(1)
منذ بضعة أعوام، كتب شاعر عامية شاب – من القاهرة تقريبا
– على صفحته بموقع فيسبوك متسائلا باستهجان عما تقدمه الإسكندرية بالفعل في الوقت
الحالي بعيدا عن النوستالجيا و"المُحْن" وأسماء الكبار الراحلين، مطالبا
أن يعطيه من يُعلِّق أمثلة خارج هذا النطاق. علّق بعض أصدقائه محتجين أو متضامنين،
ووجدت نفسي أُعلِّق مستخدما إفِّيه سياسيا ساخرا كان شائعا وقتها، معتذرا بعدم
قدرتي على إعطائه شيئا لا أمتلكه. احتد الشاب في رده عليّ بخروجي عن قواعد اللياقة
وتطفلي وأن منشوره مخصص لأصدقائه ولولا بقية من احترام لرد عليّ بما أستحق..
اندهشت لأن منشوره كان عاما ولم يكن مقتصرا على مجموعة بعينها، ثم أني ضمن قائمة
"أصدقائه" على فيسبوك وبالتالي يحق لي "شكليًا" التعليق – وهو
ما يجعل المرء يعيد التفكير في فكرة "الأصدقاء" على فيسبوك، لكن لهذا
حديث آخر – ناهيك عن كوني سكندريا رددت غاضبا بكلمات ما ثم قمت بـ
"حظره" في رد فعل أراه طفوليا الآن، فاحتجب عني منشوره وتعليقي وردوده،
لكن ظل سؤاله عالقا في ذهني يراودني بين حين وآخر بما يحمله من دلالة: هل نبالغ
قليلا في نظرتنا للإسكندرية؟ هل لا تملك المدينة ما تقدمه غير النوستالجيا
و"المُحن" والراحلين الكبار؟
(2)
تبدو الإسكندرية وكأنها تحمل لعنة ما. فعلى مدار تاريخها
الطويل الذي يمتد إلى ألفي عام تقريبا قبل 332 قبل الميلاد حينما أمر الإسكندر
مهندسيه بتعديل قرية راقودة والإضافة إليها لتصبح مدينة تحمل اسمه، تعرضت المدينة
لكوارث مهلكة فغرقت أجزاء منها وشهدت زلازل وحرائق أبادت فيما أبادت مكتبتها
ومدرستها القديمة، وبعد أن كانت مدينة العالم الأولى -ثم الثانية بعد روما-
وميناءه الأول، انتكست من جديد لتصبح أقرب لحالها القديم كقرية صيادين، وتقلص عدد
سكانها كثيرا، ثم انتعشت قليلا كميناء وكملجأ لرموز التصوف الإسلامي وأوليائه،
وشهدت بعثا جديدا في القرن التاسع عشر على يد محمد علي والجاليات الأجنبية قبل أن
تتعرض لقصف الإنجليز العنيف في 1882، ثم تشهد فترة ذهبية أخرى مع نهاية القرن
التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصلت ذروتها في العشرينيات والثلاثينيات من القرن
الماضي، تلك الإسكندرية الكوزموبوليتانية التي يتباكى الأدباء على زوالها بدءا من
الخمسينيات. مدينة يتغير وجهها الجميل والقبيح على السواء كل فترة ويظل عشاق هذا
الوجه يتغنون شوقا إليه. الغريب أن هذا التغير لا يحتاج قرونا أو أجيالا لتشهده،
فجيلي مثلا الذي وُلد في سبعينيات القرن الماضي يشهد الآن إسكندرية أخرى غير التي
شهدها في طفولته وشبابه في الثمانينيات والتسعينيات، تغير حتى وجه البحر ومكانه،
واتسع شارع الكورنيش بشكل مرعب، وانفجرت الأبراج الضخمة في كل مكان في المدينة حتى
في أفقر أحيائها وأقدمها وأبعدها عن البحر، وضاعت الكثير من المباني التراثية؛ لا
بسبب زلزال أو حريق أو قصف بالقنابل، بل في ظل غياب القانون وحمى الهدم والبناء
المجنونة. كل هذا يحدث في ظل توقعات من علماء المناخ بأن يُغرق البحر المدينة
بأكملها مع ارتفاع منسوبه عاما بعد عام، ليكتمل وقتها محوها وزوالها الأبدي.
(3)
في عام 2005 تقريبا، صدر كتاب عن الهيئة العامة لقصور
الثقافة بعنوان "شعرية الإسكندرية" ضم أعمالا لشعراء وزجالين سكندريين
معاصرين كتسجيل للمشهد الشعري السكندري وقتها، قدَّم للكتاب الشاعر فتحي عبد الله
وكان قاسيا في حكمه المطلق إذ ذهب إلى أن الإسكندرية "مدينة تنتج الشعر ولا
تنتج الشعراء"، وأنها لم تخرج علينا بشاعر كبير منذ رحيل كفافيس وبيرم
التونسي. كان الرجل يشير من طرف خفيّ أو جليّ إلى تقليدية القصائد الموجودة وعاديتها
– ولا أقول ضعفها. ورغم أنه أشار إلى تجارب طليعية في التسعينيات مثل جماعة ومجلة
(الأربعائيون) ومجلة (خماسين)، إلا أنه رأى أنها كانت تجارب هامشية لم تخلخل تكلس
المشهد الشعري السكندري. أتيحت لي محاولة الرد عليه – التي أراها طفولية الآن –
بإعداد ملف في مجلة (أدب ونقد) العدد 266 في أكتوبر 2007 بعنوان (قصيدة النثر في
الإسكندرية.. مشهد جانبي) محاولا إعادة الاعتبار إلى تجارب وأسماء شابة وقتها.
كانت تلك حلقة جديدة في مسلسل الصراع الأبدي بين الكتاب الرسميين وموظفي الأدب إن
جاز التعبير وكُتاب الهامش ومن يرون أنفسهم خارجين عن السرب والقطيع ومبدعي
الكتابة المختلفة.. إلخ. مسلسل تدور أحداثه في عموم مصر بشكل ممل، لكنه ربما يتخذ
في الإسكندرية مسارات درامية حادة وعنيفة ومليئة بالكراهية والقطيعة، لعل حدتها
تتشابه مع حدة التحولات التي تعرفها المدينة ويألفها تاريخها جيدا. الإسكندرية
التي يصفها الكاتب الكبير مصطفى نصر في عنوان لأحد كتبه بأنها (الإسكندرية مدينة
الفن.. العشق والدم).
(4)
"إسكندرية
الجميلة
هربت مني للكتب
والتواريخ
والشوارع اللي ما
أعرفهاش
وسابتلي إسكندرية
المجرمة
اللي ما أعرفش
غيرها"
كتبتُ هذا المقطع في مارس 2003 ضمن ديواني (قصايد ماتت
بالسكتة القلبية) الذي صدر ضمن كراسات يدوية التي يحررها ويصممها صديقي القاص
والفنان ماهر شريف عام 2008. هل كنت أشير إلى طبقات الزوال والتشكل الدائمين التي
تسم هذه المدينة؟ هل كنت أسير في نفس الدرب القديم الذي يعج بحجاج النوستالجيا
وعشاق الزمن القديم الجميل الغابر وكارهي حاضرهم القبيح دون أن يشهدوا هذا التاريخ
أو يفكروا حتى في موقعهم فيه لو عادوا إليه؟ هل كان هذا الماضي ليتحملهم كجزء منه
أم سيتعامل معهم كأطراف متخلفة في مشهد كوزموليتاني لم يكن عادلا بالضرورة ولا
طوباويا كما يتخيل البعض؟ هل تدفعنا الإسكندرية دائما حتى ولو كنا من منتقدي
النوستالجيا إلى أن نحمل نوستالجيا إلى أمسنا القريب وليس إلى سنين غابت ودهور مرت
بتغيرها الوحشي وزوالها الدائم؟ هذا هو ما لا يمكنني الجزم به.