الأحد 28 ابريل 2024

«من غير ليه» الأغنية الأخطر في مشوار مرسي جميل عزيز

فن19-10-2020 | 20:11

هو شاعر "الألف أغنية"، فعلا لا قولا، حقيقة لا مجازا،  أخلص مرسى جميل عزيز للشعر وللكلمة المغناه، فمنحته أسرارها، ونهل من ينابيعها، وكتب في كل مجالات الأغنية وأصنافها وتقسيماتها، فترك رصيدا مذهلا - كما وكيفا - بات مُعجزا لمن جاء بعده من شعراء الأغنية،

ومن بين هذا الرصيد المُعجز، تجد أغنية واحدة ذهبت به إلي ساحة المحكمة، والمدهش أن تقع المحاكمة بعد وفاته، وأن يتولى "الضمير المصري" كله مهمة الدفاع عنه، وينتزع له البراءة،بجدارة.

كتب مرسي جميل عزيز أغنية "من غير ليه" ليغنيها عبد الحليم حافظ في حفل عيد الربيع عام 1977، ورغم الحالة الصحية المتدهورة  لحليم، إلا أنه صحب معه كلمات الأغنية ولحنها وبروفات لحن عبد الوهاب المسجلة على شريط كاسيت، ليتدرب عليها أثناء علاجه في مستشفاه بالعاصمة الإنجليزية لندن،  وحرمت الأقدار حليم من أغنيته الأخيرة، فعاد من لندن في صندوق، وشاءت إرادة الله أن يرحل شاعرها بعد حليم بثلاث سنوات، وأن تبقى الأغنية في حوزة ملحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، لتكون ختام مشواره مطربا.

ظلت الأغنية حبيسة الأدراج إلى أن قرر عبد الوهاب الإفراج عنها، وبعد توزيع موسيقي جديد، صدرت الأغنية بصوت عبد الوهاب في مايو 1989، وأحدثت دويا غير مسبوق، وتصدرت المبيعات، واكتسحت سوق الكاسيت، وخطفت الأضواء من ألبومات مطربي الأغنية الشبابية الذين تصدروا الساحة حينها وحاولوا ملء الفراغ الذي تركه عبد الحليم بعد رحيله وانزواء الكبار؛ كان عبد الوهاب وقتها في باريس يقضى إجازته السنوية ويتابع أخبار "من غير ليه"من هناك منتشيا بنجاحاتها، ولكن اتصالا جاءه من القاهرة قطع عليه هذا الانتشاء، واضطره لأن يقطع إجازته نفسها ويعود إلى القاهرة، لأنه مطلوب على وجه السرعة  في المحكمة، بسبب الأغنية، وتوالت التفاصيل :  أحد الصحفيين الهواة أراد أن يستغل الضجة الجماهيرية والإعلامية الطاغية حول الأغنية فحمل كلماتها وذهب إلى لجنة الفتوى بالأزهر طالبا الرأي الشرعي في كلمات تقول : جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا رايحين فين ولا عاوزين إيه ؟

وبلا تفكير ولا تأمل في المعاني الفلسفية للكلمات ولا ما وراءها من رؤى أعمق كثيرا من لفظها المباشر، أصدر المكلف بالإفتاء حكما بوجود مخالفات شرعية في الأغنية، وكان هناك من ينتظر هذه الفتوى من مدعي الفضيلة وحراس العقيدة ليسرع الى محكمة القاهرة للأمور المستعجلة مطالبا بوقف إذاعة الأغنية ومختصما صناعها ومطالبا بمحاكمتهم،

لم يعدم عبد الوهاب، عشرات المحامين يدافعون عنه، وكذلك الجهة المنتجة للأغنية، والرقابة على المصنفات الفنية التي أجازت الأغنية، أما صاحب الكلمات، التي هي قلب القضية، والذي كان قد رحل قبلها بنحو عشر سنوات، فإنه لم يكن يحتاج الى محام يوكله للدفاع عنه، لأن خلاصة ضمير مصر من أكابر مفكريها وعقولها النيرة ونقادها تطوعوا للدفاع عن مرسي جميل عزيز في قبره، وبينوا مناطق الإيمان والنور في كلماته والتي عجزت العقول المظلمة والصدور الضيقة عن إدراكها.

مفكر إسلامي بقيمة المستشار محمد سعيد العشماوي، كتب حينها مقالا مطولا يدافع فيه ببسالة عن كلمات مرسي جميل عزيز ويوضحها ويشرحها، قال فيه" إن الشعر العربي طوال تاريخه مليء بالإيحاءات والتوريات والكنايات، وحريص على أن يبتعد عن الأسلوب التقريري المباشر الخالي من الجماليات، وعندما يغني عبد الوهاب متسائلا بلسان الشاعر مرسي جميل عزيز، من أين جاء وإلى أين يذهب، وما سبب وجوده في الدنيا، وأي طريق يسلك، فهو هنا لا يقرر وضعا إيمانيا ولا يتخذ مسلكا إلحاديا، إنما يغني أسلوب الشعر وإيحاءات الكلمات التي ربما تنتهي - بل بالتأكيد تنتهي - إلى تأكيد أسباب الوجود وأسباب السير في الحياة وعلة المعاناة ودواعي المكابدة، والذي يقرر غير ذلك إنما يفعل من قبيل "التنطع" أو جهلا بأسلوب الشعر.

ويكمل العشماوي مرافعته المجيدة عن كلمات مرسي جميل عزيز وأغنيته : ولو أخذنا بهذا القول السقيم لتعين علينا أن نشطب ثلاثة أرباع تراثنا الشعري ونمسحه تماما، ولولا ضيق المقام لقدمنا عشرات النماذج التي تتقارب مع ما غناه عبد الوهاب وتساير المعاني التي شدا بها، ومن عجب أن مثل هذه الاتهامات لا تثار إلا في العصر الحالي ولم تثر على الإطلاق في عصور الحضارة الإسلامية الزاهية، إن إثارة الموضوع في الوقت الحالي تدل على سقوط في التفكير والانحدار إلي ظلمات الجاهلية والافتقار إلي أي ذوق شعري أو فني أو غنائي،  ونرجو أن تمر هذه المحنة التي هي من قبيل الإرهاب الفكري، و"الإرهاب الفكري" المصطلح نفسه الذي استخدمه ناقد كبير مثل رجاء النقاش في دفاعه عن الأغنية وصناعها وإيجاد تخريجة نقدية ذكية لمعانيها، بل وصلت به الحال إلى اعتبارها "أغنية إيمانية".

"من غير ليه" كما رآها رجاء النقاش تعبر عن قلق نفسي يمر به كل إنسان على وجه هذه الأرض، وهو قلق مشروع، لأن الموت - تلك النهاية المحتومة - تثير في النفس كثيرا من الخوف والإشفاق والقلق، والفن تعبير عن تلك المشاعر الصادقة، الأغنية إذن، وما بها من تساؤلات، تعبير عن قلق إنساني مشروع ولا شيء فيه ولا يجوز محاكمة صناعها ومبدعيها.

وكان المفكر الإسلامي المرموق د. أحمد كمال أبو المجد، أكثر جسارة في دفاعه عن الأغنية، وذهب الى أن الفن عون كبير على عبادة الله ينبغي تشجيعه لا محاكمته،

وكتب أبو المجد : هذه الأغنية كلمات شاعر، والشعراء يمزجون الرأي بالخيال والحقيقة بالرمز، ويجب أن يوضع كلامهم في هذا الإطار، ولو أن هذا الشاعر جاء مقررا نظرية علمية، أو موقفا فكريا، لاستحق أن نرد عليه، لكنه شاعر من حقه أن يتأمل ويتساءل، والتاريخ الإسلامي لا يخلو من هذه المواقف التي كان أبطالها شعراء وأدباء، وحتى لو أنكر الناس عليهم هذه المواقف والكلمات، فإن الأمر لم يصل الى نصب محاكمات، لأن الشعر فيه خيال ولا يُحسن أن نخمده، والحقيقة أن موقف الإسلام من الفن يلزم - الآن -  أن يكون واضحا تماما، وأنا أسأل : من هو الفنان؟ إنه شخص أتاه الله نعمة خاصة وملكة متميزة وموهبة خلاصتها أنه يستقبل الأشياء بحساسية ليست لغيره، ويخرج التعبير عنها بدقة وثراء ليس لغيره، سواء كان شاعرا أو أديبا أو رساما، إن الفنان يرى في إيقاع الأشياء أصواتا أعلى وتعبيرات أوضح،ويُخرجها ممزوجة بنفسه وفيها عطاء لا يحسنه غيره، هذا الأمر الدين الإسلامي يرحب به، لأنه نوع من الجمال، ولأنه تعبير عن خلق الله ونعمه بمزيج من الوضوح والرنين والإيقاع، ولا يتصور أبدا أن يكون الإسلام ضد هذا، فالحقيقة أن الفن عون كبير على عبادة الله.

جاء حكم المحكمة في هذه القضية تاريخيا ومنصفا لصاحب كلمات الأغنية، وقال المستشار طارق عطية في حيثيات حكمه ببراءة الأغنية: إن عبارة "جايين الدنيا ما نعرف ليه" لا تعني إلا سخرية الإنسان من نفسه وضعفه وقلة حيلته، فهو حقا لا يعلم سر وجوده ولا الى أين المصير، كما لا ترى المحكمة تعارضا بين العبارات المذكورة في الأغنية وقول الله تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "، ولكل ما تقدم فإن الدعوى تبدو وقد فقدت أي سند لها في الواقع والشريعة ويتعين رفضها".

المدهش أن الشيخ عبدالله المشد، رئيس لجنة الفتوى والذي كان صاحب الدعوى،  استند إلى فتواه بإدانة الأغنية، عندما استدعته المحكمة لتناقشه في فتاواه، فإنه تراجع عنها، واعترف أن الشخص الذي جاء يستفتيه بشأنها لم يكن أمينا معه في عرضها، وبعد أن اتضحت له الصورة فإنه يعيد النظر فيها.

رُفضت الدعوى وبطلت القضية، وبقيت الأغنية ساكنة في وجدان المصريين كواحدة من أجمل وأعمق ما كتب مرسي جميل عزيز وأودع كلماتها خلاصة موهبته وتجربته وخبراته في الحياة.

تظلم من "من غير ليه" إذا نظرت إليها على أنها مجرد أغنية عاطفية أو رومانسية، فهي أخطر من ذلك وأعمق، ويمكنك - بلا مبالغة - أن تضعها رأسا برأس مع روائع من الشعر الإنساني في مكانة رباعيات الخيام، ويمكنك - بلا مبالغة كذلك -  أن تضع موهبة مرسي جميل عزيز رأسا برأس مع عمر الخيام، وإذا كان الخيام قد كتب : لبست ثوب العيش لم أستشر/ وحرت فيه بين شتى الفكر/ وسوف أنضو الثوب عني/ ولم أدرك لماذا جئت أين المفر؟ أما شاعرنا مرسي جميل عزيز فقد صاغ فلسفته في الحياة بتعبيرات أكثر بساطة، وعمقا، وسحرا.

 

    Dr.Randa
    Dr.Radwa