الثلاثاء 28 مايو 2024

مرسي جميل عزيز.. عشرة قلوب في قلبه

فن19-10-2020 | 21:02

"سيرانو: أنا عاصفة تهدر، وسماء تصعق.. ألا من جيش كامل أنازله.. فإن لي الآن عشرة قلوب تخفق في صدري". مقطع من "سيرانو دي برجراك" لإدموند روستان، بترجمة عباس حافظ.


تدور المسرحية حول ذلك الفارس الرقيق الذي يكتب الرسائل لابنة عمه "روكسان" نيابة عن فارس آخر. فرغم أن قلبه كان معلقًا بها، إلا أن شعوره بدمامة أنفه أخجله من الاعتراف بحبه. ولسبب أجهله، كنتُ أرى روح "سيرانو" في مرسي جميل عزيز (1921ـ 1980) ربما لأنه بشاربه ونظارته وخشونة ملامحه، مثل معظم فلاحي الدلتا، لا يملك وسامة نجوم السينما، لكنه مثل سيرانو في الرقة "يملك عشرة قلوب" في قلبه. وكل أغنية كتبها كانت رسالة لآلاف الحبيبات، نيابة عنا جميعًا.


1.    ينتمي شاعرنا إلى الجيل التالي لبيرم التونسي وأحمد رامي، ويشكل مع حسين السيد وفتحي قوره ومأمون الشناوي أبرز أسماء هذا الجيل. لكن مرسي لا يبدو شديد الاعتناء بوسامته وأناقته وحف شاربه على طريقة حسين السيد.


ربما هو أقرب في طبيعة ملامحه إلى أحمد رامي، والوريث الأقرب إلى رومانسياته. مثلما هو وريث بيرم في شعبياته مثل "يا مهون" و"عطشان يا صبايا".


هنا يبرز اختلاف مهم أن "مرسي" يرى نفسه "الشاعر" بكل ما تحمله الكلمة من اعتداد بالذات، وليس الشاعر "الملاكي" لأحد مثلما كان رامي لأم كلثوم وحسين السيد لعبد الوهاب.


صحيح أنه تعاون مع عبد الحليم في حوالي أربعين أغنية، لكن كلماته امتدت لأعظم الحناجر العربية مثل: أم كلثوم، وعبد الوهاب، وفريد الأطرش، وشادية، ونجاة، وفايزة أحمد، وفيروز، وصباح، وفوزي، وقنديل، ووردة، وعفاف راضي.


لا يكون الشاعر فارسًا حرًا إلا إذا حرر كلمته من أسر الحنجرة التي تؤديها. وقد اختار أن يكون حرًا منذ البداية، منذ أن آثر ألا يكمل تعليمه الجامعي، ليكون أستاذ نفسه، وظل يتردد في فترتي الصباح والمساء على مكتبة البلدية في الزقازيق، لينهل بإرادة ذاتية من معين الأدب العربي قديمه وحديثه. كما اختار الاستمرار في مهنة أبيه "الفاكهاني"، وهي مهنة تضمر في داخلها معنى الحرية وعدم التقيد بوظيفة، ليصبح فيما بعد "فاكهاني الكلمات" وسيد بستانها.


ورغم خوضه معارك تشكيك في بعض أغانيه، وكان أبرز خصومه جليل البنداري ومأمون الشناوي، لكنه ظل دائمًا جاهزًا للمواجهة والدفاع عن أصالته، حتى وإن استعار مذاهب أو تراكيب شعبية ثم أكمل عليها.


2.    ينتمي شعر مرسي جميل عزيز على مستوى اللغة والصور إلى المدرسة الرومانسية، ليس لأنه يكتب "أغنيات عاطفية"، بل لأن نتاجه الشعري يمثل كل خصائص هذه المدرسة.


وقد رفعت جماعة "أبولو" لواء الرومانسية في مصر، على يد شعراء مثل أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل. وتصادف ازدهارها مع طفولة مرسي نفسه. كما تشارك معظم شعرائها في الانتماء إلى الريف المصري في المنصورة والشرقية، وهي البيئة ذاتها التي نشأ فيها مرسي جميل ابن الزقازيق.


فمن المؤكد أنه تأثر بشعر مدرسة أبولو وفلسفتها، والولع بجمال الريف المصري، والاهتمام بصدق العاطفة، وتحرير الخيال، ومداعبة الأحلام. إضافة إلى ولعه بالتراث وأشعار أبي نواس والمتنبي. وما أغنيته الخالدة "ألف ليلة وليلة" إلا تقطير لحكايات "ألف ليلة وليلة" أعظم ما كُتب في الآداب العربية.


لكن نصوصه الغزيرة ـ مثل معظم شعراء العامية الكبار ـ لم تُقرأ رغم أنها تعد تطويرًا مؤثرًا للرومانسية المصرية، وللشعر العربي الفصيح نفسه.


3.    لقد كان رامي رومانسيًا وهو من كتب لعبد الوهاب "أحب عيشة الحرية.. زي الطيور بين الأغصان". لكنها رومانسية محسوبة، خاضعة لتقاليد عصره، وما أكثر ما اجتر الفكرة ذاتها في أغانيه لأم كلثوم عن الحبيب المتذلل الذي يناجي طيف محبوبه: "سهران لوحدي أناجي طيفك الساري.. سابح في وجدي ودمعي ع الخدود جاري".


أما رومانسية مرسي جميل فهي رومانسية حرة، متمردة على التقاليد، وعلى الماضي، تنطلق من تلوينات التجربة الشعورية: "وعاوزنا نرجع زي زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان.. وهات لي قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا داق حرمان".


هذا المقطع الذي انطبع في وجدان الملايين، ليس فيه تذلل رامي، بل صوت شجاع رغم الألم، وغير مستعد للجرح والحرمان مرة أخرى.


ثمة اختلاف كبير في الصورة والمعنى، واستيعاب لروح الرومانسية التي تعمق حضورها عقب الثورة الفرنسية. فالرومانسية ثورية في جوهرها، على صعيد اللغة والصور الشعرية ورؤية الحياة. فمثلا أغنية "ياما القمر ع الباب"، هي في نظري من أكثر الأغاني ثورية في تاريخ الغناء العربي، لأن المرأة لم تعد مقموعة، أو مجرد موضوع يتوله به الرجل، بل هي إنسان لديها مشاعر وموقف تعبر عنه بجرأة. رغم ما قيل عن استلهامها من أغنية قديمة لمطربة تدعى توحيدة تقول كلماتها "يابا القمر ع الباب".


4.    من أهم سمات الرومانسيين العناية بجمال الطبيعة، والصورة البصرية وعدم الاكتفاء بالتعبير عن انفعال عاطفي، وهو ما يظهر في أغنية شادية "شباكنا ستايره حرير.. من نسمة شوق بتطير" و"والحلوة داير شباكها شجرة فاكهة"، و"دوار حبيبي آخر طراوة"، و"اسبقني يا قلبي وطير" لعبد الحليم.


هنا دس للاستعارات بخفة في لهجة عامية ليست عصية على أي متلق مهما كان مستوى تعليمه، ولا يقدر على ذلك إلا شاعر عظيم. فتعبير "نسمة شوق" استعارة بليغة، وكذلك النداء على القلب كي يسبق صاحبه. والجناس الناقص بين "شباكها" و"فاكهة".


ويتماهى التغني بالطبيعة مع الوله بالأنوثة والخفة المصرية كما في: "يا مزوق يا ورد في عود"، "والشعر الحرير ع الخدود يطير" و"تمر حنة" (هناك روايات تنسبها إلى جليل البنداري).


وفي كثير من تلك الأغنيات تحضر العيون نافذة للحب والقلب، وفتنة الجمال. كما في "أبو عيون جريئة"، و"رمش عينه" و"حياة عينيك وفداها عينيه".


5.    لقد تجاوز مرسي جميل نمط التذلل للحبيب وطرح نموذجًا ثوريًا. كما وسع مفهوم الحب باتساع الإنسانية كلها كما في "أعز الناس حبايبنا"، و"بيت العز".


هذا لم يكن مجرد تغيير في الصور البلاغية، بل أيضًا في قوالب الأغنية وتكنيكها، فبرزت "الدرامية" في صياغة أغنيات مثل ثلاثيته مع الست: "سيرة الحب" كملخص أحوال العاشقين، و"فات الميعاد" و"ألف ليلة وليلة".


 أيضًا "يا حلو صبح" هي تقطير عذب لمشهد مصري مألوف حين تمر فتاة جميلة مع شروق النهار، وكذلك "قاضي البلاج"، ولا شك أنه قد استفاد من دراسته لفن السيناريو وكتابة الأغاني لأكثر من 25 فيلمًا، فكان حريصًا أن تنبع الأغنية من الموقف الدرامي، وليس مجرد حشو عاطفي.


كما تتجلى الدرامية في جدلية المرح والشجن التي يتردد صداها في معظم أغانيه مع العندليب مثل "ضحك ولعب وجد وحب" و"يا خلي القلب".


ولأنه نواسي في أعماقه، كان من الطبيعي أن يدعو لاغتنام اللحظة "ليه تشغل بالك ليه على بكره وتبكي عليه". لكنه أيضًا خيامي فيلسوف، رغم عشقه الجارف للحياة لا يمل من طرح الأسئلة حول جدواها: "جايين الدنيا ما نعرف ليه! ولا رايحين فين ولا عاوزين إيه"، وهي أغنية موسيقار الأجيال التي تلخص شاعرية مرسي جميل. إنه هنا يصعد بالدرامية إلى الرؤية الفلسفية والبحث عن معنى الحياة.


ولا ننسى أنه شاعر العامية المصري الوحيد الذي غنت له فيروز، والمفارقة أنه كتب الأغنية بالفصحى ملخصًا ومقطرًا روح الشاعر والفارس:


"لما لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه


ونشيد البل الشادي حياة لهواه


لما لا أحيا وفي قلبي.. وفي عيني الحياة


سوف أحيا.. سوف أحيا"


ورغم أن مرسي جميل عزيز أسلم الروح قبل أن يتم الستين، لكنه سوف يحيا.. وسوف يحيا.