الإثنين 10 يونيو 2024

لحظات شعرية: أمل دنقل .. شاعر منتصف القرن العشرين (23 يونيو 1940 – 21 مايو 1983)

فن20-10-2020 | 19:52

تشاء المصادفات أن تتعانق ذكرى ميلاد أمل دنقل مع ذكرى وفاته ولا يفصل بينهما إلا أيام، ففى الثالث والعشرين من يونيو عام 1940 ولد محمد أمل فهيم محارب دنقل، فى قرية القلعة مركز قفـط بمحافظة قنا، وبالرغم من محاولاته المتعددة للالتحاق بالعمل الوظيفي في قنا والسويس والإسكندرية، إلا أن العمل الوحيد الذي امتهنه طول حياته وظيفة "الشاعر"، ويبدو أنه لم يكن مؤهلا إلا لها، حيث عكف طول حياته على امتلاك ناصيتها والتدرب على السير في طرقاتها الوسيعة، وتفتح وعي أمل دنقل الشعري والسياسي في الحقبة الناصرية، تلك الحقبة التي كانت مشحونة بأحلام المد القومي والوحدة العربية التي ملأت وجدان شعراء الستينيات، والتي اغتيلت في نكسة 1967، هذه النكسة التي كان أمل دنقل من أكثر الشعراء الذي كتبوا عنها، وجاءت قصائد ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" عام 1969بمثابة بكائية متعددة المقامات، لكنها منحازة تماما للشعب البسيط ذي الأحلام الكبرى في مواجهة السلطة الدكتاتورية التي عيّشت الأمة كلها في أوهام القدرة العسكرية الفائقة، والتي تكسرت تماما في الساعات الأولى من الحرب، حتى أن المعدات العسكرية ضربت في مكانها قبل أن تتحرك، وكان أمل دنقل شاهد عيان على هذه المأساة، وكان جبرتي الشعراء الذي يؤرخ ويدوّن ويوضح، وعندما مات جمال عبد الناصر، رثى فيه الشعراء العرب القائدَ الفرد المخلص المنتظر للجولة القادمة، وصعد به بعضهم إلى أعلى عليين قائلا:


قتلناك يا آخر الأنبياء

قتلناك ليس جديدا علينا

اغتيال الصحابة والأولياء


وحده أمل دنقل كان مندهشا من مراثينا العديدة له، في حين أن أرضنا محتلة فقال:


لا وقت للبكاء

فالعلم الذي تنكسينه على سرادق العزاء

منكس في الشاطئ الآخر

والأبناء

يستشهدون كي يقيموه على تبة

العلم المنسوج من حلاوة النصر

ومن مرارة النكبة


حتى حين تقدم الصفوف محارب آخر، له سمات المنتصرين وعزمهم، وحقق نصر أكتوبر، كانت مرارة النكبة مالئة حلق أمل دنقل، فلم يكتب حرفا في هذا الانتصار الكبير، وواحد من النقاد لم يُجب لنا عن هذا التساؤل الكبير: هذا الشاعر العروبي القومي الذي حلم عمره كله بالانتصار، لماذا لم يكتب عنه حين تحقق على أرض الواقع؟ لكنه فاجأ الناس بعد سنوات جد قليلة بقصيدته التنبؤية "أقوال جديدة عن حرب البسوس" والمعروفة باسم "لا تصالح"، والتي كتبها إثر مباحثات فصل القوات عند الكيلو 101 من طريق السويس القاهرة، هذه القصيدة التي تعد الأكثر شهرة بين كل القصائد السياسية في العصر الحديث، والتي يستعيدها العروبيون وكأنها المثل المستشهد به:


لا تصالح على الدم حتى بدم

لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ

أقلب الغريب كقلب أخيك

أعيناه عيناه

وهل تتساوى يدٌ سيفُها كان لك

بيدٍ سيفُها أثكلك؟


     ثمة سؤال آخر أظنني أستطيع الإجابة عنه: لماذا هذا الاحتشاد الكبير لاستعادة أمل دنقل في ذكراه كل عام؟


في ميدان التحرير جاءت الإجابة تحريرية وشفوية، فالثوار العشرينيون الذين ولدوا بعد موت أمل دنقل لم يجدوا غير شعره يرددونه في لحظتهم العالية، وكنت أراهم في حلقات السمر الليلية يستحضرون قصيدته، أغنية "الكعكة الحجرية" ويقرأونها:

دقّتِ الساعةُ القاسية

كان مذياعُ مقهىً يُذيع أحاديثَه البالية

عن دُعاةِ الشَّغَبْ

وهمُ يستديرونَ

يشتعلون على الكعكة الحجرّية حول النُّصُبْ

شمعدانَ غضبْ

يتوهّجُ في الليلِ

والصوتُ يكتسح العتمةَ الباقية

يتغنّى لليلةِ ميلادِ مصرَ الجديدة


لذا استحق أمل دنقل أن يكون شاعر الثورات العربية بلا منازع، واستطاع شعره أن يسكن حنجرة الثوار وفؤادهم، وثمّة قوسان كبيران يحيطان التجربة السياسية لشعر أمل دنقل، القوس الأول شعره العاطفي الذي ضمه ديوانه "مقتل القمر"، والذي يمثل البدايات الشعرية له، وإن كان ترتيب صدوره  الثالث بعد ديوانيه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و"تعليق على ما حدث"، وهي القصائد التي كتبها في أوائل الستينيات، أي أنه كان في العشرينيات من عمره، والمدقق في هذه القصائد سيرى أنها تتمتع بفنية عالية لا تتأتى إلا للمتمرسين، وظني أن هذه القصائد، خاصة القصائد العمودية، قد ظُلمت كثيرا بتعمد عدم الالتفات إليها، على ما تحمله من فنيات شديدة الخصوصية:


قد دخلنا لم تنشر مائدة

نحونا لم يستضفنا المقعدان

الجليسان غريبان فما

بيننا إلاّ ظلال الشمعدان

أنظري قهوتنا باردة

ويدانا حولها ترتعشان

وجهك الغارق في أصباغه

وجهي الغارق في سحب الدخان

رسما ما ابتسما في لوحة

خانت الرسّام فيها لمستان

تسدل الأستار في المسرح

فلنُضئ الأنوار إن الوقت حان

أمِن الحكمة أن نبقى سُدى

قد خسرنا فرسينا في الرهان


     أما القوس الثاني فيتمثل في هذه القصائد الإنسانية العذبة الصافية التي مثلت المرحلة الأخيرة من حياته، والتي ضمها ديوانه الأخير "أوراق الغرفة 8"، فقد أضفت هذه القصائد على تجربته بعدا فلسفيا وعمّقت رؤيته للكون، حيث كتبها أمل دنقل في لحظات حرجة يصعب على الإنسان العادي مجرد تخيلها لا معايشتها، حيث لازمه المرض الخبيث لأكثر من ثلاث سنوات، صارع خلالها الموت دون أن يكفّ عن الشعر ليجعل هذا الصراع، على حد تعبير الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، بين متكافئين: الموت والشعر، وقد بلغت هذه القصائد درجة من الفنية والإمتاع ما جعل كثيرا من النقاد والشعراء والمتابعين يرون أنها الأفضل والأبقى في تجربة الشاعر.


الطيورُ.. الطيورْ

تحتوي الأرضُ جُثمانَها في السُّقوطِ الأخيرْ

والطُّيُورُ التي لا تَطيرْ

طوتِ الريشَ واستَسلَمتْ

هل تُرى علِمتْ

أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ قصيرْ?

الجناحُ حَياة

والجناحُ رَدى

والجناحُ نجاة

والجناحُ.. سُدى


     في حاجة نحن لاستعادة أمل دنقل بين الحين والحين، ففي استعادته استعادة لكل القيم التي كان يمثلها وكان يتمثلها في شعره المتنبئ الخالد الباقي الجميل.


    الاكثر قراءة