الأحد 19 مايو 2024

تأملات في الأبعاد الثقافية لجائحة كورونا

فن20-10-2020 | 20:53

وسط هذا الوابل من الأحداث التي تهز العالم في جهاته الأربع، مما أحدثه، ومما يحدثه وباء كورونا، جاءتني دعوة الأستاذ خالد ناجح، الكاتب المثقف المحترم ورئيس تحرير مجلتنا الثقافية العريقة "الهلال"، للمشاركة في ملف تُعِده المجلة عن الأبعاد الثقافية التي يمكن استجلاء ارتباطاتها بجائحة كورونا، والحق أنها دعوة ثمينة رأيتها توفر سانحةً مقدَّرة لأن ينزِع الواحدُ منا نفسَه من هذا الانخراط في الوابل اللحظي إلى ركنٍ من الوقت يحاول فيه أن يتأمل قليلًا، وأن يزيح من أمام عينيه كثيرًا من الغبش، ليستكنه ما وراء هذه الجائحة من آثار محتملة، قريبة أو على المدى البعيد، وبخاصة على الصعيد الثقافي. 


ولأن الأبعاد مترامية متشابكة، والحدث ما يزال في سخونته، بل في عَماءٍ كثيفٍ من أسبابه والتباسات جريان حركته، فسأعمَد إلى تخيل أمرٍ قد يكون ذا جدوى في وضع تأطيرٍ وحدودٍ لما يمكن مقاربته في هذه المقالة المحكومة بحيزِها وسياقِها، ومن ثم فقد افترضتُ أن جهةً ما ستنظم مؤتمرًا أو ندوةً لها عنوان قريب من العنوان المقترح لملف المجلة؛ وذلك كأن يكون مثلًا: (الأبعاد الثقافية الملازمة والمتوقعة لآثار جائحة كورونا)، وهنا طرحت السؤال الآتي: كيف يمكن أن يكون تفكير تلك الجهة المنظِّمة لهذه الندوة بخصوص اقتراحِ محاورها التي ستطرحها على الباحثين والمفكرين لكي يدلوا بمشاركاتهم؟ ووضعت نفسي نائبًا عنها لأقول إن كل محور لا بد أن يجسد أحدَ الأبعاد الثقافية المتصورة لتلك الجائحة. ولكن لكي لا أقع في اتساع دوائر المحاور فسأكتفي بخمسة فحسب أصوغها على النحو الآتي:


من أين يأتي العلاج؟: صراع العلم والدين


صراع البقاء والإحياء: الرأسمالية والشيوعية وبينهما طازج العولمة


من أخلاق الأزمة القائمة إلى أزمة الأخلاق المستقيمة


بعيدًا عن حضور المرءِ والمرئي:  تعليم ما بعد الأبنيوية: من الانتظام إلى الانتساب


تحقيق التزييف وتزييف التحقيق: وباء الشاشات: ثقافة الألف سبب والألف علاج والموت يسخر.


وسأحاول فيما يأتي أن ألقي – وفقًا لتصوراتي المتواضعة - قدرًا من الضوء الذي أرجو أن يمكّن من رؤية بعض الأركان والزوايا والعلاقات في كل محور. 


من أين يأتي العلاج؟: صراع العلم والدين


لأننا نحن البشر نفكر بالاستعارات – هكذا تقول الإدراكيات- فقد رسمَتْ كلُّ جماعة – وفقًا لمرجعياتها الثقافية- صورة لفيروس كورونا، وبطبيعة الحال فإن كل صورة تشير إلى معنى معين، وتكرّس تمثيلًا إدراكيًّا لأغراضٍ تتوافق ورؤيةَ أصحابها المتداولِين لها، أو تنطلق من منابعهم الأيديولوجية. وفي هذا السياق تنبثق أمامنا الاستعارة الإدراكية (الفيروس= شيطان). وهذه الاستعارة- ولها تاريخ قديم ممتد كما نجد مثلًا في وصف مصطفى محمود لمادة الفيروس لحظة ملامستها لخلية حية  بقوله إنها (تتحول إلى كائن شيطانى يطعن الخلية)- أقول: هذه الاستعارة هي ما دار مع جائحة كورونا عند الجماعات الثقافية ذات المرجعية الدينية. وقد تفرع منها تنويعات كثيرة مستمدة من السجل اللغوي لهذه المرجعية؛ فوجدنا (الفيروس= لعنة) و(الفيروس = عقاب) و(الفيروس= عدوّ)...إلخ. 


وبطبيعة الحال فقد كرس خطاب هذه الاستعارات للتبشير بأن الفيروس يمكن هزيمته بالإيمان بالله، وبالدعاء والصلوات. والملاحظ أن هذا الخطاب لم يقتصر دورانه على جماعات في مجتمع معين، متقدم أو متأخر، فأنت تستطيع أن تجده في أمريكا، لدى رجال دين كالقس رودني براون وغيره ممن رفضوا حتى الالتزام بإغلاق كنائسهم استجابة لتعليمات (المسافة الاجتماعية)، كما تستطيع أن تجده في كينيا، لدى مدّعي النبوة أوورOwuor الذي قال إنه هو من أَرسَل الفيروس عقابًا لأن العالم لم يتقبل إنجيلَه المزعوم. وبطبيعة الحال يمكن أن نجد موازيات لذلك من ممارسات هذا الخطاب نفسه لدى جماعات أو مجموعات أو أفراد في بيئات عديدة من المجتمعات الإسلامية. وما حديث واقعة الإسكندرية ببعيد.


وهنا تستعيد قضية الصراع بين العلم والدين زخمَها من جديد، وأمام مجريات يُحدِثها الوباء على أرض الواقع؛ وبخاصة على امتداد الفضاء الديني؛ كقضائه مثلًا على عدد من القساوسة في إيطاليا، وكأخذه نقطةَ انتشاره من (قم) المدينة المقدسة الإيرانية إلى بقية مدن إيران وسبع دول مجاورة على الأقل... إلخ فإن قضية الصراع هذه تكتسب من سياقات هذا الوباء أبعادًا جديدة. 


ومن ذلك مثلًا نشوء صراع في الاستحواذ على مفهوم (المناعة): هل هو مفهوم صحي بيولوجي طبي، أم أنه مفهوم ديني إيماني لا يتصف به الأشخاص فحسب، وإنما تتصف به الأماكن أيضًا؟! (في إيران مثلًا اعترض خامنئي والمؤسسة الدينية على توصيات وزير الصحة الطبية، ومنها إنشاء حجر صحي في مدينة (قم)، وكان الاعتراض قائمًا على أن المدينة ذات (مناعة) تحميها ذاتيًا! ووصل الأمر إلى حد تشجيع الناس لزيارة ضريح السيدة فاطمة في المدينة نفسها للصلاة من أجل حدوث المعجزة بشفاء المرضى!). 


كذلك مما بات مطروحًا بإلحاح لمواجهته بثقافة مغايرة تلك المفاهيم الممتدة لما يسمَّى بـ(الشفاء الروحي)، وما يكمن وراءه من خطاب المعجزة الخارقة الذي جاءت جائحة كورونا لتعَرِّيَه وتكشفَ عن عجزه أمام اجتياح الموت بالفيروس، وكأن البشرية اليوم باتت على أعتاب انكشاف حقيقة العلل الحقيقية لترويج المتاجرين بالعقائد وتكريسهم لنزعات عوام الناس ضد العلم والاكتشافات العلمية. 


إن أعماق الناس اليوم تهتف: متى أيها السيد/ العلم تصل إلى المصل أو العلاج؟! ولكن أمر الجائحة لا يقتصر أثره على صراع المفاهيم، وإنما يمتد إلى النظر للممارسات الشعائرية الدينية: هل يكون من منظور الآثار التي يحددها العلم؛ فيوصي بمنع الممارسات الجماعية في دور العبادة نظرًا لمخاطرها طبيًّا؟ أم من منظور الدين المعين الذي يراها فروضًا وطاعات ودلائل إيمانية؟ (إد كيلجور) أحد كتاب الأعمدة في مجلة نيويورك يقول إن جائحة الفيروس ستختبر الشعائر الدينية المنظمة، ونتيجة لذلك يمكن أن يبدأ الناس - بمجرد انتهاء الجائحة - في مشاهدة الطقوس الدينية المزدحمة بارتياب، وقد يؤدي ذلك إلى ممارسات إيمانية أكثر فردية. 


صراع البقاء والإحياء: الرأسمالية والشيوعية وبينهما طازج العولمة:


ثمة سؤال بات مطروحًا بقوة وهو عما إذا كان وباء كورونا سيضعف ديناميات العولمة أم لا، وكالعادة في أي طرح ثقافي أو معرفي حول مشكلة مركبة، أو إشكالية معقدة، نجد للسؤال على الأقل إجابتين كلٌ منهما في طرف، وهذا ما ينطبق على سؤالنا حيث نجد في الطرف الأول مَن يقول إن جائحة كورونا هي "مسمارٌ في نعش المرحلة الحالية للعولمة"، وهذا الرأي هو ما ذهب إليه الاقتصاديُّ البريطاني (فيليب ليجرين) صاحبُ كتاب (الربيع الأوروبي) الذي طالب فيه أوروبا بالإصلاح الاقتصادي والسياسي، ولقد جاء رأيه هذا في مقال له تحت عنوان (The Coronavirus Is Killing Globalization as We Know It فيروس كورونا يقتل الرأسمالية كما نعرفها) في مجلة (foriegn policy,March 12, 2020).. ومن بين ما استند إليه ليجرين إغلاقُ بعض الدول حدودها للحد من انتشار الوباء والحماية من انتقال العدوى. وفي بحث مشترك تحت عنوان (Is Globalization Responsible of the Wuhan-COVID-19 Worldwide Crisis?= هل العولمة مسئولة عن أزمة فيروس ووهان العالمية؟) يصل أصحاب البحث إلى نتيجة مفادها أن العولمة هي المسئول الرئيسي عن الانتشار السريع وغير القابل للإيقاف للفيروس على مستوى العالم، ومن ثم يقترحون ضرورة إصلاح عميق للعولمة لتجنب أي أمراض وبائية معدية ضخمة كحالتنا مع فيروس كورونا. وتتعلق هذه الإصلاحات المطلوبة في مشكلات كثيرة منها أنظمة النقل وضعف معايير الرقابة الصحية وتحرير التجارة الحرة وحركة العمالة ...إلخ. والناظر في مقترحات هذا البحث يصل إلى استنتاج واضح أن ثمة علاقات وثيقة بينها وبين ما يثار من حديث عن أن وباء كورونا فجّر نقائصَ الرأسمالية وفضحها على الملأ، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن تلك التحليلات التي يقدمها مَن يُطلَق عليه أنه ( أخطر فيلسوف سياسي في الغرب حاليًّا)، وأعني به الفيلسوف السلوفيني (سلافويجيجيكSlavoj Žižek).


يرى جيجيك أن فيروس كورونا جاء ليقول "اقتُل بيل". و(بيل) هذا هو الرأسمالية، ومن ثم فإن البديل الذي يرى جيجيك أنه سيحل محل الرأسمالية هو إعادة اختراع الشيوعية، والحِجاج الذي يسلكه جيجيك يبدأ من أن ترويج الوهم بأن الفيروس جاء نتيجة لما فعلته النساء الصينيات المسنات القذرات في ووهان، اللواتي يسلخن الثعابين الحية ويشربن حساء الخفافيش، إنما هو صادر عن جنون عظمة عنصري Racist paranoia، أما حقيقة الأمر فهي تكمن في أن هذا الوباء ما كان ليتفشى على هذا النطاق العالمي لولا تطورنا التكنولوجي المتمثل في (السفر الجوي)، فلو أن هذا الفيروس ظهر قبل قرن من الزمان، لكان قد مرَّ دون أن يلاحظه أحد. والخلاصة التي يقررها جيجيك هنا أن هذا التطور التكنولوجي جعلنا أكثر استقلالية عن الطبيعة وفي الوقت نفسه، وعلى مستوى مختلف، جعلنا أكثر اعتمادًا على نزوات الطبيعة. وما لم ندرك - في مواجهة مثل هذه النزوات المحتمل تكرارها في ظل نطام الرأسمالية الحالي- أن هناك حاجة ماسة إلى تضامن كامل غير مشروط، وإلى استجابة منسقة على الصعيد العالمي؛ أي إلى شكل جديد مما كان يسمى (الشيوعية)، فلن نستطيع مواجهة ما يستجد من جائحات. وهنا يؤكد جيجيك أنه لا يتحدث عن (الشيوعية) بطرازها القديم. إنه يتحدث عن ضرورة استحداث نوعٍ من المنظمات العالمية التي يمكنها التحكم في الاقتصاد وتنظيمه، وكذلك يمكنها الحد من سيادة الدولة القومية عند الحاجة. 


عندما اندلعت جائحة كورونا استيقظت الأخلاقيات الحيوية على وجود فراغ كبير في مقارباتها لقضية أخلاقيات المرض المعدي infectious disease. وعلى الرغم من أن الشكوى من هذا الفراغ كانت قائمة قبل هذا الاندلاع – كما يدل على ذلك ما ذكره فيلسوف الأخلاق والأخلاقيات الحيوية الأمريكي ميشيل سيلجيليدMichael J. Selgelid في بحث له عام 2002م- إلا أن جائحة كورونا جاءت لتعري عوارًا كثيرًا في عدم التضمين الكافي داخل الأخلاقيات الحيوية للتحديدات النظرية وللإجراءات العملية التي ينهض على أساسها الإعمال الفعلي على أرض الممارسة والواقع للالتزامات الأخلاقية فيما يتعلق بكارثة المرض الوبائي، وبخاصة ما يتعلق بتطوير نظرية الالتزامات الأربع: احترام الاستقلالية، والإحسان beneficence، وعدم الإيذاء nonmaleficenc، والعدالة، بما يتسق واهتمام هذه الأخلاقيات بكرامة الإنسان، وبقدسية الحياة، وبما يعدل من الآثار السلبية لتلك القيم. فعلى ضوء جائحة كورونا تكشف مثلًا عوار قيمة (الفردية) التي رسختها الثقافة التقليدية الأمريكية؛ ومن ثم يمكن الآن أن تكون الحسرة مشروعةً في أن العالم لم يسمع القائد السنغافوري لي كوان لي وهو يصرخ منذ عام 2003م قائلًا: "إن التوسع الغربي لِحَقِّ الفرد في التصرف، وسوء التصرف، كما يحلو له، يجيء على حساب المجتمع المنظم". وقد يتجلى مصداق ذلك عندما نجد أن ثمة مشكلة حقيقية باتت ظاهرة إذا قمنا بتطبيق مبدأ حق الفرد في التنقل – وهو أحد الحقوق الإنسانية الأساسية للفرد-على الفرد المصاب.


ولا يقف تأثير جائحة كورونا عند هذا البعد الذي تواجهه فلسفة الأخلاق الحيوية فيما يرتبط بحقوق الإنسان، وإنما لدينا أيضًا أن هذه الجائحة تكشف آثار النسبية المفرطة في ذلك التشكيك الفلسفي الذي طرحته قامات كبرى في تاريخ الفلسفة الحديثة - مثل ماركس، ونيتشه، وديريدا- في إمكان وجود التزامات أخلاقية عالمية. ولكن لدينا في الوقت نفسه الاكتشاف الأخطر وهوأن فكرة تعميم (أخلاقية عامة) تواجه مشكلة في تحديد ماهيتها. فمثلًا العالَم الآن وبعد الجائحة لم يعد لديه شك بعدم صلاحية أخلاقية عامة كتلك التي تنشأ عن رؤية فوكاياما (1992) عندما ذهب إلى أن أخلاقيات الديمقراطية الليبرالية هي الذروة التي انتهى إليها تاريخ الحكومة البشرية. هذه الفكرة باتت تواجه مأزقًا حقيقيًا مع الفشل الذريع لهذه الأخلاقيات في مواجهة كورونا في بيئاتها الحاضنة لها؛ وهي بيئة مجتمعات الليبرالية الغربية.


ومن ثم فها نحن الآن أصبحنا على جملة من مطارق الأسئلة التي تقرع بوابة هذه الأخلاقيات الحيوية. ما الذي يمكن أن يترتب أخلاقيًّا على الحالة القائمة التي فرضها فيروس كورونا على البشر:ما الذي ينتج: عن تجربة العزلة الذاتية والمكث في المنازل كل وقت الحظر والحجر الذاتي؟، وعن ممارسة أعمالنا من خلال أجهزة الحاسوب الخاصة بنا؟


وعن التواصل من خلال مؤتمرات الفيديو؟


وعن القيام بالتمارين على أجهزة اللياقة البدنية داخل جدران المنازل؟


وعن عدم فتح أبوابنا لأصدقاء أو لضيوف وأحيانًا حتى لعاملة النظافة..إلخ؟ 


ثم: 


ما الآثار الأخلاقية المترتبة على ذلك الربط المتكرر - في تصريحات الأطباء وعلى ألسنة الإعلاميين- بين ارتفاع احتمال الإصابة والتقدم في السن؟


وكيف تتشكل العلاقة بين الأهل وجسد الشخص المتوفى عن إصابة بالفيروس؟ وخصوصًا بين الأبناء والآباء؟ 

وإلى أي حد ستستمر معنا أخلاقيات الاستجابات لأزمة الفيروس ما بين قطبي (الإيثار النادر) و(الأنانية الطاغية) على المستوى الفردي والجماعي؟


وما النسبي الثقافي؟ وما العالمي الكوني؟ في أخلاقيات التعامل مع آثار الوباء من ضحايا ومن تشكيل علاقات اجتماعية؟


إنها الأسئلة الأخلاقية الملحة في عصر ما بعد كورونا.


بعيدًاعن حضورالمرءِ والمرئي:  تعليم ما بعد الأبنيوية: من الانتظام إلى الانتساب

أثبتت الدراسات الإدراكية أن المعرفة ظاهرة مرتبطة بالموقفsituated؛ بمعنى أنها جزء من ناتج النشاط والسياق والثقافة التي تنمو وتُستخدم فيها هذه المعرفة. وهنا نتساءل: ماذا يعني الانتقال من (ثقافة الوجود المدرسي المباشر) - حيث ينخرط كل أعضاء الجماعة المدرسية فيما يسمى المشاركة الإدراكية cognitive engagement ؛ أي ينخرطون في الشعور بأنهم ينتمون إلى هذه الحياة المدرسية، ويدركون مُمكناتها، ويسهمون ويشاركون بأدوار تكاملية مختلفة في فاعلياتها وأنشطتها- إلى (ثقافة التعلم من بعد) حيث ثمة عاملين فعالين في التعلم يصبحان خارج التأكد، أو بالأحرى: خارج إمكان التغذية الراجعة للتأكد: التفاعلية interactivity، والمشاركة engagement.؟


هذا السؤال البالغ الأهمية فرضته جائحة كورونا عندما اتخذت الدول قراراتها بوقف العملية التعليمية من خلال أدواتها الرئيسية: حجرة الفصل، وقاعة المحاضرة، وغرفة المعمل، وذلك لتحجيم احتمالات العدوى بالمخالطة، وبدأت كل دولة – وفقًا لإمكاناتها وبناها التقنية - في ممارسة أشكال مختلفة للتعليم عن بعد. والقضية هنا ليست في حساب أفضلية مسلكٍ تعليمي على آخر، وإنما في أن هذا المسلك التعليمي الطارئ بالتواصل التقني الشبكي يحتاج إلى تهيئة ثقافية واجتماعية وإدراكية لدى أطراف العملية التعليمية جميعًا، ولا تزال معرفة المزايا ونقاط القصور في هذا النمط التعليمي غير واضحة وغير محددة. 


ولذلك نقول إن ما أحدثته جائحة كورونا أنها دفعت الحكومات إلى هذا المسلك دون أن يكون هناك التهيئة الكافية والإعداد اللازم له، والأمر المؤكد هو أننا إزاء موقف لا ندري كم سيستغرق من الزمن لكي نستبدل ثقافة تعليمية بثقافة تعليمية. 


غير أن غلق أبنية التعليم ليس وحده ما يمارس آثارَ غلق الرؤية البصرية المباشرة، أو بالأحرى آثار عدم الانتقال إلى أبنيةِ ثقافةِ الرؤية البصرية المباشرة. فهناك غلقُ أبنية الفنون أمام روادها وجمهورها الرائي: دُور السينما، ودُور المسارح، ودُور المتاحف. وهناك غلق أماكن ممارسة الرياضة: مدرجات جمهور الملاعب. فما أثر كل ذلك على الثقافة البصرية؛ ثقافة التفاعل المباشر مع المرئي؟ لقد أظهرت الإدراكيات بوضوح أن ثمة فروقًا بين أن ترى تفاحة حمراء وأن تفكر فيها أو أن تتذكرها أو أن تشتهيها !


تحقيق التزييف وتزييف التحقيق: وباء الشاشات من ألفِ سببٍ إلى ألفِ علاج والموت يسخر.


في عام 1986م نشر أمبرتو إيكو كتابه «الإيمان بالزيف» وفيه وجّه نقدًا قاسيًا للثقافة الأمريكية وهوسها بالواقع المصطنع إلى الحد الذي يشير إلى أن حرفة التزييف تجاوزت في بعض الحالات الواقعَ نفسه، قد نتذكر هذا الكتاب اليوم ونقول تلك نبوءة مثقفٍ رأى، ومع ذلك فإننا إزاء جائحة كورونا نقول: إن حجم ما رآه إيكو آنذاك هو- يقينًا- لا يقاس بحجم ما نراه الآن على الشاشات. 


 شيئًا فشيئًا تتحول صور الوباء على شاشات وسائل التواصل الاجتماعي وفضائيات التلفزة إلى وباءٍ مواز منهمر يأخذ بالعيون والألباب، فلا تكاد العقول تتريث لتُعقلن ما ترى أو تُمنطق مضمونه. وهذا ما دعا أحد الكتاب إلى أن يعقد مقارنة بين المفردتين اللتين يجمعهما في الإنجليزية نوع من الجناس؛ وهما virality وvirology؛ الأولى تشير إلى التفاعلية؛ أي نسبة المشاركة على صفحات وحسابات وسائل التواصل، والثانية تشير إلى علم الفيروسات. 


وبطبيعة الحال فإن هذا السيل المنهمر من الصور والمعلومات والقصص التي تعرض وقائع وأحداثًا درامية- فجائعية أحيانًا- لا يخلو – بل لا يكاد يخلو- من شطحات وفبركات وتمويهات وأباطيل وتكييفات أيديولوجية أو عنصرية أو سياسية، ولعل هذا ما دعا الإثيوبي تيدروسجيبريسوسTedros Ghebreyesus مدير عام منظمة الصحة العالمية إلى أن يقول محذرًا "قد تكون المعلومات الخاطئة عن الفيروس التاجي أكثر الأمراض المُعدية"، ويستلفت النظر أن هذه المعلومات الخاطئة والمضللة آتت اشتغالاتها القصوى في منطقتين هما المنطقتان العمياوان في حدث الجائحة: منطقة أسبابها، ومنطقة علاجها. ولأنه ما أكثر الأشياء التي تَدَّعي العيونُ رؤيتها في الظلام حين تكون عاجزة عن الرؤية في النور فقد كانت هاتان المنطقتان فضاءً لعمل ثقافة التزييف من جهتين:


 جهة سرديات المؤامرة بخصوص سبب الوباء، وجهة أخبار السبق ودغدغة المشاعر القلقة بجزع،والخائفة بهلع، بخصوص علاج الوباء. ومع ذلك فلا يمكن إنكار أن شاشات وسائل التواصل والتلفزة هي المصادر التي يستقي الناس منها المعلومات والأخبار، بل إن هذه الوسائل كثيرًا ما استقطبت الناس على حساب ثقتهم في ما يقوله مسئولوهم، ومن ثم أصبحت هذه الشاشات في آن واحد بؤرة لاجتماع النقيضين: الصدق والكذب؛ الأمر الذي يقوّض قاعدة منطقية يعود بدءُ عُمرِها في الإدراك المنطقي الإنساني إلى زمن أرسطو على الأقل عندما قال إن النقيضين لا يجتمعان.


 وهكذا بدأت تحليلات الفيلسوف الفرنسي بورديار تجد تجلياتها أشدَّ ما تكون وضوحًا على مسرح عالم الجائحة، فنحن في عالم جائحة كورونا ننغمس في جائحة أخرى لا تقل فتكًا؛ هي جائحة الصور والرموز واللغة التي لا نعرف، وليس لدينا وسيلة لنتحقق أو لنعرف، ما إذا كان لها أصل أو حقيقة. نحن نستهلك الصور وتستهلكنا الصور التي استقلت بواقعها، أو التي تجيء قبل واقعها فتخلقه لتتجاوزه في لعبة جهنمية تدور رحاها، لعبة جهنمية جاء فيروس كورونا ليفضحها ولكن بشرط تقاضيه ذلك الثمن الباهظ: أن يدفع العالَم بيولوجيًا – وهذا خط الدفاع الأخير لدى الإنسان- ما كان يُراد له ويُخطَّط أن يدفعه سياسيًا.