الإثنين 10 يونيو 2024

الكتابة بخفة الهواء الطلق جماليات الأغنية عند مرسى جميل عزيز

فن19-10-2020 | 20:26

مرسى جميل عزيز علم من أعلام شعراء العامية المصرية، يمثل شعره حلقة متفردة لا تتكرر من حلقات العقد الشعرى العامى المصرى العظيم مثله مثل قامات شامخة فريدة أصلت للعبقرية الشعرية العامية مثل صلاح جاهين، وفؤاد حداد، وفؤاد قاعود، وعمر نجم، وبيرم التونسى، وأحمد فؤاد نجم، وعبد الرحمن الأبنوى، وسيد حجاب، وماجد يوسف وسمير عبد الباقى وغيرهم، الذين استطاعوا عن جدارة إبداعية وثقافة رصينة أن يفجروا أرق وأعقد قضايا الوجود فى عوالمهم الشعرية العامية اليومية بعد أن تمكنوا من إعدام الفوارق الشعرية والمعرفية والتخييلية الغليظة والوهمية بين عبقرية الموروث الشعبى العامى وعبقرية الموروث الشعرى الرسمى. فإذا قرأنا لواحد من هؤلاء الكبار أحسسنا على الفور أننا أمام معمار تشكيلى باذخ قادر على محو الحدود الفارقة بين شعرين وثقافتين، بين مواريث اللغة الفصحى الوقورة الراسخة ومواريث اللهجة العامية اللعوبة، المعمار الشعرى الرصين، والروح الشعبية الطليقة، الإيقاع المحكم الصلب، وخفة الهواء الطلق الفياض بالإبداع والرهافة والحرية.

لقد استطاع مرسى جميل عزيز أن يطور فى بنية الأغنية العامية المصرية تطويرا عظيما على مستوى الكلمة والصورة والبناء والدراما، فهو من أول من أدخلوا عوالم الدراما المعقدة على بناء الأغنية المصرية فصارت الأغنية حكاية درامية متوهجة بالمواقف والأحداث والرؤى.

لقد ظلم مرسى جميل عزيز صاحب الألف أغنية ظلما نقديا كبيرا فلم يحظ شعره حتى الآن بالدراسات الجمالية والمعرفية الدقيقة التى تعكف على خصائصه الأسلوبية والتصويرية والدرامية الفذة فى أغانيه لتكتشف خطه الجمالى الفريد الذى يخصه دون سواه، ولعلنا فى ذكراه العطرة الآن نلفت النظر النقدى فى مصر والوطن العربى كله ممن عشقوا فنه الشعرى الفريد إلى العكوف على عوالمه الجمالية والمعرفية من جديد.

كان شعر مرسى جميل عزيز عبارة عن أفكار شعرية شعبية مموسقة ببساطة مذهلة، وكم من قصائد فصيحة محملة بترسانة ثقافية مرموقة كانت خلوا من الشعر الحقيقى.وكم من قصائد عامية تفجرت من روح التراب وطين التاريخ وحنايا السكك وخفايا الطرقات كانت شعرا فياضا بالرؤى والخيال.ولعل حفظ مرسى جميل عزيز للمعلقات السبعة الجاهلية والقرآن الكريم فى طفولته قد مكنه من استصفاء أرق أوهاج اللغة وأطرب إيقاعات الشعر من روح الشعر العربى، أضف إلى ذلك أنه قد تفرد دون كثير من كتاب العامية بالدراسة العلمية الأكاديمية المنظمة مما أقدره على تنظيم محيطه الشعرى المتدفق فى أطر فنية تشكيلية باذخة تقطر بالعذوبة وتطفح بالجمال الفائق الرائق، مما أهله أن يتفوق على كثير من أكبر الأسماء الشعرية الفصيحة المعروفة المشهورة على أيامه.كانت الكلمات فى شعر مرسى جميل عزيز تتجاوز حدودها اليومية البسيطة لتسبح فى عوالم أكثر عمقا وسعة ونفاذا.وقد تسمع نفس المفردات من رجل الشارع العادى البسيط ثم لا تلبث أن تمسها روح الشاعر وخياله حتى تراها حية جديدة مبتكرة كأنها خرجت لتوها طازجة من فرن روحه تتوهج حية كأن لم تمسسها يد من قبل.وقد تخدعك بساطة كلمات مرسى جميل عزيز مثل موسيقى بليغ حمدى مثلا فتحاول أن تنسج على منوالها فإذ الذى كان يبدو متناهيا فى السهولة والبساطة صار متناهيا فى الصعوبة والاستحالة، فتسأل نفسك كيف حدث هذا؟ فلن تجد الإجابة الشافية إلا إذا اقتنعت بأسرار فن مرسى جميل عزيز الذى كان يمارس على كلماته سيطرة مذهلة وفلترة مرهقة، فلا تجد القصيدة عنده تتزيد فى شىء أبدا، بل كل شىء فى مكانه ببساطة مذهلة وكد محسوب.فلا يتداعى الشاعر وراء بساطة خداع الكلمات وقديما استعاذ الجاحظ العظيم من فتنة الكلمات، فالشاعر غير معنى بمنطق التراكم بل منطق التقشف الجمالى المرهف والإحكام التصويرى الصارم.

كان مرسى جميل عزيز يكتب مثلما يتنفس فقد كان يغرف من النهر التحتى الخصيب لروح الشعب المصرى، إذا أصغينا جيدا لألفاظه وتراكيبه ومجازاته وتعابيره اليومية لا تحس أبدا أنه كان يكتب شعرا بل تحس بأنه كان يكتب الحياة ويتنفسها شعرا فى عراء الهواء الطلق، ولعل هذه السهولة الفذة المعبرة فى كلماته هى التى مكنت المطرب الكبير عبد الحليم حافظ من استصفاء جميع خلايا عسل نبراته الصوتية العذبة السهلة الممتنعة فى الغناء، فهناك كلمات قادرة على اكتشاف عبقرية حناجر دون حناجر، كما أن هناك إيقاعات قادرة على استنفار أسرار مواهب فنانين دون فنانين، ولعلنا لو تأملنا قصيدة مرسى جميل عزيزي الفلسفية الباذخة العجيبة (من غير ليه) التى كتبها للمطرب الشهير عبد الحليم حافظ ولم يمهله القدر لغنائها وغناها بعد ذلك الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ـــ لو تأملنا القصيدة لأخذنا العجب من القدرة الفنية اللامتناهية لموهبة مرسى جميل عزيز على أن يستل أضخم القضايا الميتافيزيقية وأعقد الإشكالات الفلسفية من روح الحياة اليومية كما تستل الشعرة من العجينة.كأن روح الدنيا كلها فى يمينه وروح الشعر كلها فى يساره حتى إذا أقسم على الشعر لأبره.فى هذه القصيدة أطاعته الكلمات فجاءته مذعنة خاضعة وأسلسلت إليه التراكيب والصور والقوافى قيادها الصعب الحرون، وإذا قمنا مثلا بعمل مقارنة شعرية أسلوبية دلالية بين قصيدة (من غير ليه) لمرسى جميل عزيز، وقصيدة (لست أدرى) التى كانت على أيامه للشاعر المهجرى الكبير إيليا أبى ماضى ـــ وكلاهما غناهما عبد الحليم حافظ ــ لهالنا مضاهاة شعرية العامية النافذة السلسلة الممتنعة فى قصيدة مرسى جميل عزيز لشعرية الفصحى الرصينة الصلبة فى شعرية إيليا أبى ماضى إن لم تبذها روعة وتأثيرا وعمقا.ومع تسليمنا بأن الشعر العظيم لايضاهى بغيره، ولا يقارن سوى بنفسه لكننا نقر هنا بأن مرسى جميل عزيز فى قصيدته كان يغرف من بحر الحياة العذب الدفاق ويكتب بعفوية وسلاسة الهواء الطلق، بينما كان إيليا أبى ماضى ينحت من جسد الثقافة والفكر والتقاليد الشعرية الفلسفية السائدة.لقد تميزت شعرية مرسى جميل عزيز باللغة السهلة الممتنعة  والأوزان الطلقة اللعوبة تسرى خفيفة ممراحة كالهواء الحر الطليق، تحدوه لغة عامية فذة قادرة على اعتصار عبقرية الروح الشعبى بكل زخم أفراحه وأتراحه، ولعل نشأة مرسى جميل عزيز فى الشارع المصرى وتشبعه روح الحياة اليومية كان وراء هذه اللغة العذبة فقد كان من أسرة تجار فواكه فى محافظة الشرقية التى أشرف بالانتساب إليها مثله، وقد مكنته هذه النشأة الشعبية الحرة فى الأسواق أن ينزل بشعرية العامية المصرية من عرش بيرم التونسى ورمزى نظيم وحسين شفيق المصرى إلى شوارع الحياة اليومية ليمشى الشعر فى حنايا أرواح الناس يأكل طعامهم ويشرب شرابهم ويلبس أزيائهم العابقة بيود الواقع وعرق الروح وملح الأرض، حتى جعل من شعر العامية أما شعبية حنونة قادرة على احتضان روح الشعب.ولهذا السبب لا نشعر أبدا فى لغة مرسى جميل عزيز بأنه كان يكتب بل نشعر فقط بأنه كان يتنفس، فلا يتدفق شعره فى صخب بل ينساب فى همس ويسر وسلاسة وعذوبة وطلاقة، هذه العبقرية المفرطة السهولة هى ماتميز شعرية مرسى جميل عزيز عمن قبله وعمن بعده، فقد كان يكتب ـــ لو صح تعبيرنا ـــ بخفة الهواء الطلق التى تنبع من أحلام الأرواح وهجس الجوارح ومنسيات الهواجس وتطوحات الأخيلة الشعبية اليومية.ولايضارع مرسى جميل عزيز فى هذه القدرة الشعرية الطلقة الممراحة سوى بيرم التونسى، ولعل هذا ماجعل أمير الشعراء أحمد شوقى يخشى بحسه الشعرى الباذخ العبقرى على الفصحى من عامية بيرم التونسى التى كانت تعبىء عصير الفصحى الشهى فى كأس العامى الأنيق، مما يؤكد لنا أن ليس فى الشعر الجاد الرصين موضوعات كبيرة وأخرى صغيرة بل تصبح الموضوعات المهملة والمنسية كبيرة باذخة على يد الشعراء الكبار.كما تصبح الموضوعات الضخمة الجليلة صغيرة تافهة على أيدى صغار الشعراء والكتاب.

ولعل هناك ميزة أخرى رائعة كانت تميز هذا الشاعر ذى الصوت المتفرد وذلك أنه قادر على تفجير أعقد قضايا الفكر وأرهف تطوحات التأمل وأعمق قضايا الميتافيزيقا من خلال لهجة عامية بسيطة قد تبدو موغلة فى البساطة والسهولة فتراها للوهلة الأولى عادية لكن عند التأمل العميق يفاجؤك مرسى جميل عزيز بجدة صوره ورهافة أخيلته البكر الجديدة النابعة توا من أفران الحياة ساخنة تصهلل بالروح والتوق والشوق والأمل، ولعلنا ندرك جميع ذلك فى قصيدته الباذخة (من غير ليه) التى أنطق فيها الشاعر مالم تتعود العامية على النطق به أبدا، حيث جمعت اللغة بين قوة التأمل الفلسفى وحيوية قلق الروح، أسئلة الوجود الأولى من أين ولماذا جئنا؟ ما العيش والحياة والحب وإلام المصير؟.حيث النزوع الشعرى الجاهد نحو اكتشاف البدايات الأولى البكر: بدايات الكون والخلق والوجود والإنسان، ورؤية الوجود على بياضه الأول ومحضه الخام البكر وهذه مهمة الشعر الكبرى شرقا وغربا وقديما وحديثا أن نعيد وعينا الأول البكر لنكون أكثر إشراقا وإنسانية وحرية، يقول الشاعر:

 

جايين الدنيا ما نعرف ليـــــــــــــه

ولا رايحين فين ولا عايزين إيــــه
مشاوير مرسومة لخطاوينـــــــــا
نمشيها في غربة ليالينـــــــــــــــا
يوم تفرحنا ويوم تجرحنــــــــــــا
واحنا ولا احناعارفيـــــــــن ليـه
وزي ما جينا جينــــــــــــــــــــــا
ومش بإدينا جينـــــــــــــــــــــا

زي ما رمشك خذ ليالـــــــيّ وحكم وأمر فيها وفـــــــــــــــيَ
ولقيت بيتي بعد الغربة وقلبك ده وعيونــــــــــــــــــــــك ديّ
ولقيت روحي فى أحضان قلبك بحلم واصحى واعيش على حبك
حتى في عز عذابي بحبك عارف ليه .. من غير ليــــــــــــــه
من غير ليه آه يا حبيبي بحبــــــك

ياللي زمانى رماني في بحر عنيــك
ونساني وقالي : انسانــــــــــــــي
بحر عنيك يا حبيبي غريـــــــــــق
لكن فيه أحلى ليالي زمانـــــــــــي

إذا استمعنا لهذه الكلمات راعينا سهولتها المفرطة حتى لتتوالى الكلمات كأنها لاتتوالى، وتتراكم التراكيب فلاتسمع إلا همسا.بوح نافذ، ويسر مفرط.وأجل الشعر ما أراك العادى ليس عاديا، والمألوف ليس مألوفا، إنه شعر مرسى جميل عزيز محرض للوعى واللغة والخيال والفتن الجمالية الظاهرة والباطنة.كما تروعك فى الأبيات السابقة هذه الحميمية الجامعة بين روعة التعبير الشعبى العامى وروعة التعبير الفصيح وعمق التأمل الفلسفى حتى لاتحس متى يبدأ الفصيح ولا متى ينتهى العامى، وأروع الشعر الشعبى ماقرب الفصحى من العامية وقرب العامية من الفصحى، للكشف عن أدق خفايا الروح وأعمق قضايا الواقع حتى لترى المتناهى فى بساطته متناهيا فى نفاذه وخصوبته وتراميه وتعدده وانفتاحه.

لقد جمعت شعرية مرسى جميل عزيز فى قصيدة (من غير ليه) بين روعة زخم إيقاع فؤاد حداد، وكثافة تأملات صلاح جاهين، ونفاذ وعى سيد حجاب، فكأنه كوكتيل شعبى فلكورى تأملى يفوح بحكمة طين الوجود، ولهاث قلق الشوارع، وأسرار شجى الحياة، فقد تشرب مرسى جميل عزيز ميراث التجارب الشعبية المصرية فى أصولها الشجية العميقة وتأمل حكمتها وبساطتها وقدرتها على استيعاب فلسفة الوجود كله فى أبسط التعابير، وأرق الكلمات، حتى لترى شعره ساخنا كالقيظ، حادا كالشفرة، نافذا كالقدر نحن أمام شاعر كبير يمتلك روح الشعر واللغة والخيال قادر أن ينطق روح العامية المصرية أعمق أشجان الروح، وأنفذ خبرات التاريخ وأشجى أسى ميتافيزيقا التأمل وتطوحات التفلسف، وربما بدا هذا غريبا فى شعر عامى بسيط لكنه يقبض على أسخن قضايا الوجود، ثم نقرؤه بلهجة يومية عادية بسيطة لكنها الموهبة الكبيرة تخلق من اللغة العادية عوالما غير عادية، فتجعل من المألوف غير مألوف.وتكتشف المعقد فى البسيط.والأزلى فى العابر.بما يجعلك تعيد ترتيب أبجديات ذاتك ولغتك وخيالك من جديد. ورحم الله العقاد حين قال عن شعر اللهجات العامية (إن اللهجة العامية التى اتخذها بيرم أداة له فى الكتابة لا تتناقض أبدا مع العروبة والثقافة العربية، لأن بيرم لم يكن يكتب بالعامية ليعبر عما هو إقليمى ومحدود، بل ليعبر عن الروح العربية بلهجة شائعة من اللهجات التى يتكلمها العرب فى حياتهم اليومية).

    الاكثر قراءة