السبت 15 يونيو 2024

واحد من جنودك يا سيدي

فن20-10-2020 | 19:47

أيها الشعر، يا أيها الفرح المختلس

أمل دنقل


كانت قصيدة أمل دنقل "إلى محمود حسن إسماعيل في ذكراه" واحدة من أخريات النصوص التي كتبها الشاعر الكبير قبيل وفاته بعامين. وهي القصيدة التي أدرجت في ديوان "أوراق الغرفة 8"، كما حدث مع قصيدتيه "الطيور" و"الخيول" اللتين كتبت كلتاهما في العام 1981. ولكن أمل، كعادته، ظل يغير ويبدل فيهما حتى استقر على الصياغة الأخيرة لـ"الطيور" في أكتوبر 1981، و"الخيول" في ديسمبر من العام نفسه، بينما ظلت قصيدة "الذكرى الرابعة لمحمود حسن إسماعيل" تنتظر لمسته الأخيرة، واستُخلصت من مسوداتها لضمها في "أوراق الغرفة 8"، بحسب الكاتبة الكبيرة عبلة الرويني، أرملة أمل دنقل.


وعلى ذلك؛ صح أن تكون قصيدته التي بدأها بجملة العنوان "واحد من جنودك، يا سيدي"نموذجا مثاليا لتقديم رؤية أمل دنقل للقصيدة الشعرية، ولتاريخ حركة الشعر المعاصر عموما، تماما كما كانت "الطيور" و"الخيول" أرضا شعرية جديدة يطرقها أمل دنقل وحده، بلا سابق.


فلماذا محمود حسن إسماعيل، على التحديد، من جعله أمل واحدا من جنود الشعر الذين حملوا الراية مثلما حدث يوم غزوة مؤتة، إذ تناوب على الراية كل من زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب (جعفر الطيار)، وعبد الله بن رواحة؟


واحد من جنودك، يا سيدي

قطعوا يوم مؤتة مني اليدين

فاحتضنتُ لواءك بالمرفقين

واحتسبتُ لوجهك مستشهدي!


واحد من جنودك -يا أيها الشعر-

هل يصل الصوت؟

(والريح مشدودة بالمسامير!)

هل يصل الصوت؟

(والعصافير مرصودة بالنواطير!)

هل يصل الصوت؟

أم يصل الموت؟


يكاد معظم نقاد الأدب الحديث يجمعون على أن العام  1947م شهد واحدة من أهم الانعطافات الكبرى –إن لم تكن الانعطافة الأكبر على الإطلاق- في مسيرة الشعر العربي، عبر تاريخه المعروف الذي يمتد إلى حوالي 1600 عام. ففي أكتوبر من ذلك العام نشرت الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدتها الأولى في شعر التفعيلة (أطلقت عليه «الشعر الحر») بعنوان «الكوليرا»، ثم أعقبها الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب بنشر قصيدته «هل كان حبًّا»، في ديوانه «أزهار ذابلة» الصادر في ديسمبر سنة 1947م، وانتهج فيها هو الآخر بنية القصيدة التفعيلية، التي استبدلت السطر الشعري بالبيت العمودي الراسخ في تاريخ الشعر العربي، والقائم على وحدة عدد التفعيلات، المنفردة أو المزدوجة، في البيت الشعري، وفق بحور الشعر الخليلية الستة عشر. وعلى الرغم مما تستغرقه كتابة ديوان شعري كامل من زمن قد يوحي بريادة السيّاب للمدرسة كما قرر بعض النقاد، إلا أن نازك الملائكة قد بيّنت ريادتها لهذا الشعر عندما قررت أنها أول من شمل هذا الكشف الشعري بـ «الإيمان العميق» والوعي النقدي الدقيق.


تقول نازك الملائكة، في كتابها الأشهر «قضايا الشعر المعاصر»:


كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947، في العراق، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت، بسبب تطرف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعًا.


وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة «الكوليرا».


إلا أن شهادة صوتية لبدر شاكر السياب تقطع بالتأثر المباشر بالشعر الغربي في انطلاقة شعر التفعيلة، إذ يقول السياب -في تسجيل صوتي:


عندما استمعت إلى قصيدة للشاعر البريطاني ييتس بعنوان «القُبَّرة»، شعرتُ مع تغير السطر الشعري بين الطول والقصر ببسط جناحي الطائر وبضمهما، ما جعلني أرغب في إنتاج قصيدة لا تلتزم وحدة البيت الشعري، ولا ثبات وحداته العروضية (تفعيلاته) بنظمه المعهود، وإنما يتحرر طول السطر الشعري فيها ليعبر عن الدفقة الشعورية من خلاله، وهكذا جاءت قصيدتي التفعيلية الأولى «هل كان حبًّا؟».


غير أن العودة إلى قصيدة لمحمود حسن إسماعيل من الشعر الحر بعنوان "مأتم الطبيعة" في رثاء أمير الشعراء، أحمد شوقي بك، نشرتها مجلة  «أبولو»، في عدد فبراير 1933، أوقفتني في موقف المراجعة لمعارف تلقيتها باستسلام مدرسي، والبحث عن "دهشة" -وعد بها القاص والروائي الخالد يحيى الطاهر عبد الله- يمكن أن "تثيرها الحقاق القديمة".


والواقع ان محمود حسن إسماعيل في مسيرته الفنية، راوح بين تيار أبولو، وتيار ما عرف لاحقًا باسم الشعر الحر.


 وقد ظُلم الشاعر، برأي بعض النقاد، في نسبة الشعر الحر إلى نازك الملائكة والسياب. وإن خفف من مظلومية الشاعر تفسير بعضهم: أنه كما كانت بداية "الديوان" على يد خليل مطران وريادتها للعقاد، وبداية "أبولو" لزكي أبو شادي وريادتها لإبراهيم ناجي، فإن بدايات "الشعر الحر" لمحمود حسن إسماعيل وريادته لنازك الملائكة والسياب.

فيما عد بعضهم تجارب محمود حسن إسماعيل من باب "الاستطراف"، كما قال إحسان عباس في كتابه " اتجاهات الشعر العربي المعاصر":


قام بعض رواد الشعر في العراق ومنهم السيّاب بمحاولات جادّة للتخلص من رتابة القافية في الشعر العربي، فقد تأثر السيّاب بالشعر الإنجليزي ويشاركه بذلك البياتي و نازك الملائكة، وأرادوا نقل تلك الحرية التي شاهدوها في الشعر الأجنبي إلى الشعر العربي، وفي الواقع كانت هناك محاولات قبل هؤلاء الثلاثة للتغيير ولكنها كانت مجرد استطراف.


فهل كان هذا الظلم ما استشعره محمود حسن إسماعيل، وهو يطلق صرخته، في حديث مع الشاعر فاروق شوشة:

ما كنت أتصور بعد أن حملت القيثار نصف قرن وما لي سلال أغني بها وأجني صداها مع القاطفين من أجل القوت، فما لي يد في كل ما أتحرك فيه، ولكنها حروف الأيام وجزاؤها للعاكفين على صخور الشرف والمبادئ واليقينية القاطعة بالارتفاع، ورفض الانصياع لجيل المجد في هذا العصر الخسيس الميزان.


وهل كانت مظلومية محمود حسن إسماعيل في إزاحته عن ريادة قصيدة التفعيلة المثبتة قبل الشاعرين العراقيين الكبيرين بـ 14 عاما كاملة هي السبب الذي هب أمل من أجله ليمنح الراية من يستحق، أم أنه، أمل، رأى في محمود حسن إسماعيل صورة منه هو الآخر، بوصفه أبرز وراد "نص المدينة"، أو هو "النص السردي" في مقاربة قصيدة النثر العربية بتصور يخصه؟


ولكن كيف ذلك، وأمل لم يغفل إيقاع الخليل في أي من أعماله الشعرية كلها؟


قد يتطلب الأمر إعادة رصد خصائص قصيدة النثر في شكلها المكتمل لدى بودلير ورامبو ومالارميه على التعيين، لنجد أن كسر الإيقاع لم يكن السمة الوحيدة التي تميز قصيدة النثر، وإن كان السمة الأكثر وضوحا لدى ذائقة تربت على شعر البرناسيين الموغل في التوقيع والزخرفة. إلا أن سمات أخرى جوهرية ميزت قصيدة النثر الحديثة، لا تقل أهمية عن كسر القالب الإيقاعي بحال، منها أن قصيدة النثر هي ابنة المدينة، على العكس من ريفية القصيدة الرومانتيكية. وأن قصيدة النثر هي قصيدة سردية، تقوم على مشهديات وموقفيات درامية في جوهرها، لا على التطريب الإيقاعي ولا الغنائية التي وسمت نصوص الرومانتيكية الأولى. 


نعم، التزمت قصائد أمل دنقل بالإيقاع الخليلي بصرامة عرفت عن أمل دنقل الذي لم يلجأ إلى السماحات العروضية المتنوعة التي تقتضيها الضرورة. غير أنه، أمل دنقل، اعتمد الإيقاعات المناسبة للنفس السردي، وخصوصا تفعيلة المتدارك "فاعلن" التي لا يخفى على باحث في العروض أنها جوهر الإزاحة العروضية الأكبر في الوصول إلى تفعيلة الخبب التي أسقطت مركزا جوهريا من مركوزات التفاعيل الثمانية المعروفة، وأعني الوتد المجموع.


لقد أصبح الخبب، عبر تاريخ قصيدة التفعيلة لبًّا في كل منحى سردي يقوم على الكتلة النصية في "التدوير" مثلما هو الأمر في قصائد كثيرة من أخريات شعر عبد الوهاب البياتي، "أولد وأحترق بحبي" على سبيل المثال.


غير أن الملمح الأهم في نصوص أمل دنقل، وخصوصا المتأخرة منها، هو تلك الروح التي تراوح بنية السرد عبر مشهديات تتوسل روح السرد وبنية الحكاية، والاعتماد على أبنية سينمائية في جوهرها، ليس فقط في استخدام تكنيك القطع المتوازي، مثلما حدث في "أغنية الكعكة الحجرية"، ولا الفوتومونتاج التأسيسي مثلما في "مقابلة خاصة مع ابن نوح" ، ولا استدعاء الفيلم السينمائي "سبارتاكوس" في تكوين نصه الأشهر "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" (أكدت عبلة الرويني أن أمل دنقل شاهد الفيلم الذي لعب بطولته كيرك دوجلاس ثلاث مرات متتالية في يوم واحد)، وإنما أيضا في مشاهد متنوعة تشكل في مجموعها روح المدينة الباردة، مثلما في "سفر ألف دال" الذي شكلت مقاطعه صورة كاملة لملامح المدينة القاسية:


الشوارع في آخر الليل .. آه

أرامل متشحات ينهنهن في عتبات القبور-البيوت ..

قطرة .. قطرة، تتساقط أدمعهن مصابيح ذابلة

تتشبث في وجنة الليل، ثم .. تموت!


الشوارع في آخر الليل .. آه

خيوط من العنكبوت

والمصابيح -تلك الفراشات- عالقة في مخالبها

تتلوى .. فتعصرها، ثم تنحل شيئا، فشيئا

فتمتص من دمها قطرة .. قطرة،

فالمصابيح قوت!


إن مشهديات السنترال، والغرفة في الفندق، وقصة الرجل صاحب الساق الخشبية، ونصوص الخيول والطيور جميها نصوص مدينية بامتياز، تكاد تشي بتماسها شديد الوضوح مع نصوص بودلير في "سأم باريس" أو ديوان رامبو "فصل في الجحيم"، بينما تذكرنا "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" بقصيدة رامبو "يوجورتا" الشهيرة التي كانت صوت قائد عظيم يطالب حفيده بالاستسلام/علموه الانحناء.


وبعد:


أرادت هذه القراءة أن تقدم طرحا يخص التأثيرات السينمائية في شعر أمل دنقل، تأسيسًا على فكرة المسافات البينية بين الفنون، أو يصح تسميتها "الكتابة العابرة للأنواع" غير أن القراءة أخذت منحى آخر ظل يشغل الكاتب لفترة ممتدة، يتعلق بسؤال المراجعة لتاريخ شعرنا المعاصر في ضوء القراءة الجديدة التي يجدر أن تعيد النظر في كتابات المنفلوطي وأسئلة الوحدة العضوية في مدرسة الديوان، ومركزية القصيدة الرمزية في شعرنا الجديد، بوصفها ابنة شرعية للقصيدة الرومانتيكية التي ظلت ترفد جل شعرنا الحديث، وفي القلب منه شاعر كبير بقامة أمل دنقل، أمير شعراء الرفض.