الأربعاء 5 يونيو 2024

شاعر الدراما الغنائية

فن19-10-2020 | 20:28

 إذا وضعت وجدان الشعب المصري على طاولة ودققت النظر فيه بعد تشريحه ستجد أن النصيب الأكبر في هذا الوجدان للأغنية بكل عناصرها  وخاصة في عصر ازدهارها، فمشاعر المصريين وأحاسيسهم وعواطفهم تتحرك، وتتوقف بالموسيقى والغناء، وعلى الرغم من اعتماد اللغة العربية الفصحى في المدارس والمعاملات الرسمية، إلا أن العامية المصرية جزء من الهوية، وعلى الرغم من احتلال الفصحى صفحات الكتب والأوراق، بل والصفوف الأولى في الدراسات والخطابات الرسمية إلا أن العامية لغة الوجدان المصري، فهي لغة الحزن والفرح والغضب، لغة الحب والكراهية، فإذا فرح المصريون غنوا كلمات ترقص طرباً، وإذا أصابهم الحزن وجدوا كلمات تبكي وتعتصر من الألم في صورة العدّيد المصري، حتى القصائد المكتوبة بالفصحى والتى تستعصى أحياناً على القراءة، فإذا تم تلحينها، تبدل حالها وتحولت إلى أغنية بسيطة حفظها رجل الشاعر الذي لا يجيد القراءة والكتابة !

 وإذ كان شعر الفصحى ديوان العرب، فالأغاني ديوان الشعب وبطاقة هويته الفنية، فطبيعة هذا الشعب وثقافته أقرب إلي الغناء وهذا ما أدركه رواد المسرح الأوائل الذين ذهبوا إلى المسرح الغنائي الذي يتناسب والذائقة العربية، فقد بدأ مارون نقاش بتقديم الأغاني والألحان في رواية البخيل، واستعانت الفرق المسرحية بعد ذلك بالمطربين لجذب الجماهير سواء في الروايات أو لتقديم وصلات غنائية بين الفصول واستمر المسرح الغنائي وتجلياته صاحب الكلمة العليا في شارع عماد الدين على مدى أكثر من نصف قرن تقريبا، وحين تخلت الأجيال التالية عن الغناء، عن هذا النوع من المسرح الذي يعتمد على الموسيقي والغناء خسر المسرح الكثير، ومن ناحية أخرى حين تخلت الأغنية عن الدراما فقدت الروح وأصبحت في أحسن أحوالها مجرد صور تخلو من الروح . 

والشاعر مرسي جميل عزيز نموذج للشاعر الذي لعبت الدراما بكل تجلياتها دوراً رئيسياً في أغانيه، وهو من شعراء الأغنية الكبار الذي حين أكتب عنه  لا أكتفي بالمقدمة السابقة بل أتذكر بيرم التونسي وبديع خيري  وأحمد رامي وأيضا حسين السيد ومأمون الشناوي وعبدالفتاح مصطفى وعبدالوهاب محمد وغيرهم من هذا الفصيل الذي آمن بالغناء، وبذل حياته أو قُل منحها عن طيب خاطر للأغنية - وإن كان بيرم التونسي كتب الأنواع الشعرية الأخرى - ومرسي جميل عزيز الذي يليق به ما كانت تقوله العرب حين تمدح شاعراً فتصفه "لا أثر للصنعة في شعره" وهذا الشاعر ومعه الفصيل السابق  يكتبون شعراً طبيعياً كالماء والهواء، شعراً خالصاً، كأنه الحياة، فكل أغنية حياة صغيرة ترقص على مسرحها الكلمات وتبكي وتحزن وتتألم وتطرح أسئلة الوجود، ولهذا ورغم تغير المداراس والاتجاهات الشعرية، ظلت الأغنية المصرية لعقود طويلة تحتفظ بمكانتها في الوجدان المصري، ولها الكلمة العليا في توجيه الذائقة المصرية والأسماء السابقة مازال لها نصيب كبير في هذه الذائقة. وأيضاً حين تخلى الغناء في السنوات الأخيرة عن هذه الروح وهذه المفردات فقد دوره وقدرته على البقاء وأصبحت صلاحيته محدودة وفي أحيان كثيرة منتهية قبل أن تبدأ .

مرسي جميل عزيز "9يونيه 1921 -    9فبراير 1980" ناتج هذه الجماعة  التى آمنت بقيمة الغناء وهذا الشاعر الذي عاش أقل من ستة عقود كتب ما يقرب من ألف أغنية هو من فصيل الشعراء الذين احتلوا الجزء الأكبر من وجدان المصريين، فقد ولد ليجد الطريق إلى وجدان المصريين ممهدة بأغاني بيرم التونسي وبديع خيري وألحان سيد درويش التى كانت تنتقل من مسارح عماد الدين إلى الشوارع يحملها المتظاهرون على أعناقهم ويطاردون بها جنود الاستعمار بل ويواجهون بها الرصاص، وحفظ في طفولته القرآن الكريم وقرأ الشعر الجاهلي، وأشعار بيرم التونسي والأغاني الشعبية، فهو ناتج هذا المزيج من الثقافة المصرية، أو قُل مكونات الوجدان المصري ليكون هذا الشاعر  الذي قضى طفولته بين هذه الثقافة المتنوعة وثمار الفاكهة المصرية حيث عمل مع والده في تجارة الفاكهة، فاكهة الأغنية المصرية، فلم تكن أشعاره فقط طبيعية كالماء والهواء بل تميز عن أقرانه مع رفيقه ومجايله حسين السيد بالاهتمام بالبناء  الدرامي المحكم للأغنية، وتقريباً كل أغانيه تقوم في بنائها العميق على الحكاية، حكاية لها بداية ووسط ونهاية، بل وثمة ذروة للحدث في الأغنية هذا بالإضافة إلى الروح المصرية في شعره، وكلها ملامح جعلت منه حالة نادرة في كتابة الأغنية المصرية، وتستطيع أن تتعرف على شعره دون إشارة إلى اسمه فالأغاني الثلاثة التى كتبها لأم كلثوم "سيرة الحب، فات الميعاد، ألف ليلة وليلة" لا تشبه أغاني أم كلثوم الأخرى حتى التي لحنها بليغ حمدي الذي وضع موسيقى هذه الأغاني، فعلى سبيل المثال تبدأ أغنية فات الميعاد من النهاية، نهاية الحكاية، حيث يصف المشهد النهائي، فات الميعاد وبقينا بعاد والنار بقت دخان ورماد ... تفيد بإيه يا ندم يا ندم يا ندم... وتعمل إيه يا عتاب.. إلى آخره، ثم يعود بطريقة القلاش باك إلى بداية الحكاية "ياما.. ياما كنت اتمنى اقابلك بابتسامة.. أو بنظرة حب.. أو كلمة ملامة"، ويتنقل بين الأزمنة والأحداث يعود ليصف المكان"الليل.. الليل الليل.. ودقت الساعات.. تصحى الليل.. وحرقة الآهات في عز الليل"، ليصف حال الشخصية أو قُل مواصفات هذه الشخصية، وثمة عقدة لا حل لها "عايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان وهاتلى قلب لا داب ولا حب.. ولا انجرح ولا شاف حرمان" نعم هي أغنية وشعر لا أثر للصنعة فيه كما يقول العرب، ولكن في قالب درامي وحبكة قوية قوامها ثقافة الحياة، التى استمدها من ينابيعها السخية فجعلته يجسد الحياة المصرية في كل أغنية يكتبها، وكأنه يكتب مسرحاً شعرياً، مشاهد يمكن تجسيدها كعمل درامي. فدراسة هذا الشاعر للسناريو والدراما جعلته يعود بالشعر إلى أصوله الأولى التى تحدث عنها أرسطو في كتاب فن الشعر، جعلته يعود بالشعر إلى أصوله الدرامية .

ومن ناحية أخرى ثمة جانب فلسفي عميق في شعر مرسي جميل عزيز، فهو لا يبكي كغيره الهجر واللوم والفراق، لكنه يجزم باستحالة العلاقة في "فات الميعاد" ويعلي من شأن علاقة الحب في سيرة الحب "العيب فيكم يا فى حبايبكم أما الحب يا روحى عليه" أما الخطأ فيلقيه على عاتق المحب، فهو لا يبكي وينعى ويصرخ بل يطرح أسئلة بسيطة وعميقة في آن، حول الموت والحياة والحب والزمن فالأغاني الثلاث التى كتبها لأم كلثوم تجسد حكاية من ثلاثة فصول وفق ترتيبها الزمني وخط سير الأحداث "سيرة الحب 64 – فات الميعاد 67 – ألف ليلة وليلة 69" فهي قصة من ثلاثة فصول أو مسرحية من ثلاثة مشاهد ....  وآخر أغاني عبدالوهاب "من غير ليه" نموذجاً "جايين الدنيا ما نعرف ليه / ولا رايحين فين ولا عايزين ايه/ مشاوير مرسومه لخطاوينا / نمشيها فى غربة ليالينا" نعم فإذا كان مرهف الحس، جاء بمعان جديدة في الأغنية رغم صعوبة هذا لأن من سبقوه كانوا ومازالو عظماء في تاريخ الأغنية المصرية، فدائما ما تتكرر معان الحب والهجر والغرام والسهاد في السواد الأعظم من الأغاني، لكن مرسي جميل عزيز يميل إلى الروح الفلسفية، فالثقافة المتنوعة إلى جانب الموهبة جعلت منه حالة متفردة، ففي أغنية محمد  عبدالوهاب أسئلة ميتافيزيقية، طرحها من قبل في أغاني الحب "فات الميعاد"، طرحها في أسلوب بسيط ولغة أقرب إلى نسمة هواء عابرة، وفي الأغنية التى كتبها لفيروز "لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه.. ونشيد البلبل الشادي حياة لهواه.. لما لا أحيا وفي قلبي وفي عيني الحياة..سوف أحيا.. يا رفيقي نحن من نور إلى نور أتينا" هذه النزعة الفلسفية وإن كانت مباشرة وقوية في بعض الأغاني إلا أنها موجودة في كل أعماله بنسب متفاوتة، وهي جزء من شخصيته . 

   وبالإضافة إلى النزعة الفلسفية والقالب الدرامي الذي اختاره لأغانيه ثمة روح مصرية أصيلة وقوية في أعماله منذ أول أغنيه ذاع صيتها وغناها عبدالعزيز محمود "يا مزوق يا ورد في عود والعود استوى / والكحل فى عينيك السود جلاب الهوى/الشفة دي ورد الكاس واللولي عليه حراس / ده يبوس ده، وده ينباس.. جلاب الهوى يا عينى"  ثم "كعبه محني وكفه محنى" و"يا أسمر يا جميل يا أبو الخلاخيل" مروراً بعشرات الأغاني التى تجسد ليس فقط الروح المصرية بل ثقافة المجتمع المصري، وأيضاً لا يتخلى عن البناء الدرامي مثل "ياما القمر ع الباب  – الشوق الشوق – أما برواه – رمش عينه – الحلوة داير شباكها – وبيت العز يا بيتنا" وكلها أغاني تدل على استفادة صاحبها من  الفولكلور المصري، بل ودراسته للشخصية المصرية، وكل أغنية أيضاً تحتاج إلى تحليل للبناء الدرامي والحبكة التى تدور من خلالها الأحداث، أحداث المشاعر والأحاسيس!

  مرسي حميل عزيز حالة نادرة في تاريخ الأغنية المصرية فقد كتب أشكالاً وألواناً متعددة من الأغنية كتب الجواب، والقصيدة الفلسفية، والأغنية الشعبية، والصورة الغنائية، وألوان عديدة من الأغنية العاطفية، فقد استطاع أن يحول صيغة الخطاب النمطية إلى أغنية درامية، أو دراما غنائية "حبيبي الغالي / من بعد الأشواق / بهديك كل سلامي وحنيني وغرامي / نور عيني .. روح قلبي حبيبي .. حياتي / مشتاق لعينيك .. مشتاقلك/ مشتاق وانا لسه مقابلك" فهو خطاب واضح وصريح وأيضاً أغنية تحمل كل جماليات الشعر الغنائي ولن أبالغ إذا قلت أنه كان قادراً على تحويل كل الأحداث والمواقف إلى أغاني، قادر على صياغتها في جملة شعرية بسيطة وعميقة في آن، فحين تقرأ كلماته تشعر أنه يلهو بالكلمات يغنيها ويبني بها عوالم وحيوات لشخصيات الأغنية "مالك ومالي يا أبو قلب خالى، ريحت بالك وشغلت بالي" أو "الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة ولا في البساتين" فهو يغني أيضاً حين يكتب، ولم يكن مجرد شاعر موهوب قرأ وتعلم جيدا، لكنه الشاعر الغنائي صاحب المشروع الثقافي، فثمة رؤية، وأفكار تحملها أعماله، فهو يعي جيدا طبيعة التراث الثقافي للمصريين، يعي جيداً أن الشعر الغنائي هو الأقرب إلى وجدان المصريين، والأهم أنه كان يعي قيمة الحكاية فيندر أن تخلو أغنية لمرسي جميل عزيز من حبكة درامية، ومازلت أذكر الأغنية التى غنتها عفاف راضي "عوج الطاقية الولا وبص ليا / وقال كلامه في الهوا رماه عليا  / شال الهوا طرحتي بعتر ضفايري/ وانا لا حول ولا حاجة بإيديا / قلع الطاقية وحلف قال إيه ما بينامشي/ وانا ذنبي إيه يا جدع، قال دا السبب رمشي/ بصيتله بصة كدة معناها روح روح/ أمشي ولا هو قدر يمشي/ باين هوانى الولا والعشق غية/ وانا لا حول ولا القوة فيا" إلى آخر الأغنية التى لا يكتفي فيها بتجسيد الحكاية بكل عناصرها في مشهد درامي بل يرسم الحركة، حركة الشخصيات، ومازلت أشاهد هذه الأغنية وأنا أسمعها وكأنه يقوم بدور المؤلف والمخرج في هذه الأغنية الأقرب إلى المشهد المسرحي، ونموذج آخر  "قاضي البلاج" في فيلم أبي فوق الشجرة والتى جسدها حسين كمال مستغلاً البناء الدرامي لهذه الأغنية لتبدو صورة تجمع بين الغناء والاستعراض والموسيقى "فديو كليب" بلغة هذه الأيام  .

فهو بالفعل حالة نادرة في تاريخ الأغنية المصرية استطاع أن يجعل من الأغنية صورة درامية  تشاهدها الأذن قبل العين .