الإثنين 17 يونيو 2024

«الهلال اليوم» تنشر فصلًا جديدًا من كتاب «إسلام أردوغان»

فن20-10-2020 | 12:40

تنشر بوابة «الهلال اليوم»، فصلاً جديداً من كتاب «إسلام أردوغان» للكاتب سيد شعيب.




ربما تكون هذه  المشاهد هي الأكثر تعبيراً عن أيديولوجية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان, هي تسميته للجيش التركي الذي غزا سوريا ب»الجيش المحمدي»، نسبة كما يوحي إلى سيدنا النبي محمد (ص). أو نسبة إلى جندي اسمه محمد كان ضمن جيش الاحتلال التركي لليبيا وتم قتله (1).  المشهد الثاني هو توديع جنود جيش الاحتلال التركي إلى سوريا على أنغام  الموسيقى العسكرية لـ«الانكشارية», وهي فرقة دموية شرسة في الجيش العثماني (2). المشهد الثالث قرار لجنة الشئون الدينية بأن يتم قراءة سورة الفتح (لاحظ الفتح لبلد أغلبيته مسلمين) في 90 ألف مسجد دعماً للاحتلال التركي لجزء من سوريا. 


المشهد الرابع هو  رفض جميع رؤساء المقاطعات دفن الجنود «الانقلابيين» في مقابر المسلمين. في النهاية تم بناء مقبرة وضعوا عليها يافطة «مقبرة الخونة» وقال رئيس بلدية اسطنبول «قادر طوباش»: سنفتح المقبرة للمواطنين حتى يلعنوهم ولا يهنئون بنومهم في مقبرتهم (3).


انتهى كلام الرجل, فهم يعتبرون الذين حاولوا الانقلاب على أردوغان ليسوا خصماً سياسياً، لكنهم كفار بالمعنى الديني. الخائن في الثقافة الإسلامية التقليدية كافر، والكافر يجب قتاله حتى بعد موته، فلا يجوز دفنه مع المسلمين, فهو ملعون في الدنيا والآخرة.


 المشهد الخامس عندما أطلق الشيخ أردوغان، كما يسمونه أحياناً، اسم مؤسس الدولة العثمانية «عثمان غازي» على الجسر المعلق الرابع باسطنبول (4).


 هذه المشاهد المعبرة تؤكد أن أردوغان يؤمن ومعه الإسلاميون في تركيا بحتمية استعادة أمجاد الحلم الإمبراطوري الاستعماري العثماني القديم, فهذا واجب ديني إسلامي.  فمشروعهم «الإخواني» وهو أسلمة تركيا واستعادة الإمبراطورية العثمانية. ربما هذا يفسر لماذا رفض أردوغان الاعتراف بمجازر العثمانيين ضد الأرمن وغيرها من الأقليات. فهو ليس مجرد حاكم, ولكنه يحلم بأن يكون على الطراز القديم خليفة وإماماً لجيوش المسلمين السنة لحكم العالم كما فعل العثمانيون «العظماء». فهو ومن معه حسب وصف حلفائه من الإخوان في مصر «العثمانيون الجدد»(5).


هذه هي أيديولوجية أردوغان ومن معه من الإسلاميين في تركيا, أصحاب مشروع ديني استعماري توسعي رغم الطلاء الحداثي الذي حافظ عليه طويلاً بمهارة استثنائية, حتى سيطر على الحكم وأزاح العسكر, وسط تصفيق العالم, والغربي بشكل خاص, ليبدأ مشروعا ديكتاتورإسلامي ربما يكون هو الأخطر على العالم.


من هو أردوغان الذي استطاع خداع العالم؟


هو «الزعيم» رجب طيب أردوغان صاحب السمت الإسلامي الظاهر، والذي أسماه الأتاتوركيون (الذين يتبعون منهج كمال أتاتورك) بـ«الشيخ رجب». فالثقافة الإسلامية التقليدية تقدس حجاب النساء وتعتبره جزءًا من العقيدة، وتكاد تكفر غير المحجبات من المسلمات.


 خارج المدرسة كان أردوغان يبيع البطيخ وكيك السمسم حتى يساعد عائلته الفقيرة.  التحق بعدها بمعهد الأئمة والخطباء ونال فيه قسطا من العلوم الشرعية, أثّرت في تكوينه بشكل قوي. قاده توجهه الإسلامي إلى الالتحاق بحزب السلامة الوطني ذي التوجه الإسلامي الذي أسّسه نجم الدين أربكان, ليقود الجناح الشبابي المحلي للحزب, وحتى وقع الانقلاب العسكري الذي أطاح بالأحزاب السياسية.


 بعد عودة الحياة الحزبية إلى تركيا عام 1993م, سطع نجم أردوغان في حزب الرفاه الإسلامي, وأصبح رئيس فرع اسطنبول في عام 1994(7).


   بعد فوزه في الانتخابات وتوليه موقع عمدة اسطنبول  خطب في الجماهير قائلاً: ” لا يمكن أبدا أن تكونَ علمانياً ومسلماً في آنٍ واحد. إنهم دائما يحذرون ويقولون إن العلمانية في خطر.. وأنا أقول: نعم إنها في خطر. إذا أرادتْ هذه الأمة معاداة العلمانية فلن يستطيع أحدٌ منعها. إن أمة الإسلام تنتظر بزوغ الأمة التركية الإسلامية.. وذاك سيتحقق, إن التمردَ ضد العلمانية سيبدأ”.


 ستلاحظ هنا أنه لا يريد فقط أسلمة تركيا, ولكنه يؤكد على إحياء المشروع الإمبراطوري العثماني ويؤمن أن الأمة الإسلامية تنتظره.


 في هذه الفترة التي تولى فيها منصب عمدة اسطنبول, أغلق أردوغان نوادي القمار والخمارات وبيوت الدعارة, بل إنه ذهب إلى زيارة زعيمة (بائعات الهوى) ليعرض عليها التوبة لها ولمن معها (لاحظ التوبة بالمعني الديني الإسلامي), ويتعهد بتوفير حياة كريمة لهن(8).


 القضاء على الدعارة مطلوب بالتأكيد, فهي انتهاك لحقوق المرأة، هناك دول غربية مثل كندا تجرم الدعارة.  لكن المشكلة أن أردوغان يفعلها على أساس ديني وكجزء من منظومة إسلامية إخوانية كاملة يريد تنفيذها في تركيا. لكنه من جانب آخر استطاع  أن يقدم الكثير لبلدية اسطنبول, أخرجها من أزمة اقتصادية وديون بلغت المليار دولار, وجعلها تسجل معدلات نمو قوية بفضل ذكائه ونظافة يده في ذلك الوقت. كان هذا عاملاً مهما في التمهيد فيما بعد لنجاح حزبه «العدالة والتنمية» في الانتخابات البرلمانية, وتعليقاً على سبب هذا النجاح الباهر والسريع قال :  ” لدينا سلاح أنتم لا تعرفونه إنه الإيمان, لدينا الأخلاق الإسلامية وأسوة رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام”(9). لاحظ هنا أنه يقول أسباباً دينية إسلامية وليس الوسائل الإدارية والسياسية التي استخدمها. 


 يبدو أن نجاحه جعله أكثر جرأه في الإفصاح عن أيديولوجيته الدينية السياسية بوضوح, حيث قال أبيات للشاعر التركي الإسلامي ضياء كوكالب: 


مساجدنا ثكناتنا


قبابنا خوذاتنا


مآذننا حرابنا


والمصلون جنودنا


هذا الجيش المقدس يحرس ديننا  (10)


 إنها أيديولوجيا الحرب, وليس السلام, هذا الوضوح الأيديولوجي سيتخلى عنه أردوغان سريعاً إلى حين, بعد أن تم سجنه.  فبسبب هذا الشعر رفع ضده المدعي العام دعوى  قضائية لأنه أج” على اسم استاذه نجم الدين أربكان وهو رئيس وزراء تركي أسس في عام 1969 الحركة الوطنية (حركة ميلا غورش ), الإخوان المسلمون الأتراك.  وأرسلا إحدى بناتهما للدراسة في أمريكا بسبب عدم السماح بالحجاب في الجامعات التركية, وتفادياً للصدام وقتها مع القوانين التي تحظر ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة للدولة (11).


 هذه السلوكيات ليست فقط اختيارات دينية شخصية, ولكنها عناوين للإسلام السياسي, أي أنها جزء من خطاب سياسي إسلامي. فهم أبناء الثقافة الإسلامية السنية التقليدية المنتشرة في البلاد التي أغلبيتها مسلمون, والخارجة من عباءة الخلافة العثمانية ومن قبلها خلافة قبيلة قريش. 


 هذه الثقافة الإسلامية السنية التقليدية كانت الحاضنة التي خرج منها تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسهم الإخوان. هذه الثقافة ما زالت فاعلة حتى الآن ويخرج من قلبها داعش والإخوان وأردوغان, فلم يتم تفكيكها, ولم تنتشر نسخ إسلامية أخرى أكثر إنسانية, رغم أنها متوفرة في تاريخ وحاضر المسلمين.


 على سبيل المثال تعتبر هذه الثقافة أن الحجاب واجب ديني, وحوله الإسلام السياسي إلى رمز ديني سياسي. في حين أن هناك اجتهادات إسلامية أخرى ترى أن الحجاب ليس فريضة دينية إسلامية (12) . المثال الثاني هو أن هذه الثقافة ترى أن الخلافة الإسلامية واجب ديني، ويجب أن يحارب المسلم لتحقيقها, في حين أن هناك اجتهادات أخرى إسلامية ترى أنها مجرد إمبراطورية استعمارية, ارتكبت الكثير من الجرائم في حق الشعوب التي احتلتها, وهي ليست واجباً دينياً إسلامياً ولا علاقة لها بالإسلام (13). 


 كيف تأسست جماعة الإخوان التركية التي خرج منها أردوغان?


 ربما تكون الفائدة أكبر  عندما  يكون مصدرنا الرئيسي هو راشد الغنوشي زعيم جماعة الإخوان في تونس ورفيق أردوغان في التنظيم الدولي للإخوان, فهم يكشفون بفخر حقيقة بعضهم البعض. يؤكد الغنوشي أن مصطفي كمال أتاتورك تحالف مع «اليهود المتأسلمين» الذين هربوا من الأندلس في   إسبانيا ( دائما يعتبر  الإسلاميون اليهود, كل اليهود, سبب كل بلاء, وهو ما سوف يفعله أردوغان ومن معه بعد استيلائهم على مؤسسات الدولة التركية ), لينقلبوا علي الخلافة العثمانية, ويحولوا تركيا من عاصمة الأمة الإسلامية المترامية الأطراف, عبر القارات الثلاث,(يتفاخر بالاحتلال ) إلى دولة قومية شوفينية, في تعصبها للعنصر التركي, وعلمانية متطرفة حاربت الإسلام, وراهنت على استبدال الهوية الإسلامية العثمانية بهوية قومية علمانية أوروبية, عبر حملة شاملة على كل مؤسسات الإسلام التعليمية والوقفية والشعائرية و التشريعية والدولية (14).


 إذن فهو الصراع، حسب الغنوشي, بين العلمانية والإسلام (أو التي يعتبرها علمانية، فأتاتورك لم يكن علمانياً كما سأوضح لاحقاً), وليس بين الاستبداد والحرية, ولا هو صراع بين الإمبراطورية العثمانية وبين الشعوب التي تحتلها. هذه بالضبط هي الخلفية التي جاء منها أردوغان والإخوان في تركيا, إحياء الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية, حلم أردوغان الكبير. هذه الخلفية ليست خلفية سياسية ولكنها خلفية دينية, إنها أمر إلهى يجب على المسلم ألا يتخلى عنه, وينفذه وقتما يمتلك القوة, حتى ينفذ شرع الله على الأرض ويدخل جنته بعد الموت.   


ما هي الخلفية الدينية لأردوغان وحزبه:


 الحركة الإسلامية التركية  أسسها نجم الدين أربكان, جوهرها إخواني. كان حزب «العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيب أردوغان امتداداً لها, غلبت عليها الروح العملية, فلم يعرف لها جهد في مجال الإنتاج الفكري كما يقول الغنوشي, وغذاؤهم الفكري مستمد في أصله من فكر الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في الباكستان وحركة النهضة التونسية, عبر الترجمات السريعة, التي برعوا فيها لكل ما يصدر في ساحة الفكر الإسلامي, مضافا إليه  ثلث قرن من العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مناخ علني مفتوح, وهو ما يميز الإسلاميين الأتراك والماليزيين عن أمثالهم من العرب (15).


 أي أنهم أبناء المشروع الإسلامي السني السياسي, الذي يستند على إقامة الدولة الإسلامية ومن بعدها الخلافة الإسلامية.


كيف بدأ الإسلاميون الأتراك عملهم:


أول محاولة لمقاومة النخبة العسكرية في الخمسينيات, كانت  بقيادة عدنان مندريس الذي ترأس الحكومة في الفترة ما بين 1950-1960, فقد أعاد الأذان بالعربية, ووافق على فتح معاهد لتخريج الأئمة والخطباء. انقلب عليه الجيش واتهمه بمحاولة تدمير تراث أتاتورك وخلط الدين بالسياسة وإحياء الخلافة العثمانية. وكان من السهل الإطاحة به بسبب فشلة الاقتصادي.


 الموجه الثانية للإسلاميين بدأت مع نجم الدين أربكان, فكان كما يقول الغنوشي ممتلئاً بالمثل الإسلامية المعروفة في معارضة مشروع أتاتورك القائم على قطع تركيا نهائيا عن جذورها الإسلامية (16). 


 فهل صحيح أن أتاتورك كما يقول الغنوشي والإسلاميون قطع تركيا عن جذورها الإسلامية, أو السؤال بطريقة أكثر وضوحاً:


هل كان أتاتورك علمانيا?


الأتراك الحاليون في تركيا لم يكن لهم دولة قبل تأسيس العثمانيين للخلافة. أصولهم تعود إلى آسيا الوسطى وانتقلوا في هجرات إلى مناطق أخرى منها الأناضول وبلاد فارس وغيرها. لذلك تختلف ملامح أتراك الأناضول, أو آسيا الصغرى «تركيا حاليًا» ذوي الملامح الأورومتوسطية، عن أبناء موطنهم الأصلي من الترك في آسيا الوسطى ذوي الملامح الآسيوية. فهناك ترك شرقيون, وهم الإيغور في مقاطعة تركستان الشرقية في الصين, والكازاخ والقرغيز والأوزبك في جمهوريات آسيا الوسطى, والتتر في سيبريا, وترك غربيون وهم الأوغوز في تركمانستان, وقد سماهم الغزاة العرب بالتركمان;  وهم أول من أسلم من الشعوب التركية بعد الغزو العربي, ومن هؤلاء الأوغوز أتى العثمانيون خلال هجرات متلاحقة من تركمانستان في غربي آسيا الوسطى إلى بلاد فارس والقوقاز والأناضول والعراق والشام, وهم يعدون اليوم أهم فرع من الفروع التي ينتسب إليها الترك; بسبب النفوذ والقوة التي حصلوا عليها بعد إسلامهم وتأسيسهم إمبراطورية عثمانية (17).


 عندما انهارت الخلافة العثمانية كان أتاتورك يحتاج إلى أيديولوجيا بديلة للعثمانيين لكي يوحد الشعب الذي يعيش في المنطقة التي نجح في أن يحتفظ بها من الخلافة العثمانية, أو تلك التي تركها له الذين انتصروا في الحرب العالمية الأولى: بريطانيا وفرنسا.  هذه الأيديولوجيا لم يذهب بعيداً لكي يجدها, فهي متجذرة في المجتمع. على سبيل المثال أتاتورك هو الذي رفع القرآن قبل حربه مع اليونان – أثناء الخلافة –  ونادى بالجهاد. كل ما في الأمر أنه استبعد فكرة «الخلافة» التي أصبحت مستحيلة, عملياً ووضع بدلاً منها فكرة القومية حتى ينقذ بلده من الاستعمار, وهذا أيضاً ما فعله جمال عبد الناصر مع البريطانيين في مصر، وكلاهما لم يستبعد الإسلام الإخواني, فصنعا خليطا من القومية والإسلام.


  استخدم  أتاتورك الدين بوجهة نظر جديدة ليحقق بها مصالحه و ليؤسس سلطويته. فهو لم يكن علمانياً كما يشيع عنه الإسلاميون. فأبسط قواعد العلمانية هي المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات, أياً كانت ديانتهم أو أعراقهم أو معتقداتهم, وحياد مؤسسات الدولة تجاه كل الأديان والأعراق والتيارات السياسية .وهذا يستلزم بالضرورة القاعدة الثانية وهي أن يكون المواطنون أحرارا, فلا يمكنك التحدث عن علمانية بدون حرية. في النسخة الكمالية, كان التمييز لصالح نموذج نمطي تبنته الدولة وعبّر عنه بعض المثقفين بمصطلح «لاهاصوموت» وهي الأحرف الأولى للكلمات التركية المكافئة ل“ديانت” أي رئاسة  الشئون الدينية التي كان من مهامها نشر الإسلام الأتاتوركي  لتساعده على الهيمنة على الأوضاع. ومن المدارس الإسلامية التي أسستها الشئون الدينية أو أصبحت تحت ولايتها تخرج أردوغان الإخواني (18).


هنا أتاتورك لا يسعي إلى دولة علمانية ديمقراطية حرة, ولكن إلى دولة ديكتاتورية عسكرية ذات طابع قومي يستند على العرق أولاً (الأتراك) وعلى الدين الإسلامي أيضاً. 


 حاول أربكان مد  جسور قوية مع الجوار العربي والعالم الإسلامي, بمبادرته بزيارة عدد من الأقطار العربية والإسلامية (ليبيا ومصر وإيران), وعمل على تأسيس نادي الثمانية G8 للدول الإسلامية الكبرى, مقابل نادي السبعة للدول الرأسمالية الكبرىG7.


 الرجل كان يتحسس طريقه للإمبراطورية الإسلامية, لكن ما يسميهم الغنوشي «حراس المعبد العلماني» فقد استفزهم وصمموا على الإطاحة بأربكان وحزبه, رغم كل التنازلات التي قدمها, مثل الوقوف على قبر أتاتورك, وأداء التحية له, واستقبال مسؤولين إسرائيليين, والمحافظة على الارتباطات الأطلسية والأوروبية, لكن تمت الإطاحة به. 


 أي أن أربكان والإخوان يفعلون ذلك من باب التقية وليس لأنهم يؤمنون بدولة أتاتورك. من باب إظهار غير ما يؤمنون به, إنه الكذب الشرعي الحلال.


 عاد التيار الإسلامي بعد خمس سنوات في ثوب جديد بزعامة شاب, تربى في أحضان المعاهد الدينية, ثم في الحركة الإسلامية خلال عقدين.... إنه حسب وصف الغنوشي «الطيب»رجب أردوغان, الذي أطيح به من رئاسة بلدية من أكبر البلديات في العالم, تجلت فيها عبقريته, إذ استطاع حل مشكلات حياتية فشل فيها كل من سبقه, فأحاطه الناس بحب عظيم (19).


 القادم الجديد لا يعلن أفكاره الإسلامية, بل يقول عكسها: أنا رئيس وزراء مسلم لدولة علمانية ... ويضيف: الدولة العلمانية لا تعنى دولة اللا دين, أتمنى وجود دولة مدنية تقوم على احترام جميع الأديان والشرائح في المجتمع في مصر. موضحاً أن العلمانية الحديثة لا تتعارض مع الدين, بل يجب عليها أن تتعايش معه. ودعى اصدقاءه الإخوان في مصر أن يسيروا في طريق العلمانية (20).


 الرجل استوعب الدروس القاسية, فلا يمكنه الإعلان عن أفكاره الحقيقية, فقد أيقن, كما يقول الغنوشي أن التمادي بنفس السياسات والوجوه «ليس من شأنه غير استمرار اشتباك غير قابل للتسوية, قد غدا معوقا لتحقيق المشروع  الإسلامي», فلا مناص من التغيير في الخطاب والوجوه والتكتيكات.


إذن هو تكتيك, ويدافع الغنوشي عن رفيقه أردوغان مؤكداً أنه لم ينه ارتباطه بالمشروع الإسلامي: فلم يصدر عنه أو عن حزبه «العدالة والتنمية»  تصريحات تشير إلى أي تحولات فكرية (21).


  برنامج حزب العدالة والتنمية سار في طريق أردوغان في الكذب, فقد اهتم بأن يرسل رسائل إلى النخبة المدنية والعسكرية الأتاتوركية بتأكيده على أنه يعتبر تراث كمال أتاتورك هو أساس الدولة التركية الحديثة, مبادئ أتاتورك  أهم وسيلة لارتقاء المجتمع التركي لمستوى يفوق الحضارة المعاصرة, ويراها عنصًرا من عناصر السلام الاجتماعي».


 الرسالة الثانية للغرب, فلم يتحدث أبداً عن الشريعة الإسلامية ولا الدولة الإسلامية التي يحلم بها, لكن ركز على التزامه بالمعايير الدولية ( أي الغربية) للطفل والمرأة وغيرهما. وأكد التزامه بتنفيذ معايير حقوق الإنسان الواردة في الاتفاقيات الدولية التي تكون تركيا طرفًا فيها, وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان, ومبادئ باريس لحقوق الإنسان, والصيغة النهائية لاتفاقية هلسنكي. وضمان حرية التفكير والتعبير وفق المعايير الدولية.


 كما لم ينس حزب أردوغان أن يمتدح العلمانية مؤكداً أنها أساس الحرية والسلام الاجتماعي; حيث توفر في الأساس لأتباع الأديان والمعتقدات المختلفة حرية ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بهم, والتعبير عن قناعاتهم الدينية, ومن ثم تنظم لهم حياتهم في هذا الإطار, كما تنظم أيضًا حياة أولئك الذين لا  ينتمون إلى معتقد بعينه (22).


 إنه الكذب الشرعي الحلال وهذا ما يؤكده بصيغة أخرى راشد الغنوشي فهو يرى أن آخر تشكّلات الحركة الإسلامية التركية «حزب العدالة» هو الاستعانة بمبدأ الاستصحاب ( في الفقه الإسلامي يعني أن تقبل ما هو موجود حتى يظهر دليل فتغيره, أو تملك القدرة على تغييره (23)).


 تصدر عنهم كلمات عامة, من أجل تجنب الصدام مع السياج الحديدي, الذي يحيط بالحياة السياسية التركية, ويفرض عليها قيودا صارمة, يجعلها أبدا مهددة...... الأمر الذي جعل مجرد التلفظ بالإسلام نفسه جريمة في الحياة السياسية, الأمر الذي يفرض استخدام مصطلحات بديلة مثل النظام الملي أو العدالة (24).


لذلك يدافع الغنوشي عن الإسلاميين الأتراك, مؤكداً أنهم ليسوا وحدهم «من فرض عليهم صياغة أيديولوجيتهم بما يتواءم مع السياج المفروض عليهم, بل إن جملة التيار الإسلامي في العالم ولا سيما في البلاد التي منيت بتحديث فوقي صارم, مثل تونس والجزائر ومصر, قد اضطرت للإقدام على نوع من تلك المواءمة»; فقد تخلى الكثير منهم عن مسمى الإسلام في الراية التي يرفعونها للانسجام مع قانون الأحزاب,  لكن في ذات الوقت لم يصرح أحد منهم بأنه قد تنازل عن شيء من إسلامه (25).


 يعود ويؤكد الغنوشي أنهم لم يتخلوا عن مشروعهم الإسلامي: فلا صوت فيهم ارتفع مشككا في شرعية الحجاب, ولا قدم في مستواه الشخصي تنازلا عنه.... فزوجات وبنات زعماء الحزب محجبات ... فقد بعثوا برسالة واضحة مزدوجة: الإسلاميون متمسكون بدينهم, لكنهم لا يفرضون ذلك على الآخرين, ... إنهم ليسوا متعجلين (يقصد في تطبيق المشروع الإسلامي الإخواني), ولا يرونه أولوية, تستحق خوض المعارك من أجلها, إذ العبرة ليست بالعناوين على أهميتها بل بالمضامين. وما قيمة سلوك معين: صلاة أو حجاب يفرض بالقوة, في دين قد جعل القيمة الدينية الأولى لكل عمل ليس شكله وإنما باعثه «إنما الأعمال بالنيات» (26).


 لاحظ أن تبريرات الغنوشي السابقة ودفاعه عن الإخوان في تركيا ذات طابع ديني, فهو يريد التأكيد طوال الوقت على أنهم إسلاميون لم يتخلوا عن مشروعهم الديني. لكنهم بعد «الانقلاب المزعوم» واستيلائهم على مؤسسات الدولة وإزاحة الجيش وأغلب المعارضة يعلنون بوضوح عن مشروعهم الإسلامي الإخواني كما سيتضح فيما بعد.


 يشيد الغنوشي بسعي القادة الأتراك للالتحاق بالاتحاد الأوروبي, ويعتبره «نوعا من تجريد الخصم من سلاحه, وتجريد ظهيره الخارجي من أوهامه (يقصد أوروبا), وعرض صداقة بديلة عنه». مشيرا إلى أن عرض الإسلاميين بالذات لهذه الصداقة أو الشراكة ترفع الغطاء عن المتطرفين العلمانيين والاستئصاليين, لا في تركيا فحسب, بل في عدد كبير من بلاد العالم الإسلامي, معتقدا أنه لا يعيب الشعب التركي أن يدخل أوروبا مسلما, بقيادة إسلامية شابة, مدعومة بقوة من شعبها, متصالحة مع تاريخها ومع محيطها العربي والإسلامي (27). لا أعرف ماذا سيقول الغنوشي بعد أن تخلى أردوغان عن الالتحاق بالاتحاد الأوروبي, كيف سيبرر له?!


 بتعبيرات واضحة فقد استفاد أردوغان من الأوروبيين والغربيين للضغط على العسكر لتطبيق أوسع للديمقراطية يستفيدون منها لمزيد من التغلغل في المجتمع والوصول إلى الحكم, وفي نفس الوقت فهذا يزيح العسكر ويخرجهم تدريجياً من الحياة السياسية, فمعايير الانضمام الى الاتحاد الأوروبي لا تقبل أي تدخل من الجيوش في الحياة المدنية والسياسية.


هذه الإزاحة الكاملة يحققها الآن أردوغان بعد الانقلاب الأخير, ثم بعد ذلك يعود تدريجياً أيضاً إلى مشروعه الإسلامي الإخواني الإمبراطوري بتسارع ووضوح أكبر. 


 إذن فكل هذه تكتيكات غاية في الخبث استخدمها أردوغان لتحقيق حلمه, فهو نفسه قد قال قبل وصوله إلى السلطة عام 2002 :الديمقراطية وسيلة وليست هدفا هي كقطار الأنفاق, نتوقف عند المحطة التي نريدها وننزل من القطار (28).


أسلمة (أخونة) تركيا تدريجياً: 


قال رئيس البرلمان التركي إسماعيل كهرمان في أبريل عام 2016 على تركيا أن تعتمد دستورا إسلاميا. وأضاف :»كبلد إسلامي, لماذا نقبل بوضع نتراجع فيه عن الدين? نحن بلد مسلم ولذا ينبغي أن يكون لدينا دستور ديني.. لا مكان للعلمانية في هذا الدستور» (29).


 من المهم هنا تعريف العلمانية الحقيقية والتي تعرضت لتشويه من الإسلاميين والقوميين في الشرق الأوسط, فهي ليست أيديولوجيا بديلة للإسلام أو أي دين, فهي ليست دين لكي تنافس الأديان, لكن هي طريقة في إدارة الدولة. تستند إلى المساواة الكاملة بين المواطنين أياً كانت دياناتهم وأعراقهم وألوانهم. ثانياً الاحترام المطلق للحريات الفردية والعامة بما يتوافق مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. فالدولة بمؤسساتها تقف على مسافة واحدة من كل الأديان والمعتقدات. وبالتالي فهي ليست ضد أي دين, بل هي تدافع عن حق المواطن في أن يختار دينه وأن يقيم شعائره. وهذا هو ما يرفضه الإسلاميون, فهم يريدون دولة ديكتاتورية دينية إسلامية. ولذلك يرفضها رئيس البرلمان التركي, وكانت تصريحاته قبل محاولة الانقلاب المزعومة  بشهرين (من الصعب التأكد من حقيقة ما حدث), ربما لذلك من الصعب استبعاد أن يكون محاولة مصنوعة للقضاء الكامل على خصوم أردوغان من العسكر ومن النخبة الأتاتوركية, بل والقضاء على حلفائه من الإسلاميين مثل جماعة عبد الله جول.


  ما يؤكد هذه الشكوك أن أردوغان استغل هذا «الانقلاب»  لتمرير تعديلات دستورية تجعله أول رئيس دولة ورئيس حكومة في آن واحد, ويصبح أيضاً السياسي التركي الأكثر حصانة منذ أن أسّس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية العلمانية عام 1923(30).


 وحسب مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن سونر چاغاپتاي, فكك أردوغان النموذج المجتمعي لأتاتورك, مغرقاً الأنظمة السياسية والتعليمية بالإسلام المحافظ المتصلّب (إسلام الإخوان). كما أبعد تركيا عن أوروبا والغرب. والمفارقة أنه استخدم نفس أدوات وأساليب أتاتورك الديكتاتورية لكي يحل محله, ويجعل المجتمع التركي يندرج ضمن الإسلام السياسي المحافظ, الفرع الذي ينتمي إليه أردوغان. ومع ذلك, فإن أردوغان يواجه مشكلة اليوم: ففي حين وصل أتاتورك إلى السلطة كجنرال عسكري, وصل أردوغان إلى حكم بلاده بآليات ديمقراطية  (31).


  ملاحظة دقيقة تفسر لماذا يمشي أردوغان مسرعاً في طريق الديكتاتورية, فبعد التعديلات الدستورية التي أجراها بعد أقل من عام من الانقلاب المزعوم عدل الدستور وأصبح بإمكانه البقاء رئيسا للبلاد حتى عام 2029.  كما منح نفسه صلاحيات واسعة, فمن حقه تعيين وإقالة الوزراء وكبار الموظفين الحكوميين. ويستطيع إلغاء منصب رئيس الوزراء وتعيين نائب أو أكثر لمساعدته في إدارة السلطة التنفيذية. كما يستطيع أيضاً التدخل في عمل القضاء من خلال تعيين 4 أعضاء في المجلس الأعلى للقضاة والمدعين, وهو المجلس الذي يملك سلطة التعيينات والإقالات في السلك القضائي, فيما يملك البرلمان سلطة تعيين 7 أعضاء (32).


 هذا يعني وفق  الكاتب التركي بولنت موماي  أن أردوغان يريد بنصف أصوات الشعب امتلاك سلطة تُمكِّنه من القضاء على كامل إرادة الشعب. فهو يستطيع أن يختار من يشغل تقريبًا جميع المناصب العليا في القضاء, ويستطيع اختيار الوزراء, ويستطيع كذلك تشكيل الوزارات وحلِّها, وأن يكون رئيس حزب, ويُحدِّد قائمة أعضاء حزبه في البرلمان, ويستطيع بالإضافة إلى ذلك ممارسة حقِّ الاعتراض على القوانين الصادرة من البرلمان.


 يضيف الكاتب التركي سؤالا مهماً: هل يستطيع البرلمان مراقبة الوزراء والنوَّاب المُعيَّنين من قبل رئيس الدولة?


 ويجيب: بالطبع لا, فهم مسؤولون أمام القصر وحده (أي أردوغان). والآن, نحن بطبيعة الحال جميعنا بشر, ويمكن أن نُخطئ, وحتى الرئيس يمكن أن يُخطئ. فهل يستطيع البرلمان مراقبته? بالطبع يستطيع, لكن توجد فقط مشكلة صغيرة: إذ إنَّ أغلبية النوَّاب يدينون بمقاعدهم في البرلمان لأردوغان. ولكن مع ذلك لنفترض أنَّ الأربعمائة نائب يريدون مراقبة الرئيس. فماذا يحدث عندئذ? يستطيع الرئيس حلّ البرلمان بجرة قلم واحدة.


 هذا الاتجاه الديكتاتوري لإردوغان يحتاج بالتأكيد إلى قمع المعارضة. فعندما اجتمع المتظاهرون أمام البرلمان, وكان من بينهم نوَّاب حزب الشعب الجمهوري. وفي جو شديد البرودة بلغت فيه درجة الحرارة خمس درجات تحت الصفر في العاصمة التركية أنقرة, قامت الشرطة بتفريق المظاهرة باستخدام خراطيم المياه الباردة والغاز المسيل للدموع. ولم يعد بالإمكان العثور على حزب الأكراد, حزب الشعوب الديمقراطي التركي: لأنَّ رئيسه المشارك, صلاح الدين دمرداش وعشرة من نوَّابه يقبعون في السجن (33).


 دولة أردوغان «الإسلامية الإخوانية» يبنيها من كان يمدح هو وحزبه العلمانية, ويسرع فيها من كان يقول إنه يدين بالولاء لكمال أتاتورك.. إنه حلم أردوغان بأسلمة تركيا على طريقته. قال أردوغان إن تعزيز العلاقة بالقرآن الكريم, من أهم المهام التي يتوجب تحقيقها دائما, لافتا إلى الدور المهم للقرآن في علاج النفوس والأرواح المنهكة (34).  فمرجعيته وهو ابن الإخوان, أن «القرآن هو دستورنا وسيظل, والرسول زعيمنا, والجهاد سبيلنا, والموت في سبيل الله غايتنا» (35).إنه رئيس يؤمن بأن دوره هو أن يدخل المواطنين «الجنة» التي يتصورها دون إرادتهم. 


 ستلاحظ هنا أنه لا يتحدث عن الإسلام باعتباره اختيارا فرديا للعلاقة مع الله, ولكنه اختيار أردوغان الديكتاتور للمجتمع التركي, الإسلام دين ودولة وليس مجرد دين . لذلك ينصب نفسه زعيماً دينياً وسياسياً في آن واحد, مثل كل الحكام المسلمين في أثناء الإمبراطورية الاستعمارية التي يسمونها إسلامية, بما فيها بالطبع العثمانية. 


 لذلك قال أيضاً  أردوغان : «خلال ترؤسي لمجلس الوزراء قلت ذات مرة: إننا سنعمل على إنشاء جيل يعرف دينه, وأدى كلامي هذا ببعضهم إلى الجنون, مدّعين أنه لا يمكن لرئيس الوزراء أن يقول كلاما كهذا, حينها لم أفهم لماذا لا يمكنني أن أقول مثل هذا الكلام? أنا كرئيس للوزراء قمت بتحديد الهدف الذي أرمي إليه بهذه العبارة (36).


 هذا بالضبط هو دور الحاكم الديني السياسي الذي يعيد صياغة المجتمع طبقاً لأيديولوجيته, فهو مثل الإخوان والإسلاميين يؤمنون أن دورهم إدخال الشعب بالقوة إلى «الجنة» التي في خيالهم. 


  ما يؤكد هذا أن مجلس شورى التعليم عام 2014 قرر أن تكون دروس التربية الدينية إلزامية حتى الصف الثالث الابتدائي وإدراج اللغة التركية «العثمانية» في المناهج الدراسية كمادة إلزامية, فيما جرى إلغاء درس حقوق الإنسان وإدراج محتواه مع درس العلوم الاجتماعية (37).


 فقد أكد أردوغان على أهمية أن يتعلم الشباب اللغة التركية العثمانية, ولو إتقان قراءتها كحد أدنى, وقال: «لا بد أن يتمكن الشباب من العودة إلى الكتب والكتابات والوثائق التي كتبت (بتلك اللغة ) طيلة السنوات ال”.


وأوضح:  «في مكان العمل, لا يمكنكم معاملة رجل وامرأة حامل بالطريقة نفسها» وأنه « لا يمكن أن نجعل النساء يؤدون كل الأعمال التي يؤديها الرجل لأن هذا يناقض طبيعتهن الحساسة». برأي أردوغان لا يجب الحديث عن مساواة بل عن عدالة. وأضاف: «ديننا الإسلام حدّد دور النساء في المجتمع بالأمومة»(39).


 بالتأكيد هذا صحيح, فالرجل والمرأة مختلفان بيولوجياً, ولكن هذا لا يعني عدم المساواة في الحقوق والواجبات, فالاختلافات بين البشر لا تعني ولا تبرر عدم المساواة في الحقوق, والقيم الكلية للإسلام ترفض بشكل قاطع أي تمييز بين البشر. 


 لا يمكن عزل كلام أردوغان عن سياق ممارسات حزب العدالة والتنمية التركي الذي يترأسه. فقد أثار نائب رئيس الوزراء التركي, بولنت أرنتش, سجالاً حين قال : «إن على المرأة عدم الضحك بصوت عالٍ أمام العالم, وعليها أن تفرّق بين ما هو لائق وما هو غير لائق”. وهو سياق أدّى إلى تراجع تركيا في الترتيب العالمي للمساواة بين الجنسين لتحتل المرتبة ال أصدرت رئاسة الشؤون الدينية (ديانت)  التي طلب منها أردوغان توضيح «الإسلام الصحيح» أو للدقة الإسلام كما يراه, بيانا على صفحتها الرسمية على الإنترنت, قالت إنه وفقا للشريعة الإسلامية, فإن بداية المراهقة للبنين 12 عاما أما بالنسبة للفتيات فإن سن البلوغ 9 سنوات. وأضافت أنه في سن البلوغ يمكن للشخص أن يتزوج (43).


 يستند هذا البيان إلى ما هو منسوب لسيدنا النبي أنه تزوج السيدة عائشة وكان عمرها 6 سنوات, ودخل بها وهي في التاسعة. وبالتأكيد أن هذا غير صحيح لأنه يخالف العقل والمنطق لأي إنسان, فما بالك ب»رسول». لكن رئاسة الشؤون الدينية مثل كثير من المؤسسات في العالم السني والشيعي تتبني هذه الروايات رغم أنه تم تدوينها بعد وفاة النبي محمد بأكثر من 100 عام.  كما أن هناك اجتهادات نفت بالأدلة هذا الزعم, وأكدت أن سيدنا النبي تزوج عائشة وعمرها 18 عاماً (44).


  كانت ردود الفعل غاضبة على هذا البيان الصادم, منظمات نسائية تركية دشنت حملة على التواصل الاجتماعي لمواجهة التوجهات الأخيرة لتزويج الفتيات الصغيرات.  السن القانونية للزواج في تركيا هو 18 عاما, ومع هذا تنتشر حالات زواج القاصرات تحت هذا السن على نطاق واسع في البلاد. ويسمح القانون التركي أيضا بالزواج بدءا من سن 17 عاما بموافقة الوالدين أو أولي الأمر, ويمكن أيضا الزواج في سن 16 عاما في ظروف استثنائية بموافقة المحكمة.


 دعا 30 نائبا من حزب الشعب الجمهورى, الذي يعد المعارض الرئيسى لحكومة حزب الرئيس رجب طيب أردوغان, إلى فتح تحقيق فى زواج الأطفال. وقال مراد باكان, عضو البرلمان في حزب الشعب الجمهوري عن إزمير, على تويتر: «ينص القانون المدني التركي بوضوح على أن مرحلة البلوغ تبدأ في سن 18. إن الزواج المبكر ينتهك حقوق الطفل وحق المرأة وحقوق الإنسان. ونحن نطلب من البرلمانيين التحقيق في زواج الأطفال».


 وفي بيان لاحق تراجعت رئاسة الشؤون الدينية التركية إلى الخلف وقالت إنها كانت فقط توضح ما جاء في الشريعة الإسلامية وأنها لا توافق على الزواج المبكر. وقالت : إجبار فتاة صغيرة على الزواج قبل أن تصل إلى النضج النفسي والبيولوجي, وقبل أن تستطيع تحمل المسؤولية لتكوين أسرة وتصبح أما, أمر لا يتوافق مع الإسلام الذي يشترط وجود الموافقة والإرادة للفتاة»(45)!.


 إذن هل الشريعة الإسلامية توافق على زواج الصغيرات, في الحقيقة اغتصاب, بينما يرفض الإسلام كما قالت رئاسة الشؤون الدينية?!


 يريد أردوغان أن يصبح «الخليفة» المدافع عن الإسلام والمسلمين. لذلك يقول: إن مفاهيم الدين الإسلامي تتعرض للاستهداف, وأن على المسلمين توحيد الصفوف. إن العالم الإسلامي يمر باختبار قاسٍ, وينبغي على أبنائه تعزيز وحدتهم وأواصر الأخوة والتضامن بينهم لمواجهته. وأضاف: «أثناء الحديث عن الإسلام خلال هذه الفترة, لن نخاف من الانتقاد, ولن نقدم في المقابل ذريعة لاستغلال تلك الانتقادات من قبل أعداء الدين والأمة».  ولفت إلى أن وقوف الغرب وراء «غولن», والتّلكّؤ في القضاء على «داعش» لفترة طويلة, وفي وضع حد لانضمام المزيد من العناصر لهم «سببه واحد» (46).


 ستلاحظ هنا أن الخليفة الجديد للمسلمين, يريد توحيد «صفوف المسلمين» تحت رايته, ولا بد لهذه «الوحدة الإسلامية» لا بد أن يكون لها أعداء حتى يكون هناك مبرر «للخلافة والخليفة», فهم أعداء الأمة والدين معاً, ويقصد الغرب, والذي اتهمه كذباً بأنه هو الذي زاد من أعداد الانضمام إلى داعش, في حين أن الأدلة تؤكد أن أغلبهم دخلوا عبر تركيا واستفاد أردوغان وحكومته كثيراً كما سنرى لاحقاً.  إنه يبحث عن شرعية دينية ليس فقط داخل تركيا, ولكن خارجها لتحقيق حلمه الإمبراطوري باستعادة «الخلافة العثمانية».


 هذه الإمبراطورية يبنيها أردوغان ومن معه على «القرآن» الذي يعتقد أنه يوحد المسلمين, في حين أن ما يسمونه «التاريخ الإسلامي» كله صراعات دموية بين فرق دينية مثل السنة والشيعة ومثل العباسيين الذين دمروا الأمويين واستولوا على الحكم بدلاً منهم وغيرهم وغيرهم.  لذلك يقول: إن الأحكام أو النصوص التي أخبرنا بها الله بوضوح في القرآن الكريم, لم ولن تتغير أبدا».  ويضيف: لا شك أن هناك مبادئ لم ولن تتغير أبدا, وعلى سبيل المثال, الحقيقة التي لن تتغير أبدا أن الإسلام هو خاتم الأديان (السماوية), ولا يمكن لأحد تغييره».


 وانتقد أردوغان ما أسماه « محاولات التشكيك في السنّة النبوية», عبر إدلاء بعضهم بآراء لا تمت لحقائق الحياة بصِلة ما يتسبب في تشويش عقول الناس ... وطالب «رئاسة الشؤون الدينية ألا تترك الساحة خالية», وقال: «ليس لأي أحد الحق أن يصنّف ديننا كيفما يشاء, نحن نعترض على هذه التجاوزات». 


وتوجه أردوغان بالسؤال لأنصاره قائلا: «ترون من يقف وراء منظمة غولن الإرهابية أليس كذلك?» فأجاب الحضور بقوة: «الولايات المتحدة». وأعاد سؤاله لأنصاره «أمن المعقول أن تكون هي وحدها?. هو (غولن) يقول إنه يعمل في 160 دولة, إذن كل أعداء الإسلام يقفون وراءه, وهمّهم هو تقسيم الأمة وتقسيم الإسلام وتجزئته وإضعافه, وينبغي علينا ألا نجهز لهم الأرضية أبدا» لتحقيق ذلك (47).


 مثل كل خلفاء الإمبراطورية الاستعمارية المنسوبة إلى الإسلام, ومثل خلفاء الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية التركية, يريد أردوغان, احتكار الإسلام لنفسه, فهو مثلهم حاكم ديني وسياسي, يقرر للمسلمين نوع الإسلام الذي يجب أن يؤمنوا به. فبهذه الطريقة يمكن توحيد ما أسماه «الأمة الإسلامية» في مواجهة أعدائها.. فمن هم أعدائها?


 إمبراطوريته ليس لها حدود, فليست فقط البلاد التي أغلبيتها مسلمون فقط, ولكن أيضاً أينما يوجد مسلمون في أي مكان حتى لو كان المسلمون فيها أقلية, والخطوة التي تليها هي العالم كله, وهو ما تسميه جماعة الإخوان التي ينتمي إليها «أستاذية العالم».  


 يصل أردوغان إلى ما هو أبعد من ذلك, ليس فقط محاولة استعادة الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية, ولكنه يريد حتى استعادة تفاصيل هذه الإمبراطورية, مثل «الشارب العثماني» .. نعم الشارب العثماني  فقد أطلق أردوغان في عام  2016 حملة لإطلاق الشوارب بين صفوف مسؤولي الحكومة التركية والحزب الحاكم, قائلاً: «اتركوا الشارب». وتعليقاً على ذلك, تساءلت صحيفة «برجون» التركية, في مقال بعنوان «حركة الشارب في العدالة والتنمية: رغبة أردوغان», «هل يلزم إطلاق الشارب للحصول على منصب وزاري أو في الهيئة الرئاسية?».


 على حد تعبير الكاتبة التركية أمينة قابلان أنها  «ديمقراطية الشارب». إطلاق الشوارب لباها وزير العدل بكير بوزداغ, ووزير الداخلية إفكان ألاء, ونائب رئيس الوزراء يالجين أكدوغان, وزير الثقافة والسياحة ماهير أونال, ووزير الاقتصاد السابق مصطفى أليطاش, وزير الاقتصاد الحالي نهاد زيبكجي. وامتد الأمر إلى وزير الداخلية الأسبق عبدالقادر أقسو, والنائب الاقتصادي لرئيس الوزراء توغرول تركيش, ووزير المال ناجي أغبال. وأطلق أيضاً عدد كبير من أعضاء الحزب الحاكم شواربهم, مثل وكيل البرلمان التركي وعضو حزب العدالة والتنمية عن محافظة أديامان أحمد أيدين.


وأشار الكاتب الصحفي فيلل توبراق إلى أن بعض المسؤولين أطلقوا اللحية بجانب الشارب كنوع من الاختلاف والتأكيد على الصبغة العثمانية, مثل الوزير ماهير أونال, الذي أطلق لحيته وشاربه ليكون أول عضو يطلق لحيته في البرلمان التركي منذ عقود.


 رئيس الاستخبارات التركية هاقان فيدان, والملقب بالذراع اليمنى وصندوق أسرار أردوغان, كان أحدث الوجوه التي ظهرت إعلامياً بمعها توضح مدى سطوة الرئيس التركي على مفاصل الدولة والحكومة, وأعضاء الحزب الحاكم, متجاوزاً مسارات السياسة, ومتخطياً خصوصيات الساسة والمواطنين, من مؤيديه ومناصري سياساته في تركيا. فطاعة الساسة في تركيا لدعوة أردوغان تأتي دليلاً على تحويل الدولة إلى «دولة الرجل الواحد» (48).


السلطان مفلس


 الاقتصاد التركي حافظ على ازدهاره, على الرغم من تعرضه لعدة هزات قوية, خاصة إبان الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة 2008-2009.وفي السياق ذاته, يعود الفضل لحكومة العدالة والتنمية في الحد من معدلات التضخم الهائلة, التي بلغت 80 بالمئة. ووفقا للخبير الاقتصادي الأمريكي من أصل تركي, دارون عاصم أوغلو, هناك عوامل مهمة تسببت في الانتعاش الاقتصادي الذي تعيشه تركيا, ألا وهو وجود مؤسسات تتبع سياسة اقتصادية مستقلة, نتيجة للإصلاحات الاقتصادية الجذرية التي فرضها صندوق النقد الدولي على تركيا بعد إحدى الأزمات الطاحنة. مؤكدا على أن «الإصلاح الحقيقي انطلق مع تحقق استقلالية البنك المركزي منذ سنة 2001» (49).


 إذن فما حققه الاقتصاد التركي سببه الرئيسي هو تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي, وأهمها وجود مؤسسات اقتصادية مستقلة تراقب الاقتصاد مثل البنك المركزي, وبالتأكيد وجود نظام قضائي مستقل, وهي بالطبع شروط الاتحاد الأوروبي, التي كان ينفذها أردوغان لكي يزيح الجيش من السلطة.  


 لكن لم تكن نجاحات الإسلاميين الاقتصادية ثابتة, فتعرضت تركيا لاهتزازات كبيرة مع بداية الألفية, وخرجت منها بدعم المنظمات الاقتصادية الدولية, التي فرضت إصلاحات. وراحت تركيا تحقق نموا باهرا مع حلول النصف الثاني من العقد الماضي.


 لكن لا تزال ماهية الصعود الاقتصادي التركي غير مفهومة. هل دفعت الصناعات الخفيفة نمو تركيا? أم هل مولت تركيا نهضتها الاقتصادية بالدين الحكومي?


 تجاوز دين تركيا 230 مليار دولار بالتزامن مع تضخم خارج عن السيطرة وربط الحكومة شرعيتها بنمو صار يبدو مصطنعا وممولا بالاستدانة, يبدو أنها كلها عوامل دفعت البلاد إلى حافة الانهيار. وهو الانهيار الذي يبدو أن بوادره بدأت تلوح مع تهاوي الليرة التركية وخسارتها أكثر من 40 في المئة من قيمتها منذ مطلع هذا العام. وما زاد الطين بلة تفشي الريعية والمحسوبية والمحاباة والفساد, وإنفاق الحكومة أموالها على قطاعات مفيدة سياسيا, وغير منتجة اقتصادياً.


 يقول الكاتب حسين عبد الحسين إن الفقاعة التركية قاربت على الانفجار, وبات أن ما خاله العالم انتقال تركيا من مصاف الدول الراكدة اقتصاديا إلى واحدة من أكبر 20 اقتصادا في العالم, كان أقرب لمجرد وهم ممول بالدين ومعزز بالدعاية.


  يقارن عبد الحسين بين ما يفعله أردوغان وما فعلته السلطنة العثمانية, فقد كانت السلطنة  في مطلع القرن الماضي, تعاني  فسادا ماليا واسعا واضطرابات سياسية داخلية, فثبتت على نفسها لقب «الرجل المريض». لكن بدل أن يبحث السلطان المفلس عن حلول جذرية متمثلة بإصلاحات سياسية واقتصادية, علق السلطان عبد الحميد الدستور, ونسف الحريات, واستدان لبناء مرافق عامة وتمويل نهضة اقتصادية. لكن الأساس الاقتصادي العثماني بقي ضعيفا, على الرغم من نموه المدفوع سياسيا. ويقول المؤرخ يوجين روغان إن السلطنة العثمانية لم تكن تخيفها جيوش الأوروبيين, بل مصارفهم, التي اقترضت منها اسطنبول الكثير. الحقيقة تبقى أنه في تركيا اليوم, كما في تركيا قبل مئة عام, لا مفر من الإصلاحات الحقيقية الجذرية.


 تعود تركيا إلى محاولة تشتيت الأنظار عن داخلها الضعيف بتظاهرها وكأنها قوية وماكرة دوليا. تغازل روسيا لاعتقادها أنها تثير غيرة أمريكا. تشعل شعور معاداة الإمبريالية والغرب وأمريكا. تصرخ. تهدد. تثير الشعور الإسلامي بقولها إن «الله معنا». لكن الحقيقة تبقى أنه في تركيا اليوم, كما في تركيا قبل مئة عام, لا مفر من الإصلاحات الحقيقية الجذرية: إطلاق الحريات السياسية, دعم استقلال القضاء ونزاهته, التمسك بالديمقراطية بما في ذلك تداول السلطة, ومحاربة الفساد والمحاباة. كل ما عدا ذلك لن يغير في مجرى الأحداث التركية, ولن يسمح للأتراك بتفادي الانهيار, فالمشكلة المزمنة لا تزال نفسها على مدى قرن (50). 


 يبدو هذا صحيح, فأردوغان الذي يعاني لا يبحث عن حلول جذرية, لكنه يؤسس لخرافة اسمها «الاقتصاد الإسلامي», والذي لم يفلح في أي «بلد إسلامي», لم نسمع عن دولة نهضت وأصبحت متقدمة وقوية بسبب الاختراع الإخواني»الاقتصاد الإسلامي», والنهضة التي حققها أردوغان كان سببها تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي وليس «اقتصاده الإسلامي». وإذا بحثت عن تعريف له ستجد كلاما إنشائيا لا علاقة له بالعلوم الحديثة, مجرد بروماجندا صاخبة للإسلاميين (51) .


 تأسس «مركز البحوث والتطبيقات للاقتصاد والتمويل الإسلامي» والذي يعد الأول من نوعه في تركيا, وذلك بحضور العشرات من المختصين في التمويل الإسلامي على الصعيد التركي والعالمي. ويهدف المركز الذي تم افتتاحه في جامعة «اسطنبول صباح الدين زعيم», إلى تأهيل كوادر خاصة, تستطيع العمل في المصارف التشاركية الملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية, داخل وخارج تركيا, إلى جانب تقديم دور مهم على الصعيد الأكاديمي فيما يتعلق بهذه المصارف.


  وافتتحت جامعة «اسطنبول صباح الدين زعيم»  قسما خاصا بالدراسات العليا في الاقتصاد الإسلامي, باللغتين العربية والتركية, حيث تستقطب الآن نحو 250 طالبا في درجة الماجستير والدكتوراه, 140 منهم في قسم اللغة العربية, و110 في قسم اللغة التركية.  وكان نائب رئيس الوزراء التركي, محمد شيمشك, قال إن بلاده تواصل العمل لتحويل مدينة اسطنبول مركزاً مالياً عالمياً, ومركزا للتمويل التشاركي (52).


 إنه الهوس بالأسلمة والأخونة. فقد صادق البرلمان التركي, على مشروع قانون حول تأسيس وكالة اعتماد شهادة «الحلال», وستكون الوحيدة المخولة بمنح «شهادات حلال» في تركيا. وستقدم الوكالة خدمة اعتماد للمؤسسات المطابقة للحلال داخل تركيا وخارجها, وستحدد الإجراءات والمعايير في هذا الخصوص, وستقوم على تطبيقها (53).


 تجارة الحلال بيزنس ضخم اخترعه فقهاء مسلمون في الماضي, وهي أن هناك طريقة ذبح حددوها للحيوانات, وهي ذبح الحيوان من أسفل العنق بسكين حاد, والهدف الموت السريع الذي لا يعذب الحيوان. لكن أغلب رجال الدين من السنة والشيعة لم يعد هذا هدفهم, ولكن الهدف هو الحفاظ على الطريقة القديمة في الذبح والتي لم يكن يعرفون غيرها في الزمن القديم. لذلك يرفضون قتل الحيوان بطرق أخرى أكثر رحمة لأنها سريعة منها الصعق بالكهرباء, ثم يتم الذبح. استناداً إلى فهم مغلوط للآية الكريمة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ) المائدة/3. يقول موقع الإسلام سؤال وجواب  إن علماء الإسلام أجمعوا على تحريم الصعق الكهربائي قبيل الذبح, رغم أن الكهرباء لم تكن معروفة في زمنهم. ورغم  أن الحيوان يتم ذبحه بعد الصعق.   والغريب أن نفس الموقع يقول إن القتل السريع بالصعق الكهربائي محرم, في حين أن القتل البطيء بالذبح حلال!(54).  لا يوجد نص قرآني بطريقة قتل محددة, والطريقة التي كانت مستخدمة قديماً (الذبح بالسكين) لأنهم لم يعرفوا الكهرباء بعد. ورغم أنه لا يوجد تحريم لقتل الطيور بالبندقية, ولا طريقة قتل البحريات دون استخدام السكين, وذلك بتركها حتى تموت على مهل.


 تجارة الحلال لا تقتصر فقط على طريقة الذبح, ولكن على تحريم لحم الخنزير طبقاً للآية القرآنية «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ» المائدة 3 . لكن الله لم يحرم مشتقات لحم الخنزير التي يتم استخدامها في أدوية طبية وفي مستحضرات تجميل. كما أن هناك في القرآن الكريم: « اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم (المائدة 5). وهذا يعني أن طريقة طهي المسيحيين واليهود حلال للمسلمين, بما فيها الخنزير (55). 


 هذا البيزنس الضخم يحاول أردوغان السيطرة عليه والتحكم فيه, فهو تجارة مربحة وفي ذات الوقت طريقة من طرق السيطرة على المسلمين كما يحلم. لذلك يسعى إلى وجود طريقة ما لتوحيد «البنوك الإسلامية « تحت رايته. فقد تم عقد  فاعليات المؤتمر السادس حول “التدقيق الشرعي على البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية” في اسطنبول, وشارك في المؤتمر, الذي يعد الأول من نوعه في تركيا, أكثر من 70 خبيراً في الرقابة الشرعية, من 15 دولة. ويهدف إلى تشكيل رأي عام في أوساط العاملين في التدقيق الشرعي, قائم على أُسس نظرية ومهنية موحّدة, والارتقاء بمهنة التدقيق والرقابة الشرعية, بحسب المنظمين (56).


 قد تمكنت شركة تركية من تطوير نظام دفع إلكتروني يحمل اسم «MenaPay», بهدف تغيير أنظمة الدفع التقليدية في الشرق الأوسط وشمال القارة الإفريقية. ويوفر كما تقول الشركة الشفافية والأمان, بشكل أسرع من نظرائه (57). وتدعي الشركة أن التحويل خال من الفائدة وهذا من الصعب تصديقه فمن سينفق على إنشاء هذا التطبيق وتشغيله? في الغالب ستفعل مثل «البنوك الإسلامية» التي تضع كلمة «رسوم إدارية» أو أي تعبير آخر,  بدلاً من كلمة «الفائدة».


هذا الطموح الاقتصادي لتوحيد المسلمين تحت راية أردوغان الإسلامية, الهدف منه أيضاً  أن تستفيد تركيا مالياً واقتصادياً, بتحويل اسطنبول إلى عاصمة لهذا النوع من الاقتصاد. فالتمويل «الإسلامي» قد وصل إلى  2 تريليون دولار بنهاية 2015, وفق صندوق النقد العربي (58).


 «السياحة الحلال» أيضاً جزء من هذا النشاط المحموم, وتعتمد كما يقولون على الأحكام الرئيسية في «الشريعة الإسلامية», كتحريم الكحول والحرص على تقديم اللحوم والدواجن المذبوحة  كما يدعون وفق الشريعة الإسلامية, إضافة إلى توفير مسابح خاصة للنساء ومساجد للمصلين. و تحتل تركيا, المرتبة الثالثة بين دول منظمة التعاون الإسلامي كأعلى وجهة في مؤشر السفر العالمي للمسلمين, بعد كل من ماليزيا والإمارات.


 أكد وزير السياحة والثقافة “نابي افجي” أن أعداد السياح الذين قدموا إلى تركيا في العام الماضي, بلغ 36 مليونا و244 ألف سائح, بإجمالي إيرادات تجاوزت 31.4 مليار دولار. ووفق إحصاءات منظمة السياحة العالمية شكلت السياحة الحلال 9% من إجمالي قطاع السياحة عام 2010, وبلغت قيمتها نحو 90 مليار دولار, وفي 2011 زادت قيمتها لتصل إلى 126.1 مليار دولار, أي شكلت نسبة 12.3% من إجمالي دخل السياحة العالمية, ثم ارتفع هذا الرقم ليبلغ 140 مليار دولار عام 2013, أي 13% من إجمالي دخل السياحة العالمي (59).


 بالتأكيد ليست هناك مشكلة في أن تكون هناك سياحة يسميها أردوغان إسلامية أو أي نوع من أنواع السياحة, لكن المشكلة كما أشرت من قبل أن هذا جزء من خطة  «أسلمة وأخونة تركيا». فهناك أيضاً ما يسمونه «الإعلام الإسلامي», و الذي يسعون إلى أن يكون له نظرية خاصة ذات «أرضية رصينة» يتم الاحتكام إليها, وبعدها الإقرار بوجود «نظرية علمية» مثبته. وهناك باحثون أتراك يدرسون العلاقة ما بين وسائل الإعلام وما بين الدين عُموما. ومنها تأسيس الموقع الإلكتروني اسمه ” الإسلام والإعلام ” لمتابعة وتغطية كل الفعاليات والدراسات ذات العلاقة بالدين والإعلام التي تُعقد في تركيا. ونشر الدراسات والبحوث عن الإعلام الإسلامي. 


 هذا بالإضافة إلى تأسيس مركز بحث وتطبيق دراسات الدين والإعلام التابع لكلية الاتصال بجامعة أرجيس . ويهدف إلى توفير إمكانية لتطوير الموارد التعليمية و التطوير الوظيفي للإعلام والتعليم الديني . وتدعيم المبادرات العلمية المرتبطة بحقل «الدين والإعلام; وتعزيز قدرة البحث والتطبيق في هذا الاتجاه. وزيادة التأثير في المجموعات المستهدفة والمستفيدين النهائيين في موضوع العلاقة بين الدين والإعلام وقيمته التعليمية (60).


 بالطبع لا يمكن أن يغيب التعليم عن مشروع أردوغان ومن معه, بل يمكن اعتباره حجر الأساس, فهو الذي سيتخرج منه أجيال تؤمن بأيديولوجيا أردوغان الإخوانية. وقد صدم وزير النقل التركي آنذاك بينالي يلدريم القطاعات العلمانية في المجتمع التركي عندما قال إنه رفض الالتحاق بجامعة بوغازيتشي لأنه رأى الطالبات والطلاب يجلسون معا وخشى أن يكون مثلهم, وقرر الالتحاق بجامعة أخرى.  يلدريم  هو نفس الشخص الذي اختاره أردوغان لكي يكون رئيساً للوزراء ورئيس البرلمان فيما بعد. 


 في خطاب ألقاه عام 2017، تفاخر أردوغان بأنه بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ارتفع عدد الطلاب في المدارس الدينية من 60000 إلى 1.3 مليون. فهو لا يريد عقولًا نزيهة ومتعلمة وحرة، بل « عقولا متدينة» على الطريقة الإخوانية (61).


وقال أردوغان إن الهدف من التعديلات «تعزيز الكتب والمناهج بتاريخنا العريق والمشرف». وأضاف: نتصدى للذين يحاولون تحديد تاريخ دولتنا وأمتنا ب أي أن الأمر له علاقة بحلم أردوغان ومن معه من الإسلاميين باستعادة «الخلافة العثمانية». فهناك جهود حكومية  لإخراج أجيال جديدة «مدركة وعاشقة لتاريخها وحضارتها العثمانية, وكذلك ملمّة باللغة العثمانية التي ذابت منذ القدم في العربية».


 أكد الأكاديمي التركي محمد حقي صوتشين, بروفيسور اللغة العربية بجامعة «غازي» التركية أن هناك أسبابا اقتصادية وأمنية ولكن هناك أيضاً سببا مهما وهو أن من يحكمون تركيا الآن ذو مرجعية إسلامية، ويريدون  تطوير اللغة العربية كرمز ثقافي للدولة, بما يمكنهم من تعزيز العلاقات مع الشعوب والمؤسسات المعنية في الدول العربية, وبالتالي زيادة التأثير التركي في العالم العربي» (64).


 إنه التأسيس للمشروع الإمبراطوري الاستعماري من جديد.


استعادة الإمبراطورية العثمانية الاستعمارية:


 في هذا الصدد, يؤكد قادة حزب العدالة والتنمية أن الحديث حول العودة إلى أمجاد الخلافة العثمانية, لا يعني العودة إلى سياسات وتكتيكات الدولة حرفيًا, إنما الحفاظ على الثقافة والتراث العثماني الذي لا يمكن إنكاره; من خلال أدوات العصر الحديث, فهو أشبه بمحاولة الجمع بين الأصالة والمعاصرة (65).


 يصف أردوغان حزب العدالة والتنمية بأنه: “نحن حزب محافظ وديمقراطي بمعنى أننا نحافظ على عادات وتقاليد وثقافة الأمة التركية ونسعى لتطبيق ديمقراطية قوية ومتطورة لا تقل عن الديمقراطيات المتطورة في العالم” (66).


وحول الاتهامات التي توجّه للحزب عن أطماعه الاستعمارية خارجيًا, وسياساته الاستبدادية للتفرّد بالسلطة داخلياً, يقول “أحمد داوود أوغلو”:“لماذا حين تحاول أوروبا بأكملها العمل على توحيد دولها وإزالة الحدود بينها, لا تُنعَت بأنها “الإمبراطورية الرومانية الحديثة” أو “الرومانيون الجدد”, في حين أننا حين ننادي للجمع بين مَن عاشوا تحت لواء دولة واحدة من قرن مضى, نصبح “العثمانيين الجدد”?”(67).


  بالطبع الإجابة هي أن أوروبا لا تفعل ذلك على أساس ديني, فهي لا تدعو إلى وحدة العالم المسيحي, ولا تحلم باستعادة إمبراطورياتها الاستعمارية القديمة, بل وتبرأت منها, فلا تجد أحدا اليوم يتغنى بمجد الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية التي لا تغيب عنها الشمس ولا يحلم باستعادتها. ولو فعلت إنجلترا هذا سوف نتهمها بالجنون.  في حين أن الإسلاميين الأتراك يفعلون ذلك مجدداً باسم الإسلام, أي على أساس ديني. والإسلام كان راية وأداة للعثمانيين في بناء إمبراطوريتهم الاستعمارية التي احتلوا خلالها بلدانا إسلامية. وكان أولى بالإسلاميين في تركيا أن يعتذروا للعالم عن الجرائم التي ارتكبتها تلك الإمبراطورية أثناء احتلالها بلاداً وشعوباً أخرى, بدلاً عن الفخر بها.  


 هذا الحلم باستعادة الإمبراطورية العثمانية كانت له العديد من المؤشرات منها صورة لأردوغان في استقبال الرئيس الفلسطيني “محمود عبّاس”, مع مجموعة من الجنود مرتدين ملابس عثمانية,  يمثلون 16 حارسًا للدول التي حكمها الأتراك إبان حكم الدولة العثمانية, وهو المشهد الذي تكرر مرة أخرى, لدى استقبال أردوغان لنظيره الأذربيجاني إلهام علييف(68). وكما سبق أن أشرت يسمي الجيش التركي الذي يغزو سوريا ب»الجيش المحمدي» ويودعه بالموسيقى العسكرية للفرقة الانكشارية الدموية وهي كانت جزءا من جيش الاحتلال العثماني.كما دعا 90مسجدا بالانتصار للجيش التركي بقراءة سورة الفتح من القرآن الكريم.


 ظهر أردوغان خلال الاحتفال بالذكرى السنوية 562 لفتح القسطنطينية «اسطنبول», وسط 478 رجلًا من الجيش التركي, وكانوا جميعًا يرتدون الزى العسكرى العثماني, أطلق عليهم اسم «كتيبة الفتح العثماني », وانضمت إليهم الفرقة العسكرية العثمانية المعروفة باسم «مهترخانة», المؤلفة من 84 عازفًا (69).


 من الأحلام الإمبراطورية أيضاً لأردوغان تشييد قصره الأبيض الذى أطلقت عليه وسائل الإعلام التركية «قصر السلطان», بتكلفة بلغت أكثر من 600 مليون دولار, حيث تبلغ مساحته 200 ألف متر. ويحتوي  على 1000 غرفة وتزيد مساحته 30 مرة عن مساحة البيت الأبيض الأمريكي, كما أنه أكبر من قصر فرساي الشهير في فرنسا. أدانت المعارضة القصر واعتبرته ترفا مبالغا فيه, يظهر أن أردوغان ينحدر نحو الحكم السلطوي. إنه يخطط لنقل العاصمة من أنقرة إلى اسطنبول. اسطنبول هي العاصمة الأخيرة للإمبراطورية العثمانية (70).


 كما أطلق أردوغان اسم مؤسس الدولة العثمانية “عثمان غازي” على جسر  باسطنبول، قائلاً بفخر: إطلاق هذا الاسم كان للدور العظيم للسلطان عثمان في تأسيس الدولة الإسلامية العثمانية, وهذا المشروع هو استكمال في طريق الحضارة الذي بدأه السلطان عثمان (71).


 كما وافقت رئاسة الشؤون الدستورية بالبرلمان التركى على اقتراح نواب حزب العدالة والتنمية بإعداد شعار رسمى جديد للجمهورية, هو ذاته شعار الدولة العثمانية المعروف ب“هناك من يعمل بإصرار على أن يبدأ تاريخ تركيا من 1923 (تاريخ تأسيس الجمهورية التركية), وهناك من يبذل قصارى جهده لانتزاعنا من جذورنا وقيمنا العريقة”. وقال : “بالنسبة لهؤلاء, الجمهورية التركية حديثة الظهور ولا تمثل امتدادًا للسلاجقة والعثمانيين, الذين وجهوا النظام العالمي طيلة ستة قرون” (73).


 يغيب عن أردوغان أن هذه الإنجازات ليست أكثر من احتلال شعوب وبلدان أخرى من جانب السلطان عبد الحميد وغيره من سلاطين الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية, وأنه عليه هو والإخوان وعموم الإسلاميين التبرؤ من هذه الجرائم, بدلاً من الإصرار على استعادتها. لكنهم لن يفعلوا, لأن ذلك هو جوهر مشروعهم «الإسلامي الإخواني», دولة إسلامية ومن بعدها «أستاذية العالم». في هذا السياق قابل أردوغان في باريس  شخصيات من السلالة العثمانية المقيمة في فرنسا (74).


في إشارة إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية وانسحاب جيوشها من الدول التي احتلتها, قال أردوغان:  تركيا أكبر من تركيا ; لا يمكن أن نكون محاصرين داخل 780 ألف كيلومتر [المساحة الإجمالية لتركيا ] لأن حدودنا المادية تختلف عن الحدود في  قلوبنا، إخواننا في الموصل، كركوك [في العراق ]، في الحسكة، حلب، حمص [في سوريا ] قد تكون مصراتة [في ليبيا ], سكوبيه [في جمهورية مقدونيا ]، وشبه جزيرة القرم [في الاتحاد الروسي] والقوقاز خارج حدودنا المادية، ولكنهم جميعًا داخل حدود قلوبنا. وأضاف: «لقد جعل أسلافنا من أي مكان الناس  ينعمون بالازدهار. لدينا تقاليد الدولة التي أرست بيئة آمنة وسلام في جغرافية واسعة، تمتد من أوروبا الوسطى إلى إفريقيا لقرون (75).


 في إطار التعاون بين إخوان تركيا مع عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير المنتمي إلى الإخوان, قال رئيس لجنة الإعلام في البرلمان السوداني  الطيب مصطفى, إنهم يتمنون إزالة الحدود بين الدول الإسلامية لتعود الخلافة العثمانية. وأوضح أن تلك الحدود صنعتها اتفاقية «سايكس “كل ملهوف ومظلوم في العالم, وعن مليارين من أمتنا الإسلامية وليس فقط 80 مليونًا من مواطنينا.  نحن مسؤولون عن  الناس يموتون في جنوب السودان والصومال وجنوب شرق إفريقيا. هل هناك من يتعاطف ويقدم المساعدات الإنسانية أكثر منا?”. وتساءل قائلا “هل ترون الدول الإسلامية? وهل رأيتم بلدًا إسلاميًا آخر تحرك من أجل إنقاذ 45 ألف إنسان من حلب غير تركيا?” (77).


 دعا زعيم حزب “الحركة القومية” التركي المعارض وحليف أردوغان، دولت باهجلي, إلى “عدم ترك القدس لمصيرها”, قائلا إنه “قبل 100عام كنا قد اضطررنا لترك القدس, إلا أننا لن نتركها لمصيرها هذه المرة, وينبغي علينا ألا نتركها”. وأضاف: “في حال سقطت القدس فإن التاريخ سيسقط, وسيتعرض الإسلام للضعف, وستخسر أنقرة, وستحترق اسطنبول, ولا يحق لأحد أن يفعل ذلك” (78).


 ستلاحظ هنا الأرضية المشتركة بين الإسلاميين والقوميين في تركيا, والقوميين هم امتداد أتاتورك. فالقومية التركية تستند إلى الإسلام. هذا يفسر كما سبق وأوضحت أن أردوغان ومن معه, تخرج معظمهم من المدارس الدينية التي أسسها أو رعاها أتاتورك. أردوغان أعاد ترتيب الدولة التركية : الإسلام والخلافة أولا والقومية ثانياً, في حين كان ترتيب أتاتورك القومية أولا والإسلام ثانياً. لذلك فهم يعتقدون أن قوة «الإسلام» في قوة الإمبراطورية العثمانية القديمة, ولا يمكن أن يكون الإسلام قوياً إلا بأن يستعيدها الخليفة الجديد أردوغان.


 دعك من الطلاء الحاني الذي يحاول الإسلاميون لصقه ب«الخلافة العثمانية», فلم تكن سوى إمبراطورية استعمارية. لكن حمى استعادتها تحتاج الكثير من الأكاذيب. الدكتور علي محى الدين قره داغي, الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, يقول: «يكفي العثمانيين شرفاً وثواباً أنهم كوّنوا حضارة إسلامية عظيمة ونشروا الإسلام وحافظوا على أرض فلسطين المباركة, ولم يتنازلوا عن ذرة من ترابها وكلام السلطان عبد الحميد خير شاهد» (79).


 هذا الهوس وصل إلى الشباب, قالت «مؤسسة شباب تركيا» الموالية للحكومة, في بيان هو أغرب من الخيال: إن الأذان هو تجديد عزمنا على التغلب على روما ونيويورك وبكين وطوكيو وموسكو وبرلين وباريس واستكمال غزونا غير المكتمل لفيينا» (80), في إشارة إلى المحاولات العثمانية الفاشلة لغزو العاصمة النمساوية.


 إنه هوس استباحة الشعوب, واعتبار احتلالها حلال . وطبيعي أن يكون مبنيا على أكاذيب. الكذبة الأولى التي تتجاهلها مؤسسة شباب تركيا أنها كانت احتلال. الكذبة الثانية «الحضارة الإسلامية», والحقيقة أنه لا توجد هذه الحضارة من الأساس فالغزاة العثمانيون ومن قبلهم غزاة قبيلة قريش استولوا على المنتجات الحضارية للشعوب التي احتلوها, ونسبوها لأنفسهم ولدينهم. فهل منطقي أن هؤلاء القادمين من صحراء الجزيرة العربية أكثر تقدماً ولديهم حضارة أفضل من المصريين أصحاب الحاضرة الفرعونية العظيمة?!.


 الكذبة الثالثة هي أنهم نشروا الإسلام, فعندما احتل العثمانيون مصر وبلاد الشرق الأوسط بالسلاح كان حكامها مسلمين وأغلب أبناء شعوب المنطقة مسلمين. فهل منطقي أن يدعوهم الغراة العثمانيون من جديد إلى الإسلام?! ثم هل أمرنا الله أن نحتل شعوبا ونجبرها بالقوة على الإسلام? 


  قال أيضاً يوسف القرضاوي أحد الآباء الكبار لجماعة الإخوان, و الرئيس السابق للاتحاد الدولي لعلماء المسلمين :  الله سيساعد أردوغان ليخرج منتصراً على مؤامرات الغرب طالما أن المسلمين الحقيقيين يقفون معه (81).


  هي نفس الأكاذيب التي يرددها أردوغان.  هذا الاتحاد تموله قطر حليف تركيا في تمكين الإخوان من حكم الشرق الأوسط .  لذلك هو يبرر الاستعمار التركي الذي دمر البلاد الإسلامية وغير الإسلامية التي احتلها (كما سأوضح لاحقاً ), فلم يكن أبداً هدفه نشر الإسلام ولكن نهب الثروات, كما لم يكن لهذا الاستعمار البغيض أي مظهر حضاري.  وحتى لو صدقنا أن هدفهم كان نشر الإسلام, فليس من حقهم أبداً نشره بالسلاح, فهذه جريمة ضد الإنسانية من الصعب أن يقبلها ضمير أي مسلم. 


 أعاد وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد نشر تغريدة  تقول :هل تعلمون (أنه) في عام 1916 قام التركي فخري باشا بجريمة بحق أهل المدينة النبوية فسرق أموالهم وقام بخطفهم وجعلهم يركبون قطارات إلى الشام واسطنبول برحلة سميت (سفر برلك) كما سرق الأتراك أغلب مخطوطات المكتبة المحمودية بالمدينة وأرسلوها إلى تركيا?» (82).


 رد عليه أردوغان بعجرفة:  حين كان جدنا فخر الدين باشا يدافع عن المدينة المنورة, أين كان جدك أنت أيها البائس الذي يقذفنا بالبهتان?». وأضاف:  فخر الدين باشا أرسل الأمانات المقدسة العائدة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام إلى اسطنبول, برفقة 2000 جندي, على خلفية تضييق البريطانيين حصارهم على منطقة الحجاز (83). و إمعاناً في الكيد السياسي أصدرت السلطات المحلية في أنقرة قراراً بتغيير اسم الشارع الذي فيه  سفارة الإمارات العربية المتحدة, من «شارع 613» ليصبح «شارع فخر الدين باشا» (84). 


 الحقيقة أن ما حدث هو صراع بين إمبراطوريتين استعماريتين, العثمانية والبريطانية. والحقيقة أن شعوب المنطقة لم تطلب من العثمانيين حمايتهم, فالعثمانيون كانوا يدافعون عن إمبراطوريتهم, ولم يكونوا يدافعون عن «المقدسات الإسلامية»!


 هذا التفاخر بهذه الإمبراطورية العثمانية متغلغل في مؤسسات الدولة التركية, في الجامعات ومراكز الأبحاث والإعلام .. إلخ. تسمى إحدى الدراسات «الإمبراطورية العثمانية » «آخر نسخ الخلافة الإسلامية». وتؤكد الدراسة  أن الذين يرفضون هذه الإمبراطورية الاستعمارية هم الذين يبحثون عن رضاء الغرب. وتزعم أن هذه الإمبراطورية الاستعمارية كان لها إنجازات كثيرة.  منها الحماية العسكرية مما أسمته « الحملات الصليبية» أي الغرب. وهذه الحماية تمثلت في استعمار بلدان وشعوب أوروبية في كوسوفو وغزو القسطنطينية وقبرص وغيرها.


  يتجاهل صاحب الدراسة ما حدث في مصر على سبيل المثال, لقد تم احتلالها مرة من فرنسا وثانية من بريطانيا وهي تحت الاحتلال العثماني, كما يتجاهل ما هو أهم وهو أن العثمانيين كانوا يحاربون دفاعاً عن إمبراطوريتهم وليس دفاعاً عن الشعوب التي احتلوها. كما تتجاهل الدراسة بالطبع أن هذا احتلال بالسلاح لشعوب, بل وتراه ضمنياً حقا دينيا للعثمانيين الأتراك, رغم أنه لا يجوز تبرير الاحتلال تحت أي زعم ديني أو غير ديني.


 لكن الدراسة تتجاهل كل ذلك لتصل إلى نتيجة مبنية على أكاذيب, وهي أنه على المسلم أن يستعيد تلك الخلافة مجدداً, فقد فشلت كما تقول الدراسة  الدولة القطرية, كما فشل مشروع القومية العربية, ولا حل سوى عدم استرضاء الغرب والتخلي عن «مشروع الخلافة», فلا بد من استعادته (85).


 هذا ما يحاول أن يفعله أردوغان ومن معه. يخطط مركز الأبحاث الاستراتيجية لتركيا الذي يرأسه المستشار العسكري الرئيسي لأردوغان, عدنان تنريفردي, لتنظيم «مؤتمر الاتحاد الإسلامي الدولي» كل عام حتى عام 2023, لتوحيد «الدول الإسلامية». شارك في هذا المؤتمر الدائم منظمات تركية مثل رابطة محامي العدالة (ASDER)، وجامعة Üsküdar في اسطنبول (ÜÜ)، واتحاد المنظمات غير الحكومية في العالم الإسلامي (UNIW)، جمعية العلماء المسلمين الدولية (UMAD) والاتحاد الدولي لعلماء المسلمين (IUMS).


  أعلن المشاركون في المؤتمر الأول أن هدفهم إنشاء «قوة عظمى إسلامية» مستقبلية على الأراضي الإسلامية التي تملكها 60 دولة إسلامية، يقطنها 1.6 مليار مسلم، على 19 مليون كيلومتر مربع،» تشكل «55.5% من احتياطي النفط العالمي و 45.6% من إنتاجها و 64.1% من احتياطي الغاز الطبيعي و 33% من إنتاجه. اقترح نائب وزير المالية  التركي نور الدين النباتي أن يترأس هذه  الكونفدرالية الإسلامية المخطط لها « الإمام القائد  للأمة الإسلامية» أردوغان.  وتساءل «هل هناك أي شخص ستكون قوته كافية لهزيمة أردوغان  الذي يعتمد على الله?». في المؤتمر الأول تمت صياغة دستور نموذجي, حيث إن عاصمة الكونفدرالية الإسلامية هي اسطنبول. السيادة «تنتمي إلى الشريعة الإسلامية» ; وعلى كل دولة إسلامية أن تنشئ» وزارة الاتحاد الإسلامي «داخل مجلس وزرائها». ومن المتوقع أن تكون أربع دول أوروبية أعضاء هي  ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا (86) .


 هذه الرغبة الإمبراطورية أحد أذرعتها هو رئاسة الشئون الدينية. في عهد أردوغان زاد نشاطها,ففي عام 2010, كان لديها قرابة ألف و85 موظفًا يعملون في 18 استشارية و21 ملحقية خدمات دينية في عديد من الدول حول العالم, أبرزها: الولايات المتحدة الأمريكية, وأستراليا, ودول البلقان وبعض الدول الأوروبية.


 اكتسبت خدمات الشؤون الدينية سرعة كبيرة في الأعوام القليلة التي تلت 2010, حتى وصل عدد الموظفين الأتراك المُشتغلين بها ألفين و43 شخصا يعملون في 52 استشارية و38 ملحقية خدمات دينية, إلى جانب 12 مكتب تنسيق موزعين على 102 دولة في 6 قارات. ففي القارة الأوروبية, يوجد حاليا 12 استشارية, و30 ملحقية للشؤون الدينية, تُقدم خدمات تعليمية وتربوية للأقليات المسلمة هناك.وتنشط في القارة السمراء 17 استشارية وملحقيتان, و4 مكاتب تنسيق, تُقدم إلى جانب التعليم والتوعية الدينية, خدمات ثقافية واجتماعية متنوعة.


 تسعى رئاسة الشؤون الدينية إلى الوصول إلى كل المسلمين حول العالم, ما يدفعها إلى تشكيل وعقد كثير من المنتديات والمؤتمرات الدولية بشكل دوري; لمناقشة أوضاع الأقليات المسلمة, وسبل توفير الخدمات والتوعية الدينية اللازمة لها. ومن أبرز هذه التجمعات, قمة القادة المسلمين في إفريقيا, واجتماع رؤساء الشؤون الدينية في دول البلقان, وملتقى المسلمين في أوروبا, وقمة رجال الدين الإسلامي في أمريكا اللاتينية وجزر الكاريبي.


 وفي مجال الأنشطة المجتمعية, نفَذت رئاسة الشؤون الدينية, على مدار السنوات القليلة الماضية, مشاريع تشييد مساجد ومراكز ثقافية وتربوية في مختلف القارات, كان أبرزها المجمع الإسلامي الذي افتتحه أردوغان في ولاية ميريلاند بالولايات المتحدة في أبريل/ نيسان 2016. ويتلقى سنويا آلافا من الطلاب المسلمين الوافدين من دول مختلفة, تعليمهم في المعاهد والكليات الدينية في تركيا, بدءًا من التعليم الثانوي وحتى مستوى الدبلوم والدراسات العليا.


 وفي مناسبات الأعياد الدينية, توفر مكاتب الشؤون الدينية في الخارج, رحلات حج وعمرة, كما تقوم بذبح عشرات الآلاف من الأضاحي وتوزيع لحومها على المسلمين في مختلف دول العالم. وفي عام 2016, بلغ عدد الدول التي ذبحت فيها رئاسة الشؤون الدينية أضاحي بالوكالة, 130 دولة حول العالم (87).


 تمهيد الأرض دينياً وأيديولوجيا لإمبراطورية أردوغان  تنفذها اللجنة في كل مكان في العالم. فقد عينت  مجموعة من المفتين لتنسيق أعمالها وتأهيل أئمة سوريين في المناطق التي احتلها الجيش التركي, في إطار عملية «درع الفرات». كما أشرفت على ترميم 60 مسجدا متضررا من الحرب في المناطق المحررة في ريف محافظة حلب. وافتتحت  مسجدا في مدينة «الباب», قادرا على استيعاب 1500 شخص خلال الصلوات, فيما تتواصل أعمالها لترميم 42 مسجدا آخر في المنطقة. كما تشرف على تأهيل 467 إماما من السوريين لتوظيفهم في مساجد ومعاهد المنطقة, بالتعاون مع رابطة العلماء السوريين, فيما عيّنت 4 مفتين لتنسيق الأعمال والأنشطة في شمال سوريا. ويعمل المفتون على تأهيل الأئمة السوريين في ولايتي غازي عنتاب وقيصري التركيتين, وتنسيق مواصلاتهم وإقاماتهم واحتياجاتهم الأخرى. كما عيّنت رئاسة الشؤون الدينية التركية 50 مدرّسة لتعليم القرآن الكريم للسوريين في مخيمات النزوح داخل الأراضي السورية التي تم تحريرها في إطار «درع الفرات» (88).


 وهذا مثال آخر على ما تفعله رئاسة الشئون الدينية. كما أن لها دورا آخر مهما وهو تنمية طاقة السخط والغضب لدى المسلمين في الغرب, وخاصة الأتراك, بتضخيم أكذوبة الإسلاموفوبيا.  فقد قال رئيس اللجنة محمد غورماز إنهم تبنوا استراتيجية لمواجهة «العداء للإسلام والمسلمين», وذلك عبر عقد اللقاءات مع المسلمين القاطنين في أوروبا, والثاني لقاءات مع مجتمعات غير مسلمة, وبحث سبل درء خطر وقوع عالمنا في براثن هذه المصيبة والمآلات التي أنتجتها» (89). 


 كما تتولى اللجنة أيضاً محاربة خصوم أردوغان السياسيين في كل مكان في العالم, وبشكل خاص فتح الله غولن حليفه الإسلامي السابق.  فقد طلب أردوغان من اللجنة فحص ودراسة خطابه الديني الإرهابي وكتاباته خلال 40 عاما.


  وهل تملك اللجنة أن تقول إن غولن غير إرهابي?!.


بالطبع لا.


 يقول محمد غورماز إن الدراسة أظهرت نوعية الخطاب الديني الذي يستخدمه زعيم المنظمة الإرهابية فتح الله غولن, وكيفية تعارضه مع الإسلام في عدد من الجوانب.  وإن منظمته تهدف إلى  التغلغل ليس فقط في الدولة, والشعب, والهيئات, والمؤسسات الدولية, والدول, وإنما أيضا التغلغل في الدين والقيم الإيمانية, وفي أذهان الشباب. وشدد غورماز على أن الحركات والمنظمات الشبيهة بمنظمة فتح الله غولن لم تنشأ من الإسلام, وإنما هي حركات ومنظمات أسست من أجل تخريب المفاهيم الإسلامية, وإفساد علاقة المسلمين بدينهم (90).


 أي أن رئاسة الشؤون الدينية أخرجت معارضا  سياسيا لأردوغان من الإسلام, ولأنه عدو للإسلام والمسلمين فهو كافر مرتد, وطبقاً للفقه السائد في أوساط المسلمين السنة يجوز قتله, بل يجب قتله (91). يقيم غولن في الولايات المتحدة منذ 1999, وتطالب تركيا بتسليمه لمحاكمته وترفض الولايات المتحدة لأنه ليس هناك أدلة جادة على الاتهامات التي تقولها حكومة أردوغان والتي تتلخص في مشاركته في «الانقلاب المزعوم». طالب جول من جانبه الحكومة التركية بتشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف حقيقة «الانقلاب المزعوم», وإذا ثبت تورطه فهو على استعداد لأن يتم إعدامه (92). 


 في إطار الدور السياسي الذي تقوم به رئاسة  الشؤون الدينية لصالح النظام في تركيا, فقد طلب رئيسها محمد غورماز,  من ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز, أن «يعيد النظر بأوضاع العلماء (المقيدة حريتهم ) في بلاد الحرمين; فهم لم يرتكبوا جرما, ولم يقترفوا ذنبا».


كما وجه غورماز تعازيه لأسرة الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي تم قتله داخل قنصلية بلاده في اسطنبول. وقال: «نعلن - باسم الإسلام والمسلمين- أن حزننا كبير على خاشقجي, ولو اختلط حزننا بماء بحر مرمرة لصار أسود كجاره (البحر الأسود )».


 ويدعو الرجل إلى توحيد علماء الأزهر الشريف والزيتونة ومؤسسات الإفتاء في كل العالم, ومراكز الدعوة والإرشاد ومؤسسات البحث والعلوم الشرعية, ونترك النقاش والخلافات,  ونوجه طاقتنا لتعود أمتنا أمة واحدة, رسالتها ونبيها واحد, لنأخذ مكاننا بين الأمم العليا» (93).


 ستلاحظ هنا أن الرجل أعطى لنفسه الحق في أن يتحدث باسم الإسلام والمسلمين, كما دعى لتوحيد علماء المسلمين, ولكن بالتأكيد تحت راية أردوغان ومن معه. 


 لا يمتلك من يحكمون تركيا رئاسة الشؤون الدينية فقط, ولكن هناك أيضاً عدة جهات حكومية أخرى, منها  “وقف الديانة” الذي بنى العديد من المساجد في الفلبين, كما يقدم  المساعدات الإنسانية والاحتياجات اللازمة للمسلمين هناك. بالإضافة إلى نسخ من القرآن الكريم, وهي التي يوزعها في العديد من البلاد. أوضح مدير المشاريع والخدمات الخارجية في الوقف, مراد أويار قدمنا مساعدات إنسانية وموائد إفطار في 68 دولة حول العالم.تأسس وقف الديانة التركي عام 1975, ويمتلك نحو ألف فرع داخل تركيا, ويقدم خدمات مختلفة في 135 دولة حول العالم (94).


 توجد أيضاً  وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا”  التي تقدم مساعدات تنموية وإنسانية في العديد من دول العالم, منها  البيرو وأفغانستان وفيتنام. حيث قدمت لوازم تربية الأبقار للمزارعين في منطقة “جنوب سيررا” في البيرو. بالإضافة إلى معدات للإسعافات البيطرية, وطاحونة لجرش علف الأبقار وماكينات لحلبها. وفي أفغانستان, افتتحت  مبنى لدار أيتام ب“آن جيانغ” بالقرب من حدود كمبوديا (95) .


 هيئة الإغاثة التركية ذراع آخر لأردوغان للتغلغل في أوساط المسلمين في كل مكان في العالم. فقد أهدت 80 دراجة هوائية لأيتام في مدينة موستار جنوبي البوسنة والهرسك. وذلك في احتفال أقامه معهد الثقافة التركي  بالتعاون مع جمعية بسمة الأيتام (البوسنية), ومركز اسطنبول للتعليم والثقافة في العاصمة سراييفو (96).


 احتفل وقف “المعارف” التركي (حكومي) في الصومال, بتخريج84  من الدفعة الأولى من طلاب الثانوية العامة في مدارسها بالعاصمة مقديشيو. هذا الوقف ذراع آخر لتركيا. قال عضو مجلس إدارة وقف المعارف, أحمد توركبان,  إن بعض الطلاب الذين تخرجوا من الثانوية سيلتحقون بالجامعات التركية لمواصلة مسيرتهم التعليمية”. ربما من المهم معرفة أن هذا  الوقف حل محل مدارس «غولن» خصم أردوغان والذي استطاع طرده من الصومال (97).


 لاحظ الباحث إيهاب عمر أن أردوغان في تحركه الاستراتيجي اليوم في البحر الأحمر, يخطو نفس الخطوات الاستراتيجية العثمانية, سواء النفوذ التركي القوي في الصومال أو جزيرة سواكن المكسب الأبرز لتركيا عام 2017. بسط العثمانيون نفوذهم على خليج عدن ثم خليج عمان وبحر عمان ومضيق هرمز وبحر العرب وخليج البصرة, انطلاقاً من ميناء السويس, ثم أمر السلطان سليمان عام 1538 بشن أربع حملات بحرية انطلاقاً من السويس إلى المحيط الهندي لتصفية النفوذ والاحتلال البرتغالى, إذ كان القرن السادس عشر هو قرن الصراع العثماني البرتغالي بامتياز (98).


 هذه الاستعادة للنفوذ في إفريقيا والقرن الإفريقي بشكل خاص يؤكدها رئيس وكالة «تيكا» سردار جام:  إنّ الوكالة لديها 62 مكتباً في 59 دولة حول العالم, منها 25 مكتباً في إفريقياً, مضيفاً «هي قارة غنية إلى درجة أنّها قادرة على أن تغذي العالم كله» (99).


  كانت حدود الإمبراطورية الاستعمارية التركية  التي بدأت بإمارة صغيرة, ثم احتلت معظم بلاد أوروبا وكادت أن تحتلها بالكامل, واحتلت الشرق الأدنى القديم وكل بلاد الشرق الأوسط ذات الأغلبية المسلمة (100). 


 هل أردوغان مخطئ لأنه يساعد المسلمين في كل مكان?


 من الأفضل أن يقدم المساعدة لكل البشر اياً كان لونهم وعرقهم وديانتهم, فهكذا فيما أظن يجب أن يكون المسلم. فالفقر والجوع لا يفرق بين الناس. ويجب ألا ننحاز فقط للمسلمين مثلنا, وإلا تحولنا إلى عصابة, ولكن لكل الإنسانية طبقاً للقيم الكلية للإسلام. لو تجاوزنا ذلك فأردوغان ومن معه لا يساعدون المسلمين لوجه الله, ولكن لأهدافهم السياسية, فهم يريدون أن يكون هناك جنود في كل مكان من أجل مشروعهم «الإسلامي الاستعماري», أي ينشرون «إسلامهم», يحلمون باستعادة «الخلافة» بأي درجة من الدرجات.


 هذه الإمبراطورية العثمانية الاستعمارية, بالإضافة إلى كونها استعمارا لا يمكن تبريره مثل أي استعمار, فقد ارتكتبت جرائم ضد الإنسانية لا أول لها ولا آخر. منها على سبيل المثال  المجازر بين عامي 1915 و1917 ضِدَّ الأرمن والتي خلَّفت أكثر من مليون ونصف المليون من القتلى والضحايا الأرمن الأبرياء (101).


  كان من ضمن هذه الجرائم, ما سمِّي ب”مذابح سيفو”- أي (السيف) في اللغة السريانية – إذ شنَّت القوات العثمانية سلسلة من العمليات الحربية بمساعدة مجموعات مسلحة شبه نظامية كردية استهدفت الآشوريين والكلدان والسريان في مناطق شرق تركيا وشمال غرب إيران. قتلت هذه العمليات مئات الآلاف من الآشوريين, كما نزح العديد منهم من مناطقهم. ويقدر الباحثون العدد الكلي للضحايا بحوالي 250 – 500 ألف قتيل. ونتيجة لعدم وجود كيان سياسي يمثل الآشوريين في المحافل الدولية, فإن هذه المجازر لم تحظَ بنفس الاهتمام الذي نالته مذابح الأرمن.  كما أن العثمانيين عندما احتلوا مصر قتلوا في يوم واحد  10 آلاف من عوام المصريين (102).


 وما يزعمونه حول حماية الأقليات فقد ارتكبوا على سبيل المثال جرائم إبادة جماعية ضد الطائفة الإيزيدية في العراق (103).


 احتلال البلاد والشعوب لم يعتذر عنه أردوغان, كما أنه لم يعتذر عن جرائم الإبادة الجماعية ضد الأرمن وغيرهم من الأقليات والشعوب, بل ويحلم باستعادة هذه الإمبراطورية الاستعمارية المجرمة. لذلك فهو يحاول تجييش المسلمين في كل مكان, وخاصة في الغرب. لا بد من الثأر من أوروبا التي دمرت «الخلافة العثمانية», الأتراك موجودون في كل بلاد أوروبا. لكن النسبة الأكبر منهم موجودة في ألمانيا. أردوغان يؤمن أن صراعه مع الغرب ليس صراعاً سياسياً حول مصالح, ولكنه صراع ديني, فالخلافة العثمانية جزء من الدين, بل والإسلام لن يقوى بدونها. وهو الآن لم يعد يحتاج الاتحاد الأوروبي بعد أن ساعده في إزاحة الجيش من السياسة.  لذلك هو يخوض صراعاً مباشراً ضد أوروبا. يقول على سبيل المثال: إن السبب الرئيسى لرفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى هو أن الأخير اتحاد صليبى, مضيفا: يذهبون للفاتيكان ويجلسون أمام البابا كالخراف ويستمعون لمواعظه ويستمرون برفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى لأنه اتحاد صليبى.


 وبالتأكيد هذا غير صحيح, ولكن السبب هو أن أردوغان يسير بخطوات متسارعة تجاه ديكتاتورية دينية, وهو ما يخالف شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي, ولذلك انتقدوا على سبيل المثال التعديلات التي أجراها أردوغان على الدستور لأنها ترسخ للديكتاتورية, وهو ما أزعجه ورد بكلام غير مفهوم, حيث قال:  تركيا تريد أن تتحرر من مذلة الاتفاق على الحكومات فى الاجتماعات السرية, معلقا نحن نريد أن تتشكل هذه الحكومات فى صناديق الاقتراع» (104).


 هناك احتفال ضخم بما يسمونه في تركيا «ذكرى فتح القسطنطينية» في مسجد «آيا صوفيا» وهي الكنيسة الأكبر في العالم المسيحي القديم والتي حولها العثمانيون إلى مسجد, وتم الاستقرار على أن تكون متحفا, لا مسجد ولا وكنيسة. لكن أردوغان وحكومته غيروا هذا وحولوها إلى مسجد وله إمام.  لذلك يقول  ”صالح تورهان” رئيس الجناح الشبابي في “جمعية شباب الأناضول” التي احتفلت بمرور الذكرى 564 ل”فتح القسطنطينية” : العديد من المنظمات العالمية بذلت جهودًا حثيثة لأعوام بهدف تحويل “آيا صوفيا” إلى متحف, وحققوا ذلك “عبر توقيعات مزورة”, عام 1934.  وأكّد “تورهان” أن جمعيته تكافح من أجل إعادة فتح المسجد التاريخي للعبادة, مبينًا أن “هذه القضية لا تخص الإخوة في اسطنبول فقط, بل هي قضية المسلمين كلهم في أنحاء العالم” (105).


 في عام 2017، حث أردوغان الألمان من أصل تركي (الذين يبلغ عددهم حوالي ثلاثة ملايين ) على عدم التصويت لصالح المستشارة أنجيلا ميركل، ووصف تحالفها الحاكم بالألمانية لإصلاح الاضطراب في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة (106).


 وقف انهيار الاقتصاد التركي يدفعه في أي اتجاه, لكنه سريعاً ما يعود إلى أيديولوجيته الإسلامية. ففي قلب سراييفو حاول أن يقدم نفسه لمسلمي أوروبا بأنه حاميهم, فهو البطل . وطالب الأتراك في المجتمعات الأوروبية بضرورة العمل للوصول إلى مواقع مهمة في الحكومات الأوروبية والبرلمانات بدلا عمن سماهم «الأتراك الخائنين الذين يحاولون عرقلة جهود تركيا» (107).


 أي أنه بشكل أو آخر يدعوهم لأن يكونوا بديلاً للأوروبيين أو على الأقل يكونوا موجودين في مراكز صناعة القرار لدعم مشروعه.


هؤلاء المسلمون في أوروبا يقول لهم أردوغان : «كي ننتقم من الأوروبيين, لا تقوموا بإنجاب 3 أطفال, بل 5 أطفال في كل عائلة تركية». وذلك بهدف زيادة التأثير التركي في بلاد الغرب (108).


وهو يعرف أن له تأثيرا كبيرا على الأتراك في أوروبا عبر المساجد والمراكز الإسلامية التي يمولها. لذلك أعطوه في آخر انتخابات  62% من أصواتهم (109).


   استخدام  أردوغان مساجد في أوروبا وإفريقيا وأمريكا وأستراليا وآسيا كقناة للتجسس على المواطنين الأتراك الذين ربما يعارضون حكمه. وفقا لتقارير وسائل إعلام تركية، جمعت رئاسة  الشؤون الدينية التركية معلومات استخباراتية عن طريق أئمتها وغيرهم من الموظفين والملحقين الدينيين في السفارات التركية في 38 دولة, حول أنشطة الأتراك المشتبه في دعمهم لرجل الدين الإسلامي التركي، فتح الله غولن، الذي تتهمه الحكومة التركية بتنظيم محاولة الانقلاب الفاشلة. إن «رئاسة الشئون الدينية” طلبت من فروعها في الخارج أن تقدم النتائج التي توصلوا إليها في الوقت المناسب للمجلس الإسلامي الأوروبي الذي أرسلها إلى «لجنة الانقلاب» في البرلمان التركي.


 الحكومة الألمانية احتجزت عددا من الأئمة. ورفضت الدعم المالي الذي تدفعه رئاسة الشؤون الدينية للمراكز والمساجد في ألمانيا. كما درست إمكانية وضع رئاسة الشؤون الدينية تحت المراقبة. وقال سيفيم داجديلين، نائب رئيس البرلمان الألماني عن حزب اليسار: يجب على الحكومة الفيدرالية والمقاطعات وقف التعاون على جميع المستويات مع رئاسة الشؤون الدينية لأنها تمثل خطراً على الجمهور».


 واتهم بيتر بيلز، عضو البرلمان النمساوي آنذاك، تركيا بالتجسس على من يشتبه في أنهم من أنصار غولن و الأكراد الأتراك عموما والصحفيين في النمسا، عبر منظمة ATIB التي يرأسها الملحق الديني في السفارة التركية في فيينا. و هناك وثائق من مصدر تركي تشير إلى وجود «شبكة عالمية من المخبرين» - تغطي أربع قارات - تقدم تقارير إلى الحكومة التركية (110).