الأحد 5 مايو 2024

أحمد القرملاوي يكتب: «أحمد مراد».. قبل محطة الوصول

فن21-10-2020 | 21:55

بقلم أحمد القرملاوي

عادةً ما تُذكَر قصصُ النجاح باعتبارها أنجع وسيلة لإلهام الآخرين؛ لتحفيزهم على بلوغ المثال الناجح المُلهِم، وربما التفوق عليه.. لِمَ لا؟!. ما دام استطاع هو تحقيق هذه المكانة، فلماذا لا تستطيع أنت؟! ماذا ينقصك لكي تكون مثله؟! أنتَ لا تقل موهبةً ولا قدرة، فقط ينقصكَ التصديق، والإرادة. أراهن أنك سمعتَ الكثير – مثلي - من هذا الكلام الـمُرسَل المنعِش، كلام أشبه بالكريمة المخفوقة المُحلّاة، التي يُضيفونها فوق أي مشروب رخيص المكونات، فترتفع به إلى مصافّ قهوات كاريبو الغنية الدسمة. ويوم تشرع في تطبيقه تجد الأمر مُغايرًا تمامًا لما تَمَنَّيْتَه؛ فلا النجاح في المُتناول بهذه البساطة، ولا الإرادة تعود عليكَ إلّا بمزيد من التجهُّم.

أذكر أنني - مع أول قدم أضعها في عالم النشر - التقيتُ بأحد هذه النماذج البراقة المُتوهِّجة: أحمد مراد، اسمٌ مُنَغَّمٌ أنيقٌ، يتصدَّر غلافًا مُصَمَّمًا بعناية تفوق أغلب أفيشات الأفلام، وعلى الغلاف الخلفي صورة لشاب حليق الرأس، يضع نظارة لافتة، وينظر إلى عينيك مباشرةً، كأنما قد استحوذ عليكَ مُسْبَقًا وانتهى الأمر. إنها الرواية الأكثر مبيعًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، عنوانها: "الفيل الأزرق". في كل جناح تمر به تجدها في الصدارة، سميكةً، مُغلَّفةً، مُغوِيةً، يثور الحديث عن نُسخها المزوَّرة التي تُباع بعشرات الآلاف، الجميع يقرأونها، يكتبون عنها المراجعات، ينتظرون حفل توقيعها، يصطفُّون في الطوابير منذ الصباح كي يفوزوا بتوقيع كاتبها، أو صورة تجمعهم به .. نجاحٌ مُدَوٍّ دون أدنى مبالغة.

كان ذلك في مطلع العام 2013، وفي العام نفسه فاز مراد عن أولى رواياته "فيرتيجو" بجائزة البحر الأبيض المتوسط للثقافة، وراح ينشر صوره الاحترافية في شوارع إيطاليا وأزقتها البديعة قبل تَسَلُّم الجائزة، كما أُعلن عن تعاقده على كتابة فيلم سينمائي ضخم مأخوذ عن روايته الأكثر مبيعًا يحمل ذات الاسم: الفيل الأزرق. نجاحٌ غير مسبوق، لم يكن مفهومًا ولا مُبَرَّرًا في نظر الكثيرين، لكونه غير مُؤَسَّسٍ على المعايير المتعارف عليها في أوساط "الفن الرفيع"؛ لذلك عَمَد البعض لأن يُدرج روايات مراد تحت تصنيف "البوب آرت"، كإجراء سريع يرفع الحرج عن النُّخبة الأدبية إزاء هذا النجاح المُدَوّي، ويُبَرِّرُ لهم الأمر على نحو مُريح، باعتبار أنه فَنٌّ شعبويٌّ، يعتمد الإثارة ودغدغة العواطف الشابة الناشئة؛ ما أراه تبريرًا مُجحفًا لدرجة بعيدة، فما قدَّمه أحمد مراد حتى تلك الآونة، كان نوعًا جديدًا من الكتابة الروائية، لم تَحْظَ به المكتبة العربية قبل تجربة مراد، نوع يستند إلى الدقة المعلوماتية، والكثير من البحث التاريخي والعلمي، نوع يُجيد تكوين المَشاهد وتصميم الحبكات، في تدفُّق شيِّق سريع الإيقاع.

ثُمَّ إنّ البوب آرت ليس تُهمةً على أي حال، وأتصور أن كتابة مراد تتَّسم ببعض ملامحه الإيجابية بالفعل، فالبوب آرت – تعريفًا - يُقصَد به الحركة الفنية التي ظهرَت في منتصف القرن الماضي، والتي عَمَدَتْ إلى التمرُّد والتهكُّم على الذائقة النخبوية المتعالية على جمهور المُتلقّين. بدأَت بصريةً في الأساس، ثم امتدَّ تأثيرها إلى موسيقى الخمسينيات والستينيات وما تلاها، فأنتجَت أغاني البوب التي حقَّقَت نجاحًا غير مسبوق، وسادَت أميركا وأوربا لزمن طويل. واستنادًا لهذا التعريف، يمكنني تسمية سيد درويش – على سبيل المثال - بين الآباء المؤسسين لفن البوب، فقد تمرَّد على الأنماط الموسيقية النخبوية التي كانت سائدة في زمانه، وأنتج فنًّا يرتكز على الثيمات الشعبية المنتشرة آنذاك، ووجد طريقه مُمَهَّدًا إلى وجدان الجماهير العريضة، وأسَّس منصة انطلاق لكل مَنْ لحِق به من الموسيقيين. لذا، فمن العجيب أن تُحمَل تجربةٌ كالتي قدَّمها مراد، تتمرَّد على الكتابة النخبوية، وتمنح اهتمامًا أكبر لذائقة القاعدة العريضة من القراء، أقول: من العجيب أن تُحمَل هذه التجربة على المَحْمَل السلبي فقط دون الإيجابي.

وقد تابعتُ مراد وهو يتصدّى بثباتٍ لمحاولة تصنيفه، وفي أكثر من حوار أُجري معه كان يرفض فكرةَ اتهام الكتابة الرائجة بالابتذال. كان يردُّ الهجوم بهدوء وثقة، مُنتقِدًا أولئك الذين يسكنون أبراج العاج ويُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء على ذائقة الجمهور. في الوقت نفسه تَوَاطَأَتْ معه الأحداث سريعًا، فأُدرِجَت روايته "الفيل الأزرق" في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية ذائعة الصيت، ما دفع به إلى مصافّ الروائيين أصحاب الأسماء اللامعة على المستوى الإقليمي، حيث نالَتْ تجربته اعترافًا مُهمًّا من كبرى لجان التحكيم في الوطن العربي.

في العام نفسه، قرر مراد خوض مضمار جديد يليق باسمه ككاتب مُتَمَرِّس؛ مضمار الرواية التاريخية، وكانت مغامرة من جانبه دون شك، لأن قاعدة القُراء العريضة التي شيَّد عليها مشروعَه الروائي حتى هذه المحطة، لم تكن مؤهلة لنُقلة من هذا النوع. وبالفعل، تلقّاها الكثيرون من قراء مراد المخلصين بفتور وقلة ترحيب، فقد خالف توقعاتهم ولم يُقدِّم لهم وجبة الغموض والإثارة الحريفة التي عوَّدهم عليها، وإنما قدّم لهم رواية تاريخية متعددة المسارات، غزيرة الشخصيات، تمزج بين شخصيات تاريخية معروفة بداخل البلاط الملكي وأروقة الأحزاب السياسية، وبين شخصيات في ساحات النضال وشوارعه المحفوفة بالصخب والعنف، وبين شخصيات مُتَخَيَّلَة مرسومة بدقة وبواقعية تناسب مطلع القرن العشرين الزاخر بالأحداث والتفاوتات الثقافية والاجتماعية.

ومن منظوري الشخصي، أرى أن هذه الرواية بالتحديد هي أفضل ما قدَّمه مراد على مستوى الكتابة، وأنها لم تنَلْ ما تستحقه من حفاوة القراء وتقدير المُختصّين، برغم ما بذله من أجل تقديمها في أفضل صورة، والدعاية لها بكافة الوسائل التي يُجيد التعامل معها ويتفوَّق فيها على أقرانه. ففي "1919" أجاد مراد على عدة مستويات فنية، ليس فقط في رسمه للشخصيات التاريخية والمُتَخَيَّلَة، بل في تصوير الحقبة الزمنية بتفاصيلها الدقيقة وأحداثها المتشابكة. كما أبرز مهارة لم ألحظها بهذا الوضوح في سابق أعماله، من حيث تطويعه للغة في أكثر من قالب، بحسب احتياجه ورؤيته الفنية، فتارةً يكتب بلغة ذات نكهة تراثية تستدرج القارئ للزمن المعنِيّ، وتارةً يستخدم لغة تقريرية مُقتصِدة توجِز بعض الأحداث التاريخية، أو لغة تصويرية مجازية ترسم المَشاهد وتُقدِّم الشخصيات. كما أراه قد أجاد تمامًا في صياغة المقاطع الحوارية بحسب مقتضيات الإيقاع والأحداث، بطريقة نقلَتْ روح الشخصيات وانفعالاتها، وليس فقط ما يجري في خواطرها.

إجادة مراد ليست وحدها ما جعلني أستغرب قلةَ احتفاء جمهوره برواية "1919"، بل أيضًا لاتساقها مع مساره السابق من حيث أدوات صناعة النص، فهنا - كما في السابق - يُوظِّف مراد مهارته البحثية ودقته المعلوماتية، وهنا أيضًا يسترجع حقبةً تاريخيةً ما، ويبني على وقائعها، وإن كان بدرجة أكبر بكثير من رِوَايَتَيْ "تراب الماس" و"الفيل الأزرق". هنا يواصل توظيفه الناجح للتشويق والإيقاع المتسارع، وكذلك لالتواءات الحبكة الروائية التي يُجيد اختيار مواضعها بخبرة ومعرفة، وإن كان منبع التشويق هنا ليس الغموض والإثارة كالمعتاد، بل تسارُع الأحداث وتعقُّدها في النصف الثاني من الرواية؛ تشويق بنكهة تتناسب مع أجواء رواية تاريخية، لا توغل بعيدًا في الخيال.

وقريبًا ستتواطأ الظروف ثانيةً مع مراد، ومع روايته التي لم تنَلْ ما أظنها تستحقه من إشادة النقاد والقراء، حيث يجري الآن تصوير فيلم سينمائي مأخوذ عن الرواية، هو فيلم "كيرة والجن"، الذي يتقاسم بطولته نجوم في لمعان كريم عبد العزيز وأحمد عز وهند صبري، إضافةً لما رصدَتْه شركة الإنتاج من ميزانية ضخمة تكفُل إنتاجه وفقًا لما يحلم به صُنّاعُه. ومع اقتراب طرح الفيلم في دور العرض، سيتهافت جمهور القراء على الرواية من جديد، وسط ظروف عامة تُعزِّز الحس الوطني، وتزيد من سُخط الكثيرين على ذيول الإمبراطورية العثمانية، وجميعها عوامل ستزيد من تعاطف الجمهور مع أبطال الرواية والفيلم معًا. وقديمًا قيل: "إن النجاح رحلة، وليس محطة وصول"، وأظن أن مراد يعي هذه المقولة جيّدًا.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 48 - سبتمبر 2020