(1)
من ميزات الكتابة في ظل الأزمات والتحولات العنيفة، أنها تقود الروح بعيداً
عن الضجيج والجلجلة، كما لو كانت تحميها ريثما تمر العاصفة، حيلة من حيل استجداء السعادة
في هذا الراهن الغامض، لذا تبدو الكتابة في زمن كورونا والحروب والكوارث البشرية، عن
شاعر هيأ مشروعه الغنائي للحب والحياة، عن مرسي جميل عزيز وإسهاماته المتنوعة في عالم
الغناء، طريقة ما نستعير بها من بهجة زمن مضى، لندعم أنفسنا بالجمال ونمنحها طاقة هائلة
تصرف كل الحزن المحتشد، علها تكون بقعة ضوء عنيدة تجعلنا نواجه أرقام الإصابات وصفعة
الموت المفجع، بإرادة الحياة والتجاسر على الوجع.
كل الذين بحثوا عن الحب ظفروا بهذه
الإرادة، عرفوا كيف يصطادون كلمات تشربت من الروح، كما في أغنيات مرسي جميل عزيز بما
تحتويه من ترف الكلمة المعجون وأناقتها، المشغول في الوقت ذاته بالتنافس مع رقة اللحن
وإغراءاته، ما يفتح كل أبواب التأويل على مصراعيها، وجوه هذا التأويل تتعدد مثلاً في
ثلاثيته الشهيرة "سيرة الحب، فات الميعاد، ألف ليلة وليلة"، مع الأشهرين:
أم كلثوم، بليغ حمدي، هذه الثلاثية تحضر في البال، فتستدعي تجربة مثيرة للجدل، حالة
حيّة نابضة زاخرة، استلهمت العاطفة في وجهها الإنساني البسيط، كل شيء ممكن وأخف وزناً
في معادلة احتكمت إلى التجديد النوعي في الكلمة واللحن واكتملت بصوت يصل إلى حدود الإعجاز.
(2)
"الله محبة .. الخير محبة النور محبة
يا رب تفضل حلاوة سلام أول لقا في إيدينا
وفرح أول ميعاد منقاد شموع حوالينا
ويفوت علينا الزمان يفرش أمانه علينا.."
تتغلغل في أغنية "ألف ليلة وليلة"
بهجة جزيلة وفرح وافر، يفيض وهجاً في اللحن السريع، والكلمات البسيطة التي ترى أن
"الحب عمره ما جرح .. ولا عمر بستانه طرح غير الهنا وغير الفرح"، لا شيء
يجعل الأغنية مُتهللة إلى هذا الحّد أكثر من أنها تنبع من الداخل، صوت أم كلثوم تصدر
عنه موجات السعادة والحبور، صوت يرتفع، ينخفض، يتدلل، يتضرع:" يا رب لا عمر كاس
الفراق المر يسقينا"، كأن صاحبتهُ تريد في هذه الأغنية الإمساك بكل ألوان الطرب
والانشراح، يساعدها اللحن الذي ينسف أساليب الغناء القديمة، ويدعمها السخاء في المعنى،
ما يحيلنا إلى التساؤل أيّ إلهام مُبارك نزل على "عزيز" ليكتب كلمات طيّعة
فيها هذا الفيض من الشاعرية والذاتية؟
مرسي جميل عزيز (15 فبراير 1921 -
9 فبراير 1980)، مضى على وفاته أربعون عاماً، ولا تزال أغنياته تُذهل مستمعيها ببساطتها،
بساطة غير متعمدة، وإنما تتسلل من كلمات صافية كما في ثلاثيته مع أم كلثوم وبليغ، معان
صريحة، مباشرة، رقيقة، عن الحب والعشق والهجر والندم، شاعر الألف أغنية وقصيدة، حسب
تعداد المؤرشفين، الألف التي لقبته بـ"فارس الأغنية العربية، جواهرجي الكلمة،
عملاق الأغنية الشعبية" وسواها، والألف هنا تتواصل مع عنوان أغنية " ألف
ليلة وليلة"، التي تقاضى عنها ألف جنيه، أعلى أجر تقاضاه مؤلف أغان حينذاك، كتبها
في ليلة واحدة، ولحنها بليغ كذلك في ليلة، الأغنية الأسرع في تاريخ "الست"
المعروفة بالتمهل والتريث، ترى ما الشحنة الانفعالية التي دفعتها لهذه السرعة؟ سؤال
آخر يثير فضولي ويصنع مساحة صغيرة للدهشة، خصوصاً مع الحضور الأخاذ للأغنية بعد أكثر
من نصف قرن منذ انطلاقها الأول في العام 1969، كأغنية تأبى على النسيان والاندثار،
لا تفسير سوى أن "ثومة" رأتها أغنية ضاربة في الجمال بلحن يباشر الرقص من
اللحظة الأولى في مقدمته الطويلة، صولوهات الكمان والساكسفون والجيتار والأكورديون،
وحوار الدلال اللانهائي بينها.
جرأة بليغ حمدي في لحنه الضارب لأقصى
حدود الجمال، لم يشفع عند بعض نقاد الموسيقى، رأوا أن الأغنية ليست الأفضل بين أغاني
أم كلثوم، الذكية، صوت القصائد الهادر، لكن الزمن والجمهور له رؤية أخرى، ما يحيلني
إلى سؤالي مرة أخرى عن استمرار الأغنية، هل المزيج المثير بين الكلمة واللحن، أم الاحتياج
إلى هذه الطريقة في التعبير عن الحب؟ ربما كان الأمر، وفقاً للدراسات النفسية المتعددة،
له علاقة ما بتحسن الحالة المزاجية والصحة النفسية الذي ينشأ عقب الاستماع للأغاني
الرومانسية.
على أية حال، فإن الأغنية الثالثة في
الثلاثية الشهيرة، انسجم فيها اللحن مع النص بتناغم ملفت، اكتمل بصوت رائق يزداد اشتعالاً
باللحن والكلمات، ثم يترك للمستمع حدس التخيل، حيث يتورط في هذا المد والجزر بين الكلمة
واللحن والصوت الجاذب إلى التأمل، والتماهي في لوحات متخمة بالسعادة:" الليل وسماه
ونجومه وقمره، قمره وسهره وإنت وأنا يا حبيبي أنا"، والجنون:" تايهين ما
احناش حاسين العمر ثواني واللا سنين"، والثورية:" قول الحب نعمة مش خطية"،
الأمر إذن تجاوز الزاوية التقليدية للنظرة إلى الحب لما أبعد وأعمق:" الله محبة
.. الخير محبة النور محبة".
(3)
لا فرق كبير بين "فات الميعاد"
و" ألف ليلة وليلة" فيما يخص اختيار مرسي جميل عزيز لكلمات تزيد من الولع
والوله، الوجد والغرام، وإن كان في "فات الميعاد" تمحورت كلماته عن ما بعد
الحب، عن الهجر والفراق، العتاب واللوم :" تفيد بإيه يا ندم يا ندم.. وتعمل إيه
يا عتاب"، "وكفاية بقى تعذيب وشقا"، تتوسع هذه المعاني بصولوهات الساكسفون
التي ميزت هذه الأغنية الشجية، الموجوعة بالهجر، ثم حواريته مع أنغام الجيتار مع الكمان
والقانون والأكورديون، تصنع خلفية موسيقية موحية بدرامية الحدث، وبها بعض البشاشة،
كإشارة على التحرر:" إن كان على الحب القديم.. إن كان على الجرح الأليم/ ستاير
النسيان نزلت بقالها زمان".
شكلت هذه الأغنية التي غنتها ثومة
في العام 1967، قبل نكسة يونيو بأشهر قليلة، أكثر من تحد على أصعدة مختلفة، فحضور الكلمة
هنا أحدث تغييراً نوعياً، الحب له مفهوم آخر، لا يرضخ لهجر الحبيب، ولا يتوسل عودته:"
بينى وبينك هجر وغدر وجرح في قلبى داريته.. بينى وبينك ليل وفراق وطريق إنت اللى بديته"،
الأمر محسوم إذن؛ قسوة الحبيب أدت إلى هذه النتيجة ولا رجعة:"عايزنا نرجع زى زمان..
قول للزمان ارجع يا زمان/ وهاتلى قلب لا داب ولا حب.. ولا انجرح ولا شاف حرمان"،
إذن، التجربة حداثية في مشوار أم كلثوم، واكتملت بتحد آخر واجهه بليغ في أن يضع موسيقى
تلائم القصة الدرامية، بلا إيقاع راقص اعتاده منه الجمهور، تجلى صوت "الست"
بالكلمة المغايرة، التثويرية، وبانسيابية اللحن المترف الذي أفرد لها مساحات التجلي.
(4)
"سيرة الحب" (1964)، كانت
نقطة التكوين ومفتاح التعاون بين الثلاثي المحلق في فضاء التجديد، الإيقاع المختلف،
الكلمة بكل ما أوتيت من شغف بالحياة، تسبقها مقدمة موسيقية بصولو الأكورديون، يتبعه
صولو الكمان، يلحقهما العود، الكمان، والناي قبل أن يدخل صوت أم كلثوم متأنياً:“طول
عمري بخاف من الحب وسيرة الحب”، تعترف وهي مسالمة بوقوعها في الحب:" من همسة حب
لقيتني بحب وأدوب فى الحب"، قبل أن يبدأ صوتها يسخن :" ياللي ظلمتوا الحب"،"
العيب فيكم يا في حبايبكم"، في نبرة أخرى متلهفة، غير حيادية، تترك للسامع حدس
حالها مع العشق، وتتورّط هي وصوتها في الهوى:"يا اللى مليت بالحب حياتي أهدي حياتي
إليك ... إلخ".
الأغنية تختصر حالة خاصة من الحب،
الحب علي ما هو عليه، بكل ضعفه ورقته، بصرف النظر عن التقييمات النقدية التي جعلت مثلاً
صلاح جاهين يصفها:"سيرة الحب هى الابنة المراهقة لأغنية "إنت عمرى"،
التى كتبها أحمد شفيق كامل، ولحنها محمد عبد الوهاب، هنا أتذكر الحادثة الشهيرة التي
جمعت بين عبدالحليم حافظ وصوفيا لورين في احتفال أقامته سفارتنا المصرية في لندن، حين
شاهدت صوفيا الهرولة تجاه حليم سألت: من هو؟ أجابوها: أشهر مطرب في مصر. فتوجهت نحوه
وسألته عن نوعية ما يغنيه، فغنى عبدالحليم أغنية "الحلوة" التي كتبها مرسي
جميل عزيز ولحنها كمال الطويل، بعدها لم تتمالك صوفيا لورين نفسها من الضحك وقالت له:
هذه نوعية أغاني المراهقين في بلادنا، فأجابها العندليب: هذه أغاني الحب في بلادنا
التي تحترم المشاعر وتقدرها وتمنح الحب حقه، فاعتذرت صوفيا على الفور.