الأحد 5 مايو 2024

ظواهر التجديد فى القصيدة الحديثة

فن21-10-2020 | 10:04

يمكن القول إن هاجس التجديد لم يفارق الشاعر العربى منذ العصر الجاهلى ولعلنا ما زلنا نذكر قول زهير بن أبى سلمى " ما أرانا نقول إلا معارا أو معادا من قولنا مكرورا " معلنا رفضه لهذا التكرار والاجترار لأقوال السابقين، وتساؤل عنترة بن شداد التعجبى " هل غادر الشعراء من متردم؟"، وكانت قصيدة "الصعاليك" ظاهرة تجديد بامتياز حيث تخلت – غالبا – عن المقدمات الطللية، وعرفت وحدة الموضوع فى ذلك الزمن المبكر، وفى العصر الأموى كانت ظاهرة الغزل العذرى روحًا جديدة فى الشعر العربى، حيث لم تكن بمثل هذا الحضور من قبل؛وفى العصر العباسى بدأت معركة القدماء والمحدثين وكان بشار بن برد يلقب برأس المحدثين وبدأت الثورة على عمود الشعر والمقدمات الطللية التى سخر منها أبو نواس واستبدل بها المقدمات الخمرية.

أما قصة التجديد فى العصر الحديث فلها شأن آخر، فمنذ القصيدة الإحيائية إلى ما يعرف الآن بقصيدة النثر مر الشعر العربى بخمسة اتجاهات رئيسية هى : شعر الإحياء والرومانسى والتفعيلة وأخيرا قصيدة النثر، ولم يكن عجيبا أن يتعامل البعض مع قصيدة الإحياء بوصفها ضربًا من التجديد لأنها ثارت على تراثها القريب فى العصرين المملوكى والعثمانى ورجعت إلى عصور ازدهار الشعر، على أن أهم ما ينبغى الالتفات إليه فى قصيدة النثر هو اختراعها لأوزان جديدة، ففى قصيدة البارودى التى يقول فى مطلعها " املأ القدح / واعص من نصح " نجده يستخدم تفعيلتى " فاعلن فعل " وهو ما فعله شوقى أيضا فى قوله " مال واحتجب / وادعى الغضب " أما قوله " طال عليها القدم / فهى وجود عدم " فقد علق عليه إبراهيم أنيس بقوله " التزم شوقى فى كل شطر بوزن (مستعلن فاعلن ) وهو ما لم يقل به أهل العروض فى كتبهم إلا إذا عد ذلك من مشطور البسيط الذى عده الثقات من أصحاب العروض شاذا لا يعول عليه ".

وتأتى الخطوة الأكثر تحررا مع مدرسة الديوان حين نقرأ مثلا قول العقاد " شبران من هذا البناء / بينى وبين المال والدنيا العريضة والثراء / ليس بأقصى فى الرجاء " ومع أبوللو نجد دعوة صريحة إلى الشعر الحر على يد أحمد زكى أبى شادى ويعنى به " الجمع فى القصيدة الواحدة بين أكثر من وزن " وقد فعل ذلك فى قصيدته " مناظرة وحنان " من ديوانه " وحى العام " وهو لم يتنقل فيها من وزن لآخر إلا مع الانتقال إلى معنى جديد وفى عدد أبريل عام 1933من مجلة أبوللو يدعو إلى ما يقترب جدا من مفهوم شعر التفعيلة حين يقول " الشاعر الحر يرمى إلى تعزيز الفطرة السمحة فهو يقدم نظما يتفق وما تقتضيه ظروف النظم من إطالة أو اختصار ومن تقفية أو إرسال حسب ما يوجهه ذوقه " ثم تتوالى جهود محمد فريد أبى حديد وعلى أحمد باكثير الذى اعترفت نازك الملائكة بتأثيره عليها ، ومحاولة لويس عوض فى " بلوتولاند وقصائد أخرى " ثم قصيدة " من أب مصرى إلى الرئيس ترومان " لعبد الرحمن الشرقاوى.

ولسوف نخطئ كثيرا لو ظننا أن حركة الشعر تمثل تيارا واحدا حيث بدأت منقسمة على نفسها من خلال تيارين الأول تمثله جماعة " شعر " اللبنانية ومن أهم شعرائها أدونيس وأنسى الحاج ويوسف الخال، وقد رفض هذا التيار وظيفية الشعر ورأى أنه لا غاية للإبداع إلا الإبداع، أما الثانى فقد تحلق حول مجلة " الآداب " ومن شعرائه السياب وصلاح عبد الصبور وحجازى ودنقل وعفيفى مطر بالتزامهم بدور الشعر الاجتماعى والسياسى، ومع جيل السبعينيات تكونت جماعتان شعريتان هما : إضاءة وأصوات وأصبحت هناك درجة من السيادة لمقولات التيار الأول الممثل فى جماعة شعر، واتسمت أغلب القصائد بدرجة من الغموض وافتقاد التواصل مع المتلقى وهو ما حاول جيل الثمانينيات استعادته، ثم جاء جيل التسعينيات الذى شاعت فيه قصيدة النثر بلغتها التداولية واهتمامها باليومى والهامشى وتأثرها فى البداية بنموذج القصيدة اللبنانية حتى بدأت محاولات تمصيرها.

أما عن اللحظة الراهنة فيمكن القول إنها تشهد ما يسمى بتجاور الأشكال دون أن يستطيع شكل إزاحة الآخر، وأصبح الجميع مؤمنين بتعدد الشعر، ومن هذا المنطلق نجد شعراء يكتبون القصيدة العمودية بروح حداثية مثل أحمد بخيت وإيهاب البشبيشى، وقصيدة التفعيلة مثل حجازى وأحمد عنتر وحسن طلب ومحمد سليمان وحسين القباحى وصلاح القانى، وقصيدة النثر مثل محمود قرنى وإبراهيم داود وعاطف عبد العزيز وعلى منصور، وأعتقد أن هذا هو الوضع الصحى فلكل شعرية جمالياتها، فلغة الإقصاء لم تعد ملائمة فى عصر السماوات المفتوحة، وأخيرا يجب تأكيد أن التطور قد طال كل شىء : اللغة والخيال ومفهوم الشعر والشاعر، فانتقل الشعر من نظرية المحاكاة التى كانت تحكم قصيدة الإحياء ونظرية التعبير الرومانسية إلى نظرية الانعكاس مع المذهب الواقعى والانتقال من شاعر الأمة عند شوقى إلى الشاعر النبى عند الرومانسيين إلى الشاعر الفرد البسيط عند الواقعيين، كما انتقلت القصيدة من الطابع الشفاهى إلى الكتابى الذى يخاطب العين مستفيدا من تشكيل فضاء الصفحة الشعرية.

وبإيجاز يمكن القول إن القصيدة قد انتقلت من الإنشاد إلى النقش البصرى طبقا لتسميات رولان بارت.