الإثنين 25 نوفمبر 2024

فن

توقيع على شغفٍ سكندريٍّ

  • 22-10-2020 | 09:44

طباعة

" إذا الإنسان طاف حول الإسكندرية فى الصباح ، فالله سوف يصنع له تاجا ً ذهبيا ً مرصعا باللآلئ ومعطرا ً بالمسك والكافور يشع بالضوء شرقا ً و غربا ً"

"ابن دقماق "

1 - بشارات

عمرو التركي ، حسام قبردي ، تامر إمام ، ثلاث مواهب إبداعية شبابية سكندرية ، استطاعت أن تستقطب انحيازي لها فنيًا وسكندريًا، بثلاثة أعمال تتجلَّي فيها الإسكندرية بشكل ملحوظ ، هي على التوالي : " رسايل نوح ، ديوان شعر بالعامية " السكندرية " للشاعر عمرو التركي ،  إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة ، وهو الديوان الفائز بجائزة النشر الإقليمي لإقليم غرب ووسط الإسكندرية الثقافي لعام 2018، "راقودة" رواية لحسام قبردي ، صادرة عن دار الأدهم للنشر والتوزيع ، عام ٢٠١٨،  " يوسف ٢٠٤٩"  رواية لتامر إمام ، صادرة عن  دار الحلم ، عام ٢٠١٨، وليس في ذهني أن أعرض بالتحليل لهذه الأعمال ، فلذلك مقام آخر لا يتسع  له الوقت ولا المساحة الآن ، وإنما أردت أن أعرب عن سعادتي بالإبداع والمبدعين السكندريين وبخاصة جيل الشباب منهم ، وبالأخص هؤلاء الشباب ، آخر قطوف الإبداع السكندري.

 وهي قطوف  / وجوه  جديرة بأن تتصدر المشهد الإبداعي السكندري في قابل الأيام ، وتواصل مسيرة الشعر والرواية بالإضافة والأصالة والإبداع، مع الكثير من أبناء جيلهم الذين تزخر بهم الإسكندرية، ولن أذكر أسماء خشية الزلل  من ذاكرة مثقوبة وكحولية.

 يدرك عمرو التركي أن أمامه تراثًا زاخرًا من شعر العامية في الإسكندرية وغيرها عليه تجاوزه، وهو يحاول ذلك بجد وإخلاص، يحاول أن يبحث عن صوته الخاص ويقتنصه من بين كل الأصوات التي تذخر بها الساحة الشعرية، وهو ينجح في بعض الأحيان ، وتبدو محاولات خلاصه وبحثه  واضحة وتشي بامتلاكه ناصيته وأداته، و " رسايل  نوح " خطوة جيدة لعمرو يتجلى فيها بعمق إرهاصات تشكيل ملامحه الخاصة ، وبلورة صوته المتفرد، والمساحة التي تحتلها هذه الإرهاصات في " رسايل نوح" كعمل  أول ، كافية لأن تجعلنا نتيقن من وصول عمرو إلى صوته الخاص في وقت قصير وقريب .

 في هذا الديوان يتجاوز عمرو ذاته إلى المجموع ، من خلال تناوله قضايا تتماس بشكل حميم مع  الأرق الجمعي ، يتوسل إلى ذلك بلغة تشع بالعبق السكندري، لفظًا وأداء ، ففي مواطن كثيرة نجدنا نلون نطقنا للألفاظ بلون " الإسكندرانية" في الأداء ، ولا يتحقق ذلك إلا لمن تتكئ لغته على الإخلاص للشعر، ولقضيته ، يقول عمرو التركي  في قصيدة " ترام الغلابة " : 

 "بيصحى وشايل في حضنه همومه ، يفوَّق في نفسه ويلبس هدومه ، …بيصرخ ويلعن، ويفرح ويحزن، ولكن في سره، وينزل لشغله يجرجر ف رجله، يدحرج مشاكله، يحايل ف بكره ، وبكره معانده، شحاته بيركب تملِّي الترام، ترام الغلابة ماليها الزحام، ماليها الكلام، ترام الغلابة .. قصيدة لنجم ولحن لإمام، كمنجة قديمة بتعزف حزايني على ميت مقام".

 تفرض الإسكندرية سطوتها على لغة عمرو التركي ، كما فرضت أرقها على موضوعه، ليصطبغ عمرو لغة وموضوعًا بهذا العبق السكندري، ويمكننا أن نقول إن عمرو بشارة لشعر العامية في الإسكندرية ، وممن يعوَّل عليهم في حمل رايته ذات يوم.

 ونشير بعد ذلك إلى بشارتين روائيتين سكندريتين ، حسام قبردي وراويته الأولى " راقودة" ، وتامر إمام وراويته الأولى " يوسف ٢٠٤٩" ، والحقيقة أن ثمة تلاق أو تشابه عجيب بين المبدعين، وبين رواية كل منهما، أما عن التشابه ما بين المبدعين فكلاهما مهندس ، وكلاهما تجاوز الخامسة والثلاثين بقليل،  وأما التشابه ما بين الروايتين، فقد صدرتا في توقيت متزامن،  "راقودة " في نهاية ٢٠١٨، وصدرت " يوسف ٢٠٤٩" في بداية ٢٠١٩، وكلتا الروايتين تقفز بالزمن ثلاثين عاما، غير أن قفزة الزمن عند حسام قبردي تتجدد عند كل قراءة ، لتحتفظ بالبعد الزمني بين لحظة القراءة  ، ومسار الأحداث، يقول حسام قبردي في مستهل روايته : " الإسكندرية بعد ثلاثين سنة .. " (ص٧)، ومن ثَمَّ فإن الزمن عند حسام قبردي له بداية ،تتجدد مع كل قراءة ، وكون التمييز ( سنة ) وليس (عامًا)، له دلالة تتفق تمامًا مع الأحداث التي تتنامى على  المساحة الزمنية التي تتحرك عليها، فكلمة ( سنة ) تشير غالبًا إلي الجدب والجهد ، يقول القرآن الكريم  في سورة يوسف : " تزرعون سبع سنين دأبًا"، دلالة على الكد والمعاناة ، وحينما تحول الأمر إلى الخير والغيث والنماء كان التعبير القرآني بلفظ ( عام ) ، " عام يغاث الناس فيه وفيه يعصرون"، وتطرح راقودة كمَّا من القبح تطول أذرعه الأماكن والسلوك على حد السواء، قبحًا يستعصي على الحل والمعالجة إلا بالنسف والتدمير لتبعث بعد ذلك راقودة أكثر جمالًا، كما يراها قبردي، لذا فقد كان الكاتب موفقًا حين استخدم ( سنة ) ، ولم يستخدم (عامًا)، ولربما كان ( العام ) أكثر ملائمة لراقودته الجديدة. 

 أما عند تامر إمام ، فيتآكل من الثلاثين عاما مع كل مرة للقراءة، ، فقد حد الزمن بنهايته " ٢٠٤٩"، ومن ثَمَّ فالمدة محصورة مابين ٢٠١٩  زمن صدور الرواية  ـ والذي كان تامر شديد الحرص على صدور الرواية في هذا التوقيت حسبما قال لي ـ  و ٢٠٤٩ مسار أحداثها، وقد عمد تامر إلى ذلك ، إسقاطًا على واقع تشكِّل الثلاثون عامًا عنده دلالة سياسية عانى وطأتها في تاريخه المعاصر، وهو ما يتسق والرؤية التي عالجت الروايةُ أحداثَها من خلالها. ولذا ، فالزمن عند تامر إمام ينحاز أكثر للتاريخ ، أو بمعنى أدق للتأريخ، وقد كان تامر محايدًا في موقفه من التاريخ، أو التأريخ،  فلم يسحب التاريخ إلي أي من القناعتين ، (سنة )٢٠٤٩ أو( عام) ٢٠٤٩، وإنما تركها مفتوحة لتستجيب لكل الزوايا التي تقف عندها رؤى القارئ، دون  وصاية من الكاتب.

 ويشكل المكان أحد عناصر التشابه بين الروايتين، فكلتاهما تحتضن الإسكندريةُ أحداثَها، وتنبسط شوارعها مسرحًا لصراعاتها، غير أن (إسكندرية تامر) بمثابة قطرة الدم التي يدل تحليلها على فصيلة الجسم كله، فما تنسجه الرواية من أحداث تنسحب دلالاته على مصر كلها، وهو ما تعنى به الرواية، ويتشكل في وعي الكاتب ويرمي إليه، أما (إسكندرية قبردي) فتشكل المدينة ذاتها بحاضرها ومستقبلها الهم الأساسي للكاتب، وأرقه المضني، وفي اختيار اسم " راقودة " ما يفضح الانحياز إلى المدينة، بما يمثل صرخة للعودة إلي بهائها القديم ، وارتدادًا عما آلت إليه وتؤول من قبح وفساد ، ومحو لكل خصائصها الجمالية والحضارية.

 ويبقى ملمح أخير تشترك فيه الروايتان، وهو التعامل مع التقنيات العلمية أو التكنولوجية الأحدث ، والتي تتفق حداثتها والزمن التي تعالجه أو يتعاطاها وفق رؤية الكاتب، فقد كرَّسها قبردي أو يمكننا أن ندعي أنه جعلها قاصرة على التحصينات الأمنية، فلا نكاد نراها خارج المبنى ( ٧٠٠) وطوابقه، أما تامر فتشكل التقنيات الحديثة محورًا رئيساً في نسج الأحداث، وتشكيل رؤية الكاتب، بل يمكننا أن نقول تبنيها، وهي تقنيات تتسم إلى جانبها التكنولوچي بالعلمية، وقد نجح الكاتب في أن يجعلنا نتماهى مع هذه التقنيات بتلقائية، وأن نتعامل مع " الروبوتات" كأحد مفردات الحياة العادية والطبيعية، ونتقبل بكل أريحية أن نطالع لافتة عن ترشح أحدها للرئاسة، وقد ننحاز إلى منافسته " الروبوت " أيضًا، ويؤخذ على تامر استغراقه في بعض التفاصيل العلمية، وتقديمها بشكل علمي خالص ينال من جماليات الأدب، حتى بدت بعض المقاطع وكأنها محاضرة علمية، وقد ساعد على ذلك طول المقطع والذي يقترب من صفحة كاملة، ويحسب له تطويعه بحرفية وفنية لهذه التقنيات بما يحقق رؤيته الإبداعية، بداية من الرئيس " الروبوت" أو " الروبوت " الرئيس، الذي يمثل قمة التقدم التكنولوچي، وانتهاء بالبواب التقليدي، والتي لم تتغير إحداثيات تطوره  إلا في قيمة البقشيش، والتي ارتفعت إلي عشرة آلاف جنيها وهو مبلغ يحتفظ بضآلته بإحداثيات عصره، في إشارة إلى أن هذا التطور التكنولوچي  قاصر علي النظام وآلياته. وأظن أن هذا مما عمد إليه تامر إمام، و أظن أنه قد نجح في ذلك.

 وإذا كانت " راقودة " عنوان دال ، انسحبت دلالته على رؤية قبردي لروايته، فإن " يوسف  ٢٠٤٩ " عنوان دال نجح تامر إمام في توظيف دلالته توظيفًا فنيًا مستفيدًا من دلالة اسم يوسف كمثال للعفة في أعلى مستوياتها، لصنع مفارقة مع يوسف موديل ٢٠٤٩ الذي يشتعل لكل امرأة يلقاها، بالرغم من زواجه من أجملهن ، وإذا كان يوسف العزيز قد آتاه الله من الملك بعد مكابدات القتل والسجن والاغتراب،  فإن يوسف ٢٠٤٩ في انتظار " تصفيته" إيذانًا بمرحلة جديدة، بالتأكيد هي أشد ظلامًا وظلمًا.

 "رسايل نوح " ، " راقودة " ، " يوسف ٢٠٤٩ " ، أعمال إبداعية  لمواهب سكندرية مخلصة ، وجادة ، أنحاز لها إبداعيًا ، وإنسانيًا، و سكندريًا، و يُنتظر منها الكثير للإبداع وللإسكندرية ، وهي جديرة بمتابعة نقدية حقيقية،  وهي بالفعل بشارات لريادة سكندرية إبداعية.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة