الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

فن

فلسفة الحب في أغاني شاعر الألف أغنية

  • 19-10-2020 | 20:50

طباعة

 لكل شيء شواهد وعلامات تدل عليه، فإن للحب والمحب علامات وشواهد تفضحه وتفصح عنه يلمسها المرء الناظر إليه والمتتبع خطواته على نحو لا تخطئه العين ولا يكذبه إحساس القلب، تتراوح هذه العلامات بين الشكل والملامح والسلوك والتصرف وغيرها من الصفات التي تسيطر على صاحبه وتخيم على ملامحه. ومن شواهد الحب أننا نجد المحب يستدعي اسم من يحب ويستند لكلامه ويتحدث عنه وعن أخباره طوال الوقت، ويسهر الليل ويناجي القمر ويعد النجوم ولا يثنيه عن ذلك تخوف من أن يفطن السامع أو يفهم الحاضر، لأن حبنا للشيء يعمي ويصم. ومن علاماته حب الوحدة والأنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حد يكون فيه، والسهر على أغراض المحبوب وقد أكثر الشعراء في وصف ذلك وحكموا على أنفسهم أنهم رعاة الكواكب والنجوم وراحوا يجوبون سماء الليل طولًا وعرضًا.

     فالمحب يسمع ما يطوعه عقله وتفسيره بما يتفق مع لوعة الحب التي يعيشها مع محبوبه، فنجده يسمع أغاني لمطرب أو مطربة أو يقرأ أبيات شعر لشاعر معين، مطوعًا كلمات الأغنية أو أبيات الشعر على محبوبته بغض النظر عن ذلك المحبوب إن كان بشرًا أو وطنًا أو حب الله أو دون ذلك، فيختلف المحب في طربه وتطربه عند سماع الكلمات عن ذلك الذي يحب. فللكلمات معاني عميقة عند المحب قد تتعدى معانيها التي يعرفها العامة الذين لم يتمتعوا بوجد الحب ولوعته ولذاته كما تختلف تلك المعاني بين المحبين أنفسهم من معاني تثير اللذة البشرية إلى لذة من يسمو بحبه من حب للخلق إلى حبه للخالق.

ولأن الأغنية العربية شكلت وجداننا في مرحلة الصبا وبداية مرحلة المراهقة، وأعطتنا دافعًا لأعلى مواصلة الحب في حياة أجمل وأفضل وأرقى، أراني دائماً أتوقف عند أغنية «ألف ليلة وليلة»، التي غنتها لنا كوكب الشرق أم كلثوم من كلمات الشاعر مرسي جميل عزيز ولحنها لهم المبدع بليغ حمدي فلقد أصبحت  كلمتها شعارا للعشاق في كل زمان ومكان".

ياحبيبي

الليل وسماه .. ونجومه وقمره وسهره

وانت وأنا يا حبيبي أنا .. يا حياتي أنا

كلنا في الحب سوا...

والهوى آه منه الهوى سهران الهوى يسقينا الهنا ويقول بالهنا

يا حبيبي

يالله نعيش في عيون الليل ونقول للشمس تعالي بعد سنة مش قبل سنة

دي ليلة حب حلوه بألف ليلة وليلة بكل العمر..

ففي هذه الأبيات البسيطة والكلمات العذبه الرقيقة نجد لوعة الحب في صوت كوكب الشرق، ونرى المحبيين ترق أعينهم عند سماع تلك الكلمات التي تتغنى بالوجد والحب وتتواتر جفون أعينهم وهي تفيض من الدمع، وترتعش خلجات أجسامهم شوقًا للمحبوب وأملًا في مزيد من القرب، ففي تلك الكلمات التي نسجها لنا مرسي جميل عزيز نرى شمسا أخرى لا تشرق وتغرب كما تشرق الشمس وتغرب، وليلا ونهارا لا يختلفان كما يختلف الليل والنهار، وليلا للعاشقين ليس كليلنا نسعد فيه ونشقى، ونحسن فيه ونأثم، بل ليلهم يخرجهم من الضيق إلى السعة، ومن البؤس إلى النعيم، يرد نافرهم، ويصلح فاسدهم، ليلهم يلائم قلوبهم، وأذواقهم، وعقولهم التي لا تساير الزمن، ولا تتأثر بالأحداث، فالحب هو الذي يسيطر على يقظة صيفهم، وزمهرير شتائهم، واعتدال ربيعهم. ليلة من ليالي الحب لا يمكن تعويضها كما يقول الشاعر مرسي جميل عزيز بأي حال من الأحوال، في المقطع الأخير تختم الأغنية بدعاء يقسمه بليغ إلى جزءين. الجزء الأول لحن رومانسي وهو الذي يبدأ بعبارة "يارب تفضل حلاوة أول لقا في إيدينا"، أما الجزء الثاني فهو جزء شعبي وهو الذي يبدأ بعبارة "لا عمر كاس الفراق المر يسقينا". هنيئاً لجموع المحبين الذين بلغوا من العشق ما بلغوا، ويسرت لهم الأقدار الكثير من الغرام العفيف الذي اطمأنوا إليه، ووجدوا فيه السعادة التي لا تعادلها سعادة، واحتفظوا بطهر هذه الصبابة ونقائها، حتى صلحت لتتويج رائع.

 وفي فلسفة حب الحياة أتوقف على رائعة أخرى من روائع العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ومرسي جميل عزيز وهي أغنية "ضحك ولعب وجد وحب" والتي لحنها لهم منير مراد في الفيلم العربي "يوم من عمري"، ففي هذه الأغنية فلسسفة حياتيه قوية، فلسفة تعبر عنا، فلسفة تساعدنا إذا طبقناها في حياتنا أن نتجاوز كل الصعوبات، وتتحول أيامنا إلى طاقة حب وعطاء وإقبال على الحياة.

فلسفة هذه الأغنية هي حب الحياة التي  يتكلم عنها الآن، وفي كل دول العالم، كل كُتّاب ومحاضري التنمية البشرية، فنجد فيها الاقتراب الكامل من النظر إلى العالم عبر منظار المحبة الكونية، فالحب الكثير، بل الإسراف في الحب، هو الطريق الوحيد للحياة بكل نعم الدنيا. ومن الكلمات التي أرى فيها فلسفة الحياة واضحة كوضوح المعنى في قلب المحبين في هذه الأغنية:

عيش أيامك عيش لياليك
خلي شبابك يفرح بيك
عيش بالروح والعين والقلب
ضحك ولعب وجد وحب

من خلال الأغنية يشعر المحب أنه من الضروري أن يقوم الإنسان بأداء دوره الحياتي، كما هو مطلوب منه، ولكن أن يعطي كل شيء حقه المطلوب، دون الإخلال بالمتطلبات الحياتية الأخرى. والتأكيد على أن يكون كل شيء منطلقًا من الحب، لأن الحب بطبيعته جزء من القلب، والقلب مرتبط بالمحبة الكونية الإلهية. ولذلك أرى ضرورة أن نعيش بمثل هذه الفلسفة من أجل أن تكون حياتنا أكثر صفاء وسلامًا وسعادة.

   وفي حب الوطن تغنى محمد فوزي برائعة من روائع مرسي جميل عزيز وهي أغنية "بلدي أحببتك يا بلدي"، التي عرفها الناس بعد وفاته وأدركوا أن الوطنية ليست بأشخاص ولا قصائد أو شعراء.. الوطنية إحساس.

    الوطن يُشبه المسيرَ في حقلٍ مليءٍ بالأزهار والأشجار المثمرة والروائح الجميلة، فالوطن هو حقول الورد التي تُزهر في الروح، وهو الخيمة الكبيرة التي يستظلّ الجميع بوهو الأهل والظلّها، وهو النسمة الوادعة التي تهبّ على النفس الحزينة فتُشعلها فرحًا، وهو الأهل والأحبة، وهو كلّ شيءٍ جميل، ولا يُدرك قيمة الوطن وجماله إلّا من تغرّب عنه، ففي لحظات الغربة يفتقد الإنسان كلّ إحساسٍ بالجمال؛ لأن الوطن هو الأمان والاستقرار، وهو قوة الجذب الهائلة التي تجذب القلوب والعقول، ولا يمكن لأي كائنٍ أن يعيش بكرامة كاملة إلا في وطنه، فالوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل.

   مهما كانت الظروف والأحوال سيئة في الوطن، يظلّ الوطن حنونًا؛ لأن محبة الوطن لا تُقاس بمقدار ما يُقدمه الوطن لأبنائه، بل على العكس تمامًا، إذ يجب على أبناء الوطن أن يقدموا للوطن كل ما بوسعهم كي يضعوه في المقدمة، ومن ثم ينعمون بخيراته والأمن على ترابه وتحت سمائه، فالوطن يكبر بسواعد الرجال ودعاء الأمهات ومحبة الأطفال وإرث الأجداد، والوطن أكبر من كلّ شيء، وأغلى من الأبناء والأحفاد، ولو خيروا الناس بين التضحية بدمائهم وبين أوطانهم، فلا شكّ بأنهم سيختارون أوطانهم لأنّ لا شيء يوازيها، ولا يمكن أن يأخذ مكانه أحد. مهما قيل في حب الوطن من قصائد وأشعار، يظلّ الوطن أكبر من الوصف، وليس غريبًا أن يكون الوطن ملهمًا للأدباء والشعراء، فالجميع يتفاخرون بحبهم لأوطانهم، لأنهم يعلمون قيمة الوطن، ولهذا يتغنون فيه ويصفونه بأنه حبهم الكبير، والحبيب الذي لا يخون أبدًا، ومن أجمل القصائد التي قيلت في الوطن كلمات مرسي جميل عزيز وبصوت محمد فوزي:

بلدى أحببتك يابلدى

حبا فى الله وللأبد

فثراك الحر تراب أبى

وسماك يزف صبا ولدى

بلدى أحببتك يابلدى

   ومن خلال السطور السابقة ظهرت فلسفة الحب في كلمات مرسي جميل عزيز، ففي فلسفته حب للحياة وللوطن الذي من خلالهم يحب المرء ذاته ومن حلوهِ، الحب في كلمات "عزيز" يسمح للمرء بالتنفس في الحياة، ويصبح الحب وجه من أوجه الحياة يكملها بالذكاء والقوة والإبداع والروعة الكاملة. كما أنه فن ترتيب باقة الأزهار الذي به تتفاخر كل زهرة بجمالها أمام كل زهرة أخرى، على هذا النحو، يسمح الحب لكل محب أن يكتمل بمحبوبه ويتمجد ويتفاخر بوجوده في حياة من يحب. بهذه الطريقة يكتمل الوجود ويتمتع الكمال الذاتي والموضوعي بداخل المرء بالقوة المطلقة والذكاء والإبداع الوجودي الأبدي مع من يحب سواء كان وطنا أو شخصا أو غير ذلك.

    الاكثر قراءة