الإثنين 25 نوفمبر 2024

فن

غارات هتلرية في سماء الفن المصري

  • 19-10-2020 | 20:30

طباعة

اكتسب "هتلر" رهبته العالمية من هجومه الدائم والمباغت علي شعوب العالم بجيشهِ النازي، بيد أنّ صمت المُعتدي عليهم هو ما زاده تغوُّلًا وغشامة، وأمّا تسليم خصومه له ومحاولتهم كسب صداقته نفخ صدره غرورًا وأدّي به إلى المزيد من العدوانية والشراسة. وفكرة الشخصية "الهتلرية" يعتنقها البعض كمنهجٍ في الحياة بكل زمان ومكان، ويأتي في طليعة "الهتلريون" المصريّون الصحفي الراحل "جليل البنداري" (1917- 1968) ؛ تحوّلَ "جليل" في سنوات الخمسينيات الأولى من مجرد موظف مغمور في مصلحة التليفونات إلى صحفي معروف بمؤسسة أخبار اليوم وناقد فني بارز، لم ينج مغني أو فنان أو كاتب من لسانه الفَج وكلماته اللاذعة تحت مسمى النقد الفني.

كان أهل الوسط الثقافي يحبسون أنفاسهم؛ ترقبًا للغارة "الهتلرية" التي سوف يشنّها جليل عليهم من عموده الأسبوعي"ليلة السبت" بجريدة أخبار اليوم، وبعد الإفصاح عن الضحية الفنيّة يظلوا يراقبونها في صمت وهو يمزّقها بغير رحمة، ولا ينطق أيهم بكلمة دفاع مستحقة خشية أن يكون هو القادم.

إزاء السلبية الجماعية تمادى جليل في تكذيبه وطعنه وشتمه في كل فَن وفنان بلا وازع، حتى ساقته نوبة من الحظ السيء عام ١٩٦١ إلى الاشتباك مع جواهرجي الكلمة الشاعر "مرسي جميل عزيز" في معركة لم يتوقع أبدًا عاقبتها عليه ..   

* خاف منه الجميع .. ما عدا هو:

بعدما فشِلَ الفنانون والمبدعون في ترويض جليل انقسموا إلى فريقين: أولهما دأب يتقي شر غاراته النازية بالابتعاد - قدر المستطاع - عن مرمى قذائفه المسماة "نقدًا فنيًا" مثل أم كلثوم وتحية كاريوكا، والفريق الآخر اندفع يخطب وِدهُ ويتزلف له، ومنهم الأستاذ محمد عبدالوهاب، الذي كان بكل تاريخه يدعو جليل إلى بيته ويمسك له العود وعلى دقاته يتركه يغني، ليخرج بعدها موسيقار الأجيال بجلالة قدره بتصريح عجيب "أن جليل البنداري يصلح أن يكون مغنيًا"، ولما سأله الصحفيون عن غرابة تصريحه لأن جليل صوته أجش، رد عبدالوهاب في دبلوماسية "ما أقصده أنه فنان متعدد المواهب!"، وعلى غرار أستاذه ذهب عبدالحليم حافظ طائعًا إلى جليل ليدلي له بحوار صحفي دعاه إليه، لم يجرؤ حليم الذهاب إلى مكتب محاوره "طويل اللسان" في أخبار اليوم، إلا بعد أن يمر على الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل (رئيس التحرير وقتها) ليطلب منه أن يكفيه شره أثناء وبعد الحوار، اتصل به الأستاذ هيكل ودعاه أن يجري الحوار في مكتبه في إشارة منه أن يلتزم مع حليم، جاء جليل إلى مكتب الأستاذ "هيكل" منتفخ الأوداج وبمنتهى الصفاقة قال لعبدالحليم "توسط الأستاذ هيكل عشان ما ااشتمكش يا ابن ..."، ولمّا هادنه حليم فيما بعد كافئه وأطلق عليه لقب "العندليب الأسمر". غير أن مرسي جميل عزيز، لم ينضم لأي من الفريقين، بعد اعتداء بادر به جليل، إنما واجهه بجسارة فلاح شرقاوي أصيل وعنيد، خرج من غيطهِ حاملًا فأسه يدافع عن شرفه، رافعًا شعار "مش كل الطير اللي يتاكل لحمه". لم يخشَ مرسي جاعورة "جليل" العالية وهديرها المزعج، أو ترهبهُ مقالاته التي تركت ندبات عميقة في أعمال أقرانه الفنية، وخدشت سمعتهم الإبداعية والشخصية أمام الرأي العام.

كفالة فنيّة قدرها 500 جنيه :

بدأت المعركة بين جليل ومرسي، في نطاق ضيق؛ بأن كتب جليل مقالًا بتاريخ 28 أكتوبر 1961، بـ"أخبار اليوم" بعنوان "من هو قرصان الأغانى.. الذى سرق أجمل كلمات هذا الموسم؟"، واتهم فيه مرسى بسرقة مطلع أغنية الشاعر أحمد شفيق كامل "أنا شفت جمال"، واختتم مقاله برأى مأمون الشناوى الذي قال "كان ينبغى على الموجى أن ينبه مرسى جميل إلى أن مطلع هذه الأغنية سبق أن قاله شفيق كامل" وأضاف: "وأنا فى حكمى هذا.. لا أعفى الموجى ومرسى من تهمة التواطؤ معا".

واصل جليل بأن كتب مقالًا بعنوان .. "إنت وبس اللى حبيبى إنت وبس اللى حرامى".. يضيف المزيد من الأغنيات إلى قائمة الاتهام، ليصبح مجموع الأغانى المتهم مرسى بسرقتها 12 أغنية من أشهر مؤلفاته.

ردًا على ذلك قام فارس الأغنية بنقل المعركة إلى ساحة الرأي العام، لتتسع دائرتها إلى أقصى حد ممكن؛ أدخل فيها رموز مبدعي وأدباء العصر كطرف أصيل؛ في سابقة هي الأولى من نوعها، طلب من الصحيفة عقد محاكمة علنية له، بأن ترسل مقالات جليل إلى مجموعة من كبار النقاد والأدباء تختارهم الجريدة لاستطلاع آرائهم فى اتهامه بالسرقة، أرسل مرسى إلى أخبار اليوم شيكا بمبلغ 500 جنيه كتكفل منه بمصاريف المحاكمة، وانعقدت المحكمة الفنية بالفعل على صفحات أخبار اليوم بتاريخ 9/12/1961، ضمت هيئة المحكمة كبار أعلام الفكر والأدب : د. على الراعى- د. لويس عوض- د. عبدالقادر القط- د. محمد مندور، والشاعر صلاح عبدالصبور.

لتكون المعركة هي الأكثر دَويًا، والأكثر اهتمامًا بالنسبة للشعب الذي يصل بالفنانين والأدباء لمنزلة التقديس؛ فوقف الناس أمام المعركة يتفرجون باهتمام، ينتظرون النتيجة بشغفٍ وقلق، يزايلهم خوف كسر يقينهم وتصديقهم لرجل أحبوه من صدق إحساسه وجمال أشعاره تغنّي بها فيهم الكبير والصغير، بعدما أنطق بها لسان كبار وشباب مطربي العصر في كل مسرح وإذاعة وسينما.

نظرت المحكمة الفنية العليا كل الأغنيات التى اتهم مرسى بسرقتها، ثم انتهت فى قرارها إلى:

"أولا يميل الرأى العام للنقاد إلى تبرئة مرسى جميل عزيز من تهمة السرقة فى عشر قصائد (أى أغنيات)، وهناك رأى آخر يميل إلى اتهامه بالاقتباس فى قصيدتين (أى أغنيتين) هما (يأبو رمش بيجرح) (ويامه القمر ع الباب)، ثانيا: يجمع النقاد تقريبا على أن موهبة مرسى جميل عزيز لا شك فيها، والذين يسلمون من النقاد بأن مرسى قد استعار شيئا من الآخرين هناك شبه إجماع على أن مرسى يتفوق على الذين أخذ منهم تفوقا كبيرا وملحوظا، ثالثا: قاموس الأغانى عندنا محدود، والكل يأخذ من التراث الشعبى، وهذا سبب كبير من أسباب التشابه والالتقاء بين المؤلفين". فهكذا قاد مرسي معركة فنية حامية الوطيس انتصر في ختامها.

أصداء المعركة :

استقبل الرأي العام والوسط الفني والثقافي كله نتيجة المعركة الحاسمة بارتياح وقبول؛ سعادةً بإنجاز مرسي بعدما فقأ فقاعة "جليل" وتحطمت على يده أسطورته المخيفة للوسط الثقافي بغير رجعة. أما خطورة المعركة وفضلها في نفس الوقت أنها: لم تستهدف شخصًا بعينه - كما يبدو ظاهرها للجميع - بل طالت جيلا كاملًا من الإبداع، وأخذت تطعن في أخلاقه وشرفه الفني، لو انتهت المعركة لصالح "جليل" وفق المبدأ الذي انتهجه "مرسي" واختاره أن يكون عنوانًا للمعركة "قضية جيل بأكمله" لصار جيل الستينيات الذهبي عُرضة للتشويه المستحق؛ لصحة اتهام رمز الأغنية ومبدعها الأكبر بالسرقة الفنيّة، ومن ناحية أخرى لو أذعن بالصمت مثل غيره؛ لأدان كل من حوله ممن لحنوا وغنوا وأنتجوا وأيضًا من سمعه من الجمهور، ولن يكون بعدها هناك قدوة فنية قادرة على النهوض بالأجيال القادمة، ولأصبح هذا التراث محطًا للسخرية والإنكار، وموطنًا لمغارات التشكُك من وقتها إلى الآن. مَنَحَ مرسي جميل عزيز الفن الغنائي طابعًا مميزًا نتذوقه ونستشعر حداثته وتفرده حتى الآن، وكذلك أعطاه أيضًا اللبنة الأولى التي شيّد عليها قواعد محاكمته العادلة بأن استنطق كبار أستاذة النقد والأدب؛ ما رسّخ للمنهج العلمي النقدي، وأوضح الفرق بين النقد الفني الحقيقي وبين الهجاء والشَتْم. ثقته في فنهِ وحكمة تصرفه، أنقذت تراثًا فنيًا بأكمله من الضياع، وصانته من مغبّة الهَدر والتسفيه.

    الاكثر قراءة