تعد الأوبريت إحدى الأشكال التي تطورت إليها الأوبرا
"المضحكة" والفودفيل (كوميديا موسيقية)، ثم تطورت وأصبحت شكلا مستقلا له
طابع عاطفي وشعبي لا يخضع لقواعد الأوبرا الصارمة. ورغم هذه الاستقلالية النوعية
ظل التداخل بين تلك الأنواع الموسيقية واضحا؛ فالأوبريت قد تتداخل مرة مع
الكوميديا الموسيقية ومرة أخرى مع أوبرا البالاد.
وعرفت
الأوبريت بوصفها نوعا غنائيا شعبيا لا يخضع للقواعد الصوتية الصارمة التي نجدها في
الأوبرا، وتستند الموسيقى فيه إلى ألحان سهلة وسريعة الحفظ، وتحتوي على مقاطع
حوارية كلامية تطرح موقفا دراميا صراعيا أو فكاهيا تتخلله مقاطع غنائية خفيفة
ألحانها بسيطة يسهل ترديدها من قبل المتلقي، وارتبطت الأوبريت في البداية بخشبة
المسرح.
وقد
سمح الطابع الغنائي للمسرح في نشأته العربية باستيعاب الأشكال المسرحية الغنائية
والموسيقية ومن ضمنها الأوبريت، خاصة بعد انتقال الكثير من المنشدين والمغنيين إلى
عالم المسرح مثل سلامة حجازي وسيد درويش ومنيرة المهدية، ولاقت الأوبريت رواجا
كبيرا لدى الجمهور في مصر فأقبل عليها رجال المسرح لارتباطها بموضوعات شعبية
وعاطفية ناسبت الشرط الثقافي الكائن.
ومع
تراجع المسرح الغنائي ومعه الأوبريت في ثلاثينيات القرن العشرين، انتقل المسرح
الغنائي والأوبريت بالتبعية إلى الإذاعة؛ ليظهر ما يعرف بالتأذيع المسرحي الذي
يعني -بتعريف الكاتب عماد مطاوع- "مشاهدة المسرح بالأذن بعد أن يتم صبه في
قالب يناسب الوسيط الإذاعي"، كما انتقلت الأوبريت إلى الشاشة المرئية عبر
الأفلام السينمائية الاستعراضية.
وعلى الرغم من صعوبة نقل كل عناصر
العرض المسرحي من ديكور وإضاءة وحركة ممثلين، فقد كان الأوبريت هو الأسهل
"تأذيعا" لاعتماده في الأساس على الصوت -وهو العنصر الوحيد الذي يسهل
نقله- والتنويع بين المقاطع الحوارية البسيطة والمقاطع الغنائية المعتمدة على
إيقاعات لحنية مباشرة دون مؤثرات صوتية معقدة والتي تأتي معلقة على الحوار الكلامي
الدائر بين شخوص الأوبريت.
كما ناسب الأوبريت الغنائي صناعة
السينما فتم توظيف الأوبريت الغنائي في بعض المشاهد الفيلمية البدءية أو الختامية،
وكان لها جماليتها المختلفة المتصلة بالحدث الدرامي المرئي من ناحية، وبتأكيدها
على العلاقة بين المسموع والمرئي من ناحية أخرى، فإذا أردنا أن نمنهج الأوبريت، من
الممكن اعتبارها -بتعبير جينيت- نصا موازيا، وكأن الحدث الدرامي هو النص المرئي،
والأوبريت النص الموازي المسموع، الذي يقوم بدور البرولوج أي افتتاحية الحدث أو
الآبيلوج أي تتمة الأحداث والتعليق عليها.
يمكن القول بأن الأعمال الدرامية
الإذاعية والسينمائية بشكل عام -باعتبارهما من وسائل الإعلام الجماهيرية- تتحكم في
الصورة الذهنية التي يتبناها الفرد حيال المجتمعات وتسهم في دعم بعض القيم
والمفاهيم أو في تعديلها وتغييرها من ناحية، وفي تصدير الخلفيات المعرفية إزاء
المواقف السياسية والاجتماعية من ناحية أخرى.
وتعد الأغنية من أسرع تلك
الوسائل تأثيرا في المتلقي أو السامع لاعتمادها على اللازمات الإيقاعية والكلامية،
ومن ثم الأوبريت الذي يحوي فواصل غنائية موسيقية تكسر نمطية الصوت الواحد أو
النغمة الواحدة وتعلي من درامية الأحداث.
وقدم الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز
(1921- 1980) عدة
أوبريتات معدة دراميا للإذاعة مثل أوبريت "عواد باع أرضه"
و"المولد" التي تمت إذاعتها في ستينيات القرن العشرين، وأخرى معدة
سينمائيا مثل أوبريت "قاضي البلاج" التي جاءت ضمن الفواصل الغنائية
لفيلم "أبي فوق الشجرة" الذي عرض في نهاية ستينيات القرن العشرين كذلك،
وتغنى بها -إلى جانب عدد من الأصوات- عبد الحليم حافظ.
أهم ما ميز تلك الأوبريتات الغنائية
لمرسي جميل عزيز أنها تعاطت مع الظرف الاجتماعي والثقافي وكذلك السياسي الذي كتبت
في شرطه، فتتميز فترة الستينيات من القرن العشرين باعتبارها فترة التمرد على عدد
من الأفكار الراسخة ورفضها ومساءلتها، كما أنها الفترة التي اشتد خلالها المد
الفلسفي وموجة "الوجودية العربية" كظاهرة فكرية ذات قدر عال من التسييس.
ففي أوبريت "عواد باع
أرضه" يردد مرسي جميل عزيز تيمة شديدة المحلية تتصل بالفضاء المكاني للريف
المصري؛ مؤكدا على أهمية الأرض لما لها من بعد قومي خاص بالانتماء للمكان/ الوطن
وآخر اشتراكي خاص بالعدالة الاجتماعية، واشتهر الأوبريت بسبب لازمته المعروفة
"عواد باع أرضه يا ولاد .. شوفوا طوله وعرضه يا ولاد".
وبنى عزيز الأوبريت على حادثة
تاريخية حقيقية وعلى الشخصية الفاعلة فيها "عواد" الذي وُظف باسمه، إلا
أن عواد في الحادثة الأصلية قُتل أثناء تمسكه بالأرض ودفاعه عنها. وهذه المخالفة
التوظيفية تذكرنا بضرورة استعادة التاريخ الحقيقي للقصة عبر تكرار الأوبريت
لللازمة "الأرض أرضنا عن أبونا وجدنا.. وبكرة ولا بعده لعيالنا بعدنا".
تتحدد أهمية الأوبريت في اعتمادها
على تقنية تعدد الأصوات والشخصيات وما تكفله من مجابهة حوارية تعمل على عرض أبعاد
فكرية متصارعة ووجهات النظر المتعارضة، المتعلقة برؤية الشاعر أكثر مما عبرت عن
أحداث درامية، أي أن هذه الشخوص المتحاورة المتصارعة هي بمثابة رموز لأفكار الشاعر
وأحاسيسه، واعتمادها كذلك على المقاطع الغنائية الموسيقية -التي أدتها سعاد مكاوي
وسيد إسماعيل- والتي جاءت معلقة على البنى الحوارية.
وجاءت الأوبريت الإذاعي
"المولد" برصد حالة أخرى أو لوحة أخرى من اللوحات الشعبية في المجتمع
المصري بشكل عام والريفي بشكل خاص، وهي الموالد وطقوس الاحتفال بها، وانبنت
الأوبريت كذلك من مقاطع حوارية عملت على إبراز لغة الشخصيات التي جاءت معبرة عن
مستواها الفكري والثقافي بشكل واضح.
وقد تتضافرت في بنية الأوبريت أشكال
لغوية وتعابير محلية المعبرة عن هموم الفرد وطبيعة تفكيره ونمط الحياة التي يعيشها
في تعيينات مكانية محددة وتحيينات زمنية بعينها، ووصفت العادات والتقاليد التي
تتوارثها الأجيال في تلك المناسبة، واستثمرت ببراعة كذلك المخزون الجماعي من
الأغاني والأمثال والألفاظ المحلية المرتبطة بهذه المناسبة مثل اللازمة الختامية
"الله الله يا بدوي جاب اليسرى".
ومن الملاحظ أن هذا النهج -الذي
اعتمده عزيز في بناء الأوبريتات الغنائية التي قدمها للإذاعة أو للأفلام
السينمائية- يعمل على إضفاء نوعا من الصدق الواقعي على تلك الأوبريتات، ويمنحها
طابعا إبداعيا يحمل خصوصية شعبية وحياتية سواء في تشكيله لمقاطع الحوار الكلامي أو
في هيكلته لبنية الأغنية نفسها.
قبل التطرق إلى أوبريت "قاضي
البلاج" نلمح إلى وضع السينما المصرية في تلك الفترة؛ فقد أدى تأميم صناعة
السينما في الستينيات إلى انخفاض عدد إنتاج الأفلام وانخفاض عدد دور العرض، لكنه
أسهم في إنتاج سلسلة من الأفلام الهادفة التي جاءت استمرارا لفترة الخمسينيات من
حيث المواضيع والتقنيات التصويرية.
وشهدت تلك المرحلة على ظهور جيل
جديد من المخرجين اهتموا بقضايا الأرض والإنسان رصدوا مشاكل الأجيال الجديدة
والفجوة بين جيل الآباء وجيل الأبناء؛ فمثلما قدم عاطف سالم "احنا
التلامذة" في الخمسينيات، قدم حسين كمال "أبي فوق الشجرة" في نهاية
الستينيات.
يتضمن الفيلم عددا من الأغنيات إلى
جانب أوبريت "قاضي البلاج" المشهور الذي كتبه مرسي جميل عزيز وقام
بتلحينه منير مراد، وتناول الأوبريت عدة قضايا أهمها كما عبر عزيز في افتتاحيتها
"الهوا والشمس، الشباب والحب"؛ حيث اهتمامه بقيم الحرية والحب، وتأكيده
على رصد الفجوة بين الأجيال والصراع الدائم بين جيل سابق وآخر لاحق.
وقد قام عزيز بتوزيع الأدوار
الغنائية على شخوص الأوبريت بالشكل الذي يحدد سلطة كل دور ومقوماتها الشخصية: حاجب
المحكمة والقاضي والمحلفون والمتهم (الطالب) والنيابة، والشخوص التي تمثلت في
الصور النمطية لفتاة أو لفتي لتكون أقرب إلى مفهوم الدور الاجتماعي.
وفي
النهاية قدم مرسي جميل عزيز ميراثا من الأغنيات العاطفية والأوبريتات الغنائية ذات
الطابع الشعبي التي تركت أثرا واضحا في المتلقي، والتي أصبحت دالا على شرط فني
ونسق ثقافي في المجتمع المصري في تلك الفترة، وأشارت إلى شبكة علاقاته الاجتماعية
وعاداته وتقاليده.