... اقترنت بالبدر يحدو جبريل ويحدوها

ثم عرض علينا القصيدة فى المدرسة وطلب من كل تلميذ أن يشرحها ويتحدث عنها، كما طلب أن نقلدها فى كتابة الشعر، وقد حاولنا ولكننا بالطبع فشلنا فى المحاولة.

أما عن كونى شاعر فاشل، فقد بدأت التجربة مع بنت الجيران، وعلمت أمى وعنفتنى كثيرا، لأن والدة البنت اشتكت لها من أنى كتبت أشعارا لابنتها.

كانت بنت الجيران تلبس " فستان أسود" وتقف فى البلكونة، وكنا نسكن وقتها فى العباسية وكنت أقف أمامها فى شرفة منزلنا، ثم دخلت البنت وغيرت الفستان الأسود بفستان أحمر، فأرسلت لها ورقة مع الخادمة عليها بعض الشعر أقول فيه.

ماذا بقلبك يا حسناء من وجد يضطرب... أحال الفحمة السوداء إلى حمراء تلتهب

ووقعت الورقة فى يد أمها وحدث ما حدث فقررت أن أقلع تماما عن الشعر.

لم تكن هذه الورقة أول أشعارى، فقد كتبت قبلها العديد من الأشعار دونتها جميعا فى كراسة ولا أعلم أين هذه الكراسة وسط كل أوراقى وكتبى.

لكن ورغم ما حدث فإننى لم أنس أبدا بنت الجيران الأولى، الفتاة التى خفق لها قلبى أول ما خفق، لن أنساها أبدا، فقد علمتنى أشياء وأشياء وفتحت عينى الطفلتين على أشياء وأشياء.

لن أنسى يوم سمعتها تغنى لأول مرة فظللت أتبعها إلى كل مكان تذهب إليه.

 ولن أنسى أبدا أول مرة قبلتها فيها لأننى ظللت اليوم كله أحس بدوران لذيذ كأننى احتسيت مائة زجاجة من الشمبانيا.

 ولن أنسى أبدا كيف كنت أسهر الليالى أكتب لها الخطابات الغرامية الملتهبة بكل ما كان يحمله قلبى الطفل من سذاجة ماسة وحرارة.

ولن أنسى أبدا اللحظات الهانئة التى قضيتها إلى جوارها فى ركن فى فناء المنزل القديم العزيز آكل معها الشيكولاته التى كنت أشتريها بكل ما كنت آخذ من " مصروف" ولن أنسى أبدا يوم هجرتنى إلى ابن الجيران الآخر لأنه كان يستطيع أن يشترى لها شيكولاته أكثر مما كنت أستطيع.

وأخيرا لن أنسى يوم قابلتها بعد هذا كله بسنوات طويلة، فإذا هى أصبحت زوجة وأما لطفلين، ومن ساعتها قررت أن أنسى ولكنى لم أستطع.

(4)

من تتزوج صحفيا، شأنها شأن من تتزوج أى شخص له مهنة أخرى.

وأنا أعتقد ويمكن أن أرى أمامى زوجة مهندس ناجح تعانى كما زوجة صحفى وطبيب ناجح، القضية من تختار وبأى المعايير، أنا مستعد أن أقول لفتاة: إذا وجدت صحفيا فيه مواصفات الإنسان الذى تطلبينه، من فضلك تزوجيه، لأنى أعتقد أنه أكثر لتفهم استعداد طبيعة تجارب الحياة فيما أتصور.

هدايت زوجتى رفيقة الدرب وسند الحياة، تقابلنا لأول مرة فى عام 1954 وكانت بصحبة والدتها فى بيت عائلة صديقة بمحض المصادفة، الطريف أن بداية معرفتى بوالدتها كانت خناقة عندما هاجمت جمال عبد الناصر أمامى بسبب قانون الإصلاح الزراعى، لكننا فيما بعد أصبحنا صديقين حميمين.

وقتها كانت هدايت مثل كل شابات ذلك الوقت مهتمة بالعمل الخيرى، وكانت نشيطة فى الهلال الأحمر، وأكثر نشاطا فى جميعة النور والأمل، وقد استطاعت أن تنقل إلى هذا الاهتمام، وساعدت فعلا فى حملة واسعة لجمع التبرعات لهذه الجمعية استخدمت فى بناء وإعداد منشآتها الكبيرة التى اتسعت لنشاط جميعة أصبحت من النماذج الباهرة للعمل الإجتماعى فى مصر.

هدايت ابنة أسرة ليس لها اطلاقا أية علاقة بعالم السياسة، رغم أن كثيرين من أصدقاء العائلة كانوا من الساسة، وبينهم الدكتور محمد حسين هيكل باشا وفؤاد سراج الدين باشا وغيرهما، وفجأة بارتباطها بى وجدت نفسها فى خضم المعمعة السياسية، فقررت منذ اللحظة الأولى تحديد مجالها الذى تتحرك داخله كزوجة وأم وعضو مجلس إدارة جمعية خيرية فقط.

عندما شب عود الأولاد قليلا كانت تسافر معى مرات، وفى رحلة للهند اهدت معى آثار ملوك المغول فى فاتح بورسكيرى، ثم تصادفت بعد ذلك رحلة إلى الأندلس، وهناك بهرها الأندلس وحضارته، ومع مضى الوقت بدأت تظهر عليها عوامل الحنين الكامن فى فروع عائلة تيمور وهى عشق دراسة العمارة والفن الإسلامى، ورأن أن تأخذ هوايتها جدا، وأن تدرس موضوعها عالميا وقررت أن تلتحق بكلية الآثار، كانت قد أنهت تعليمها بالبكالوريا الفرنسية، ولكن لدخول كلية الآثار كان لابد لها من ثانوية عامة عربية، فبدأت من السنة الأولى وكان كثيرون من اصدقائنا فى دهشة وبينهم الرئيس أنور السادات الذى قال لها: غير معقول أن تصبحى من جديد تلميذة فى سنة أولى.

ونجحت هدايت فى مراحل التعليم الثانوى والتحقت بالجامعة ونالت شهادة التخرج بتفوق مما أتاح لها أن تصبح فى سلك التدريس الجامعى، وأشك أن أحدا قد عرف أن زوجتى هى المعيدة ثم المدرسة الجامعية هدايت تيمور.

استمرت فى منهجها فحصلت على درجة الماجستير وكان موضوع بحثها فى العمارة العثمانية فى مصر، بعدها استعدت لدرجة الدكتوراه، وكان الموضوع الذى اختارته يدور حول تاريخ وخطط بولاق، لكن مشكلتها أن أصدقائنا الكثيرين فتحوا أمامها كل الأبواب.

وعلى سبيل المثال فقد كان أحد اصدقائنا وهو السير دنيس هاملتون رئيسا لمجلس أمناء المتحف البريطانى، وهكذا فإن جميع قاعات ومكتبات ووثائق المتحف البريطانى تفتحت أمامها، وشئ من نفس النوع حدث لها فى اللوفر فى باريس، فانكبت على البحث لتجد نفسها غارقة فى مادة تصلح لعشرين دكتوراه، وفى النهاية قررت أنه لا جدوى من تلك الدكتوراه، فهى فى حد ذاتها ليست هدفها، بل لقد ذهبت إلى أبعد من هذا بأن استقالت من الجامعة أيضا لأنها لم تعد تستطيع الوفاء بواجباتها الجامعية والعائلية والاجتماعية جمعاء إلى اهتماماتها الثقافية، والحقيقة أنها لم تخرج يوما عن دورها الذى وضعته لنفسها ولا الخط الذى رأت الا تتعداه، وقد فضلت دائما أن تتوارى عن الأضواء العامة.

من أول يوم زواج قلت لها أنت لست مطالبة بأية واجبات اجتماعية تجاه صداقاتى السياسية، وقد أكون ظلمتها، من حيث إنها لم تكن مستعدة لهذا النوع من الحياة لكنها تحملتها وتحملت آرائى المختلفة المتصادمة مع خلفيتها الإجتماعية، وتحملت الدخول فى المناقشة مع الآخرين.

أذكر مرة فى واشنطن أن دعتنا كاترين جراهام صاحبة صحيفة الواشنطن بوست، دخلت هدايت فى مناقشاشت محتدمة مع ثلاثة من مستشارى الأمن القومى تعاقبوا على هذا المركز فى البيت الأبيض وكانت حول القضية الفلسطينية، وخرجنا بعد العشاء وركبت إلى جوارى السيارة وفجأة لمحت دموعها وراحت تقول إنها ليست مضطرة بعد الآن لحضور أى مناقشات فى أمريكا حول القضايا العربية، فأعصابها لا تحتمل الشعور بالظلم، ولكن مسيرة الحياة جعلتها تضطر وتحضر وتسمع وتناقش.

كانت فترة سجنى فترة لاختبار مدى صلاحيتها، كنت متوقعا الاعتقال بعد ما تركت العمل بالأهرام، خاصة فى الأيام التى كان فيها هجوم الرئيس السادات زائدا تجاهى، قلت لها عندما تحرجت المسائل أنه ليس لى سوى طلب واحد منها إذا ما أعتقلت – كانت هدايت تعرف كل أحوالى ومواقفى منذ البداية،  وأنا مؤمن بان الزواج مصير واحد لشريكين ومن ضروب المأساة أن يخبئ البعض عن زوجاتهم أوضاعهم، وقد رأيت بنفسى ما يحدث للزوجة بعد رحيل مثل هؤلاء الأزواج وما تواجهه من مشاكل لا حدود لها لكى تستطيع أن تلم أطراف أشياء لا تعرف عنها شيئا.  

قلت لهدايت ألا تطلب من أى كائن من كان طلبا يخصنى أو يخصها هى وأبناؤنا، وألا تحادث سوى شخصين فقط هما الدكتور محمود فوزى كصديق هذا إذا ما أردات الاستعانة بنصحه وأخذ رأيه فى تصرف ما إذا واجهتها مشكلة، والشخص الثانى الأستاذ ممتاز نصار المحامى، ومن سوء الحظ أنه حين جرى اعتقالى كان الدكتور محمود فوزى قد رحل عن عالمنا.

أحضر ممتاز نصار إذنا من المدعى الاشتراكى فزارتنى مع الأولاد بحضور ثلاثة من الضباط أحدهم من السجن واثنين من مباحث أمن الدولة، فى اللحظة التى كت أهبط فيها الزنازين على السلم الحديدى متجها إلى البوابة الحديدية التى تفصل بين العنابر وحجرة المأمور، كانت هى والأولاد يدخلون من باب السجن فتلاقت خطانا أمام باب الحجرة لنجلس بداخلها نصف الساعة التى سمح لنا بها.

كان استيعاب الموقف بهدوئه الظاهرى وكأننا اتفقنا عليه مسبقا، وتماسكت هى لتبدو مسيطرة تماما على أعصابها رغم ما أعلمه بما يجيش به تدفق عواطفها، لقد شاهدت إلى جانبى الكثير مما حدا بها يوما إلى التفكير فى كتابة يوميات.

(5)

كانت الجدودية فى بدايتها مأساة.

كنت مرعوبا، خفت بشدة لمعرفتى من الأطباء أن زوجة ابنى على الطبيب - وكانت زميلته فى الكلية ويسبقها بعام دراسى – حامل فى توأم، أتذكر عندما كلمتنى زوجتى لتخبرنى بأن زوجة الابن قد نقلت إلى مستشفى السلام فى حالة وضع ودعتنى أن أذهب إلى هناك.

كانت الولادة قد تمت، وأتى الأحفاد ولدا وبنتا، محمد وهدايت، على اسمى واسم زوجتى، توجهت إلى الغرفة لرؤيتهما فمنعتنى الممرضة الإيرلندية بحسم بحجة أنه غير مسموح لأحد بدخول غرفة الحضانة سوى للأب والأم فقط، فعدت بخفى حنين.

نزلت ليلاقينى ابنى على ويسألنى عن رأيى فى الأحفاد، فذكرت له ما كان من أمر الممرضة، فأسرع يأتينى بهما، لقد كانت الرهبة وحدها هى ما جعلتنى ألبى على الفور أوامر الممرضة.

أن تكون أبا إلى هنا الأمر شئ عظيم، لكن ساعة أن يكون لك أحفاد تحس أن نقطة تحول قد حدثت فى حياتك، وساعة أن تسمع أحدا ينادى عليك كجد تستغربها بشدة، بعدها تكتشف أنك دخلت عالما مختلفا تماما.

كنت أتمنى أن تكون لى بنت، أنا أتصور البنت فى حياة أبيها تمنحها طعما ومذاقا، وأنا أعوض هذا بأحفادى، ورغم أن لى أحفادا ذكورا، لكن البنات حكاية أخرى.

المثل الذى يقول " أعز الولد ولد الولد" ليس صحيحا.

ولكن كل حكمة شاعت بين الناس لها مبرر، أعتقد أن أولادك هم الأقرب إليك، أحفادى يتحمل مسئولياتهم الآباء والأمهات، ومع حفيدتى أنا لست مسئولا، ولا أحمل هموم المسئوليات الملقاة على عاتق الأب والأم، ولكن بالطبع هناك مسئولية غير مباشرة، والحفيد نعمة من نعم الله، بل أجمل نعم الحياة، إن جرعة ما تأخذه من متعة أكثر بكثير مما تحمله من مسئولية، لأن المسئولية محالة إلى غيرك، وأنا أقضى مع أحفادى أسعد أوقاتى.

أنا ضعيف جدا مع أولادى على وأحمد وحسن، وضعيف جدا مع أحفادى ، ضعيف أمام أى طفل وبينى وبين الطفولة علاقة دافئة.

عندما قمت برحلة إلى أمريكا اصطحبت فيها أولادى لأكتشفها معهم من جديد، ربما كان هدفى وقتها سياسيا إلى حد ما، فقد كنت أشعر بقوة الانبهار بكل ما هو أمريكى فى منتصف السبعينات، ولهذا رافقنى أولادى لمشاهدة أمريكا على أرض الواقع ليتعرفوا أنها ليست بالصورة التى تسكن خيالهم، وليست بلاد المعجزات.

الإنسان يستطيع أن يكتشف العالم للمرة الأولى بتجربته الخاصة، وإذا كانت المقادير كريمة معه يكتشفها للمرة الثانية بتجربة أبنائه، وإذا فاضت المقادير فى كرمها وعطائها يكتشفها للمرة الثالثة بتجربة أحفاده.

أولادى متعة ومسئولية، فأنا مضطر لتحمل هم تربيتهم وتعليمهم ومتابعة تقدمهم، بينما أحفادى متعة دون مسئولية وهنا تكمن الميزة.

من عادتى أن أستيقظ مبكرا وأتناول إفطارى وأقرأ الصحف وأشرب فنجان قهوتى، وتأتى نادية وتداعبنى بمكرها اللذيذ وتطلب منى وردة، يحدث هذا فى برقاش التى لا تبعد عن القاهرة كثيرا، ونمشى أنا ونادية على الحشيش لغاية حوض الزهور وأقطف لها وردة.

 ماذا ستفعل بها؟...  لا أدرى.

 لكنى أجد نفسى أدوب فى عبارة: جدى ادينى وردة.

وحفيدتى الكبيرة هدايت تطلب منى كتابا من كتبى لأن واحدة صاحبتها أبوها يقرأ لى، أشهد وأنا أقدم لها الكتاب ومعه إهداء بمتعة لا يعرفها إلا من يعيشها، وعندما أجد أحفادى حولى فى نشاطات جميلة نعوم معا ونصطاد معا، فهذه متعة وحاجة بديعة.

حزنت بشدة عندما قرأت فى الصحف وتحديدا فى الأهرام تعبير" ابن هيكل"، هذا التعبير قبيح وعيب، لأنه يلغى شخصية أولادى وتربيتى لهم على الفضيلة والأخلاق وحسن التصرف والاعتماد على النفس، كما أن هذا التعبير يعطى إشارة إلى أنهم يستفيدون من مكانة والدهم فى المجتمع وهذا غير صحيح بالمرة، ولم أزر عمل أى منهم مرة واحدة أو أتدخل فيه أو أتدخل له فى مسألة تخص عمله، فقد كنت حريصا على تعليمهم وتأهيلهم لكى يعيشوا العصر بكل أدواته، وكأن هذا هو استثمارى ومساعدتى الوحيدة لهم.

مرة واحدة زرت ابنى على لافتتاح عيادة له، لم أزر أيا منهم فى عمله على الإطلاق، ولا أتدخل فيه، وشعارى معهم " اللى عاوزنى يجيلى" ورغم ذلك يصر البعض على إطلاق صفة " نجل هيكل" للإيحاء بأنهم استفادوا من اسمى أو كان لى دور فيما وصلوا إليه.

(6)

علاقتى بالمال محددة بشيئين أولهما اعتبار المال أداة وليس غاية فى حد ذاته.

 ثانيا قاعدة أساسية ألا تنفق إلا فى حدود الموارد، وفيما يتعلق بى قد أصل إلى صرف 100 % من مواردى لكنى لا أتخطاها.

وكما يقولون المال خادم جيد لكنه سيد سيئ.

زوجتى تقول إننى دائما أرى أن ما عندى هو أحسن حاجة، وهذا صحيح، فكل شئ عندى هو الأحسن بصرف النظر عن عامل المقارنة بغيره فهذا لا يفرق معى، أنا أعتقد أن مكتبى أحسن مكتب، وبيتى أحسن بيت، أنا لا أطلب سوى الدعاء العظيم الذى كانت تدعو لى به والدتى بالصحة والستر.

وإذا سألتنى ما هى متع الحياة؟

أعتقد أنها فى الصحبة مع الصديق ومع الكتاب ومع الموسيقى ومع الطبيعة ومظاهر الخلق فيها، وكثيرا ما لاحظت زوجتى نظراتنا المتبادلة أنا وكلبى " فارس" فى بيتنا الريفى... وحقيقة بعد الصحة والستر يأتى الجمال.

وعندما نشرت مجلة المصور تقريرا عن ثروتى اعتقد البعض أنها تتهمنى بالثراء غير المشروع.

الحقيقة أن المصور لم تتهمنى بالثراء غير المشروع، لكنها اتهمتنى بأننى اشتريت قطعة أرض من رجل موضوع تحت الحراسة مستغلا فيها سلطتى، وأنا رفعت قضية، وبالرغم من المحاولات الكثيرة جدا لتشويهى والتى حصلت ومستمرة، فأنا لا أتكلم فيها أو عنها اطلاقا، لكن لأن الموضوع يمس الذمة المالية، فلم أتركه بل ذهبت بسرعة إلى القضاء وقاضيت المصور ووكالة الأنباء الفرنسية، التى نقلت عن المصور هذا الخبر، وفى المحكمة وبعد أن قدمت وثائقى اعتذرت وكالة الأنباء الفرنسية، وسجلت اعتذارها فى المحكمة وأخرجتها من القضية.

تقول المصور إننى اشتريت قطعة أرض من أجنبى تحت الحراسة، أنا اشتريت قطعة أرض على دفعتين، الجزء الأول اشتريته من عضو فى مجلس إدارة الأهرام وهو الذى عرضها على، وحصل إننى أخذت مكافأتى من أخبار اليوم، وذهبت لأشترى أسهما أضعها فى شركة ايسترن للدخان، وكان هو حينذاك فى هذه الشركة.

 قال لى: لماذا الأسهم وليس قطعة أرض؟

 أنا عندى قطعة أرض أخذتها بدل أتعاب فى قضية، أبيعها لك، وكان هو أهمل هذه الأرض بعد وفاة زوجته، لما رأيت الأرض تحمست لها، وكان ذلك عام 56، ولم يكن هناك من حراسات اطلاقا، ثم اننى اشتريت الأرض بسعر أغلى من المعروض لأنه سمح لى بالتقسيط، وكل هذه الأمور اطلعت المحكمة عليها، وأطلعتها على كل الايصالات المالية، لدرجة أن آخر فاتورة أرسلها لى كانت فاتورة برسم التحصيل، بما فيها ثلاثين قرشا لصالح شهود أتوا بهم من على باب المحكمة.

الجزء الثانى من الأرض اشتريته من مصريين وليسوا أجانب ولم يكونوا تحت الحراسة، إنهم ورثة عزمى باشا الذى كان جارى وعنده قطعة أرض قرب منزلى، من ضمن أرضه فاشتريت منها قطعة بسعر أغلى من السعر المطلوب وهؤلاء قدموا شهاداتهم.

قالوا من أين أتيت بالمال؟

فى المحكمة أنا وضعت كل إقرار ذمتى المالية، الأرض الأولى كانت بعشرة آلاف جنيه دفعتها على ثلاث سنوات، وقبلى كان أكثر من واحد يريدون شراءها بينهم جمال العطيفى، وآخر سعر وصلت إليه الأرض كان 8 آلاف جنيه، وبسبب التقسيط دفعت 10 آلاف جنيه.

كانت مكافأتى من أخبار اليوم 7 آلاف جنيه، ولأننى أعرف حساسية المسائل المالية، طلبت أن تكون المكافأة فى شيكين، الشيك الأول بخمسة آلاف جنيه، أخذته وعلى ظهره حولته لصاحب الأرض وقبض المبلغ على شيك صادر باسمى من أخبار اليوم.

 القسط الثانى حولت له أسهما فى شركة الخزف الصينى، وكانت بثمن ألفى جنيه، وأرسل لى الإيصال من عند رجل البورصة، الجزء الثالث بعت أسهمى فى شركة شاهر وكانت لأقرباء لى، بعتها فى البورصة بألفى جنيه، والألف الأخير كان من السهل أن أدبره.

قطعة الأرض الثانية كان ثمنها 23 ألف جنيه، اشتريتها بعد كتابى" عبد الناصر والعالم" وقبل أن اشتريها كان قد تم تحويل لى من فلوس هذ الكتاب خمسون ألف جنيه استرلينى.

طوال عمرى كنت مستعدا أن أسكت عن كل الكلام الذى يقال من ناحية الحياة السياسية، لكن الذمة المالية لا، أذهب إلى المحكمة بسرعة.

 وكالة الأنباء الفرنسية أرسلت لى رئيس مجلس إدارة الوكالة فى باريس، للاعتذار بعد أن رأوا الوثائق قلت لهم: لكننى أريد اعتذارا كاملا يسجل فى المحكمة، وحصل هذا الموضوع.

على هذه الأرض بنينا البيت.

بيت برقاش هو الوحيد الذى أشعر أنه بيتى.. فى الجيزة بيت ومكتب كأنى على موعد عمل.

كل شئ جميل فى هذا المنزل شكلته هدايت على ذوقها وعلى مهل.

لسنوات عديدة كانت هذه الأرض تزرع بالترمس، وعندما حولت سبع فدادين منها إلى حديقة، غضب والدى وحزن بشدة، فقد كان يرى أن الترمس والسودانى والكتان أهم من الأشجار المعمرة.

 عندما حولناها إلى حديقة قال لى: الآن انتهى عصر المحاصيل.

 وقد حرصت هدايت أن تجعل كل وحدة منعزلة عن الأخرى فى الحديقة، المكتب فى ناحية والسكن فى ناحية أخرى والبيسين والمطبخ .

(7)

مبكرا جدا بدأت تنظيم وقتى، كنت دائما أبدأ عملى فى الثامنة والنصف تماما، فانا أعتقد أن كل إنسان يتحرك فى زمن محدد، يوم مساحته 24 ساعة، وأمامك مهام لا حدود لها عليك أن تقوم بها – لوكنت تريد – وإذا لم تحسن استغلال هذه الرقعة من الزمن من خلال التنظيم الجيد، فإنك لن تستطيع أن تفعل شيئا.

طوال عمرى أغلب من كان لى حظ العمل معهم كانوا يشكون من النظام، أنا أعتقد أن النظام ليس مهما فى الصحافة فقط، ولكن فى الفن، وفى الخلق الأدبى، وفى أى شئ آخر، ربما أن الصحافة تعلمك أهمية عنصر الوقت الأهمية القصوى.

لأنك مرتبط بلحظة معينة لابد أن تذهب فيها الجريدة إلى المطبعة وتوضع الصفحات على السلندرات وتدور الماكينة، إذن أنت مقيد بلحظة نهاية معينة، كأنه توقيت معركة، وينبغى أن تكون كل عملياتك مرتبة من قبل، بحيث تصبح جريدتك معدة فى لحظة محددة، وبالتالى يتم توقيت عملية التفكير فى الجريدة، التخطيط للجريدة، تكليف الناس بمهام الجريدة، إعداد المواد للجريدة، تقديم هذه المواد للأقسام الفنية سواء فى التحرير أو الطباعة لتؤدى دورها فيها، ويتم كل شئ وتدور الماكينة، وهذا أكثر الأشياء التى تعلمك النظام بشكل طبيعى، فضلا عن هذا أنا واحدا من الناس يعتقد أن التكريم الحقيقى للوقت هو أن تشغله بما هو جد وما هو نافع، وإلا لن يكون ما تفعله تضييع وقت، بل تضييع حياة أو تضييع عمر فى النهاية.

قد يكون من بين الأسباب أيضا أننى تربيت على النظام، فقد ولدت فى عائلة كان النظام فيها شيئا أساسيا، أو على الأٌقل كان النظام موجودا وقائما، وأخذت أنا هذا النظام عنها، وفيما بعد حدث مهنيا أننى عملت فى إطار نظام معين، وهكذا مضت الأمور.

برنامجى هذا كنت أفعله طوال عمرى، بما فيه جزئية الرياضة التى تبدأ مبكرا.

ولسنوات طويلة بعد خروجى من الأهرام، كنت أصحو باكرا فى الصباح، أذهب إلى النادى الساعة السابعة ألعب الجولف، فى التاسعة إلا ربعا أكون فى المنزل أفطر وأدخل مكتبى، يستمر عملى من التاسعة صباحا حتى الثالثة بعد الظهر، وفى حوالى الخامسة إما أن أواصل عملى، أو أقابل الناس، وفى يومى الخميس والجمعة أذهب إلى بيتى فى الريف مع أولادى نلعب بينج بونج وكرة القدم.

(8)

اعتبر الله فى قلبى وفى عقلى وكثيرا ما تكلمت عن الفكرة المادية والإنسانية والعقلانية، وأن الأفكار الثلاث تترابط مع بعضها لأن الإنسان لديه احتياجات مادية ولكن لديه عقلانية الحياة تفقد كل قيمتها إذ تكلم المرء فقط عن المادة، ولا يعود هناك معنى للحياة، ضرورة الحياة أن يبقى عندك البعد العقلى والبعد الإنسانى والبعد الإيمانى  لأن الإنسان فى النهاية كائن واحد.

إن كان هدف المجتمعات هو الاستقرار والترقى والتقدم فإن الدين كفل هذا مباشرة فى عصور معينة، لكن جاءت عصور أخرى فى الاجتهاد الإنسانى أضافت إلى تعاليم الدين الكثير من الثراء، إن ذلك لم يحدث عندنا فقط، وإنما حدث فى الدنيا كلها، ونحن شأننا شأن غيرنا سرنا فى التطور، الدين موجود ركيزة، لكن التجربة الإنسانية أضافت وبنت حوله الكثير.

ليس هناك شئ اسمه أصالة ولا آخر اسمه المعاصرة.

 أنا إنسان، إذن أنا حى... ومن ثم فالموروث فاعل والمكتسب أيضا فاعل، وكلاهما يتسق فى داخلى.

المشكلة أنك لا تستطيع أن تكون انتقائيا، إذا أردت أن تسير فى طريق فعليك أن تقطعه حتى النهاية، ولا تستطيع أن تقول إنك هنا علمانى، وهنا إسلامى، المجتمعات لابد أن تتسق مع نفسها.

 أنت اخترت، أنا لا أناقش اختيارك.

 ولكن امض فى اختيارك حتى النهاية، لا ترجع من منتصف الطريق، ومن ثم لا يجوز تضييع الوقت فى بلادنا بأن الدين سياسة أم لا؟ فهو سياسة، وقد حدث ذلك باختيارنا، وبكل مواثيقنا التى عملناها".