كان ظمئي وجفاف حلقي يكادا أن يقتلانني، عندما انتفض جسدي، خرجت إلي
المطبخ بعد أن استعدت هدوئي، لإحضار كوب مياه مثلج أرتوي به ، " يا رب اجعل
لها فيه نصيب واستر عليها، واجعل عريس اليوم من حقها ونصيبها، واهديها يا رب تعبت
من المناهدة معاها، عمرها بقى ٢٦ سنة خايفة قطر الزواج يفوتها، سني كبر مين ليها
غيرك بعدي، يا رب أشوفها في بيت العدل قبل ما أقابل وجه كريم" هكذا سمعتها
تدعو جهرا والدتي التي كانت ساجدة في الصالة تصلي ركعتي قضاء الحاجة في الرابعة
فجرا.
أشفقت على أمي، رغبتها في أن أخرج لمقابلة أحد الخُطاب الذي يُنتظر
قدومه الرابعة عصر اليوم، تتنافر مع رفضي، لهذه الطريقة البدائية في الزواج، كيف
بعد حصولي علي ماجستير في الكيمياء العضوية، أن أقبل أن أصبح كسلعة، يأتي الراغبون
في الشراء لمعاينتها، أجلس على الكرسي أمام الزبون وأفراد عائلته أو بعضهم، تخترق
جسدي نظراتهم، تقيس طولي وزني، تقيم لون بشرتي ، عقلي، كل شيء قابل للفحص، ثم
يغادرون وتظل أمي تحاول إقناعي بمزايا العريس كما عرضها لها الوسيط الراغب في
توفيق رأسين في الحلال، لتفاجأ بأنه لن يعود، فأنا لست بالجميلة الفاتنة، ومع ذلك
من يُعجب بي أرفضه فهذا لم أستلطفه وذاك غير مثقف محدود الفكر ......
أمي تقول : " إنت معمول ليكي عمل، أُمال، عكوسات، يا كبدي عليك
يا بنتي، من تُعجبيه، ترفضيه، ومن يُعجبك، يروح بلا رجعة" ، رغم تدين أمي
ولجوئها إلي الله فإنها لجأت إلي الدجالين ليحلوا عقدتي ويزيلون العكوسات، عدت إلي
فراشي لكني خشيت النوم فتطاردني كوابيسي، ذهني مشغول، ترى هل سأظل سلعة تعرض في
فاترينة خطوبة الصالونات وإلي متي؟، ولماذا لا تقتنع أمي أن هذا الموقف مهين لي،
وأن النصيب سيُلقي بزوجي في طريقي يوما ما ، أو سيُلقي بي في طريقه، ويأتي الإعجاب
والحب دون سابق إنذار؟!
حتي وإن لم يأت، فما هو العيب في أن أظل "عازبة"، إني لا
أشعر بهذه الشهوانية، التي تتحدث عنها الشابات والشباب، فلم نخلق من أجل الغريزة
الجنسية، وقديما قال سقراط:" الغريزة هي حيلة الطبيعة الماكرة للإبقاء على
الجنس البشري"، هناك متعة أكبر أجدها في إعمال العقل وتحصيل العلم، سأواصل
طريقي وأحصل على الدكتوراه، سأنجز أبحاثا ومؤلفات، سيكون لي طلبة وطالبات، هل ترون
مخلوقات غير البشر يمارسون الجنس للمتعة ؟!، فقط تمارس الكائنات الجنس عند التلاقح
للتوالد، فقط البشر ما يتعدون تلك الوظيفة، وإذا كان الهدف الأسمى للزواج هو
التكاثر والحفاظ على النوع من الانقراض، فما أكثر من يقومون بهذه الوظيفة، فلما لا
أتفرغ أنا للعلم؟!، قلت ذلك ذات مساء لأمي، فصرخت :" أشق هدومي منك، عاوزة
تترهبني ، هتموتيني ناقصة عمر" وانهمرت في البكاء حتي أصيبت بغيبوبة السكري،
لذلك لن أواجهها اليوم وسأحاول سجن عقلي وكبريائي وأفكاري، أحيانا أنظر إلي أمي
وأحدث نفسي:" أخشي أن تكون أنت السبب يوم أن ألقيت بي لأمنا الغولة وتوأمتيها
تعبثان بجسدي، يومها سرقن شيئا ما مني، قد يكون سبب تعاستي".
فرغم نومي اللية مبكرًا،
محاولة أن أهرب من نصائح والدتي، وأن أخلد بجسدي للراحة، استيقظت مفزوعة في
الرابعة فجرًا، أشعر بالإعياء، فلم يمنع النوم المبكر عقلي من التمرد على رغبتي،
وظل مستيقظا، يسترجع المؤلم من أحداث حياتي، تلك المحفورة علي شريط ذكرياتي، توقف
عند تلك اللحظة التي تدفقت فيها الدماء بين فخذي، حين اقتطعت تلك النسوة جزءا مني،
صرخت فانتفض جسدي، انتبهت فإذا بي جالسة علي السرير، كان قلبي تتسارع دقاته، ورعشة
تكهرب ذراعي، حاولت تحسس قدمي بحثا عنهما، فالألم الذي شعرت به في كابوسي المتكرر،
أذاب شعوري بساقي.
كنت يومها في السادسة من عمري، لا أعرف غير حكايات الطفولة التي
ترويها لي أمي كل مساء، عن الشاطر حسن، وست الحسن والجمال التي يأخذها على حصانه
الأبيض ذلك الحصان الذي له جناحان يطير مثل الحمام الذي نربيه فوق سطوح منزلنا
الريفي، كنت أعشق الحمام، أصعد مع أمي كل صباح لإطعامه، تلقي أمي حبوب القمح،
فتلتقطها الأمهات، أسأل أمي، ماذا تفعل الحمامة وهي تضع فمها في أفواه صغارها
الواحد تلو الآخر؟ فتجيب: أمي إنها الأم تطعم صغارها، فلماذا لا يأكل الصغار وحدهم
مثلي؟
تضحك : لأنهم أصغر منك أنت كبرت وأصبحت عروسة.
لكن أنت لم تطعميني بفمك أمي وأنا صغيرة بل بالملعقة.
تواصل أمي الضحك: أطعمتك من ثديي، كنت ترضعين، لكن كبرت الآن وأصبحت
عروسة.
ماما يعني إيه عروسة؟
تبتسم أمي وهي تواصل نثر بذور القمح في عشة الحمام: يعني أصبحت مثل ست
الحسن والجمال في قصة الشاطر حسن، وأين الشاطر حسن يا ماما ولماذا لم يأت بحصانه
الأبيض، ولماذا حصان أبي ليس له أجنحة؟ تستبدل أمي ابتسامتها بنظرة أكثر جدية، أوه
يا منال إنت غلبوية وأسئلتك كتيرة لما تكبري هتعرفي كل حاجة.
لكن كانت هناك ثمة حكاية أخرى، ترويها لي أمي لترويعي ومنعي من محاولة
الخروج إلي حديقة المنزل ليلا، حكاية أمنا الغولة، تلك السيدة العجوز حدباء الظهر،
طويلة الأنف، التي تملأ وجهها التجاعيد، وشعيرات متناثرة بين شفتها العليا وأسفل
أنفها، وأظافرها الطويلة التي تغرسها في جسد الأطفال الذين يخرجون ليلا، ولا يصغون
لتعليمات أبويهم، لكن أمنا الغولة وكأنها النعجة دولي استنسخت، حين اصطحبتني أمي
إلي ثلاث نساء كن يجلسن في صالة المنزل.
كانت صورهن طبيعية، قبل أن تمسك إحداهن برأسي وذراعي تدفن نصفي الأعلى
في حجرها، والأخرى تحكم قبضتيها، علي قدمي تبعد كل منهما عن الأخرى، والثالثة آه
من الثالثة تلك التي كانت تمسك في يدها مشرطا وقماشة بيضاء، آه صرخت صرخة واحدة
فحاولت الأولي كتم صوتي، اختنقت صرخاتي، كان الدم يسيل بين قدمي، وعيناي تمطر
دمعا، وخز المشرط في عضوي التناسلي، أفزعني، فنهضت فإذا بالأمهات الغول رحلن، وبقي
الألم يؤرق نومي، تطاردني كوابيسه.
لم أكن أعلم حينها ماذا فعلن بي، لكن فيما بعد قالت أمي
:"طاهرناك من أجل أن نصون عفتك"، اليوم عزف عقلي الباطن علي أوتار الألم
بعد ٢٠ عاما من الحادثة.
منذ الصباح وأمي وزوجة أخي، ينظفان ويرتبان المنزل، يعدان الفاكهة
والمشروبات، فإحدي صديقات والدتي، عثرت على شاب يبحث عن عروسة فرشحتني له، سيأتي
اليوم لمشاهدتي، سأكون عصر اليوم سلعة عرضة للتقييم، لن أخرج.. أمي تحاول إقناعي،
أصر على أن تبلغ صديقتها اعتذاري، تبكي وتقترب من الانهيار فأخضع لإرادتها.
في صدري تناقضات ، ساعة أتمنى أن يكون وسيما، عقله ناضجا، يثير
اهتمامي، وأن أُثير إعجابه، وساعات أرفض الفكرة بالمطلق وأخشى الزواج، فأشك في صدق
ما تعتقده أمي في العكوسات، لكن سرعان ما يرفض عقلي، ويفسر تناقضاتي علميًا، صدمة
الختان، وشعوري بآدميتي، عقدة تكرار الجلوس أمام الخُطاب وفرارهم من أول لقاء،
لماذا لا يكون من حق الفتاة أن تبادر هي بخطبة الشاب، لماذا الرأي له أولًا وهي
رهن قراره، ويأتي قرارها فيما بعد؟! أوه ويلي من أمي والمجتمع إن صرحت لهم بأفكاري
لن يرحمني أحد فلأصمت، زوجة أخي تترجاني " خلي اليوم يعدي على خير مامتك مش
مستحملة".
دق جرس الباب، أسرعت أمي تستقبل العريس، أسمع صوتها تبالغ في الترحيب،
تذهب زوجة أخي بالعصير، يلتقيها أخي فيأخذه، يقدمه للضيوف، تنظر مديحة من خلف
الستارة ، تعود مسرعة، العريس شاب جميل، تحاول تحفيزي على الخروج، تمر نصف ساعة
وهم في انتظار "البضاعة" لمعاينتها، أرفض الخروج، تسرع أمي للمطبخ تقدم
الفاكهة، تحاول شغل العريس وأمه وتساعدها في ذلك صديقتها، مرت ساعة، أمي تشعر
بالإحراج، تسأل أم العريس أمال فين عروستنا؟ يدخل أخي محاولا إقناعي بالخروج، أرفض
، أمك ، السكر، حياتها في خطر، ينتابني القلق، أفرك يديّ، نبضات قلبي تتسارع،
أضعف، أخرج، أشعر بثقل جسدي، أحاول غرس قدميّ في أرض الغرفة، قد ينبت لهما جذور في
هذا البيت فيصعب اقتلاعي منه، أتخيل النسوة الثلاث، اللاتي أرقن دمي في صغري، أشعر
بأني أساق إليهن، لتكرار فعلتهن، يومها كان جسدي النحيل أضعف من أن يضغط على قدميّ
لغرسهما بالأرض، لكن اليوم قادرة على أن أقاوم.
تحركت بفعل جاذبية رغبة أمي وخوفي عليها لكن ببطء، ابتسمت والدتي :
عروستنا وصلت، كان وجهي خاليا من الماكياج، لم أهتم بأناقة هندامي، صراعي النفسي
يرتسم علي صفحة وجهي.
الحاجة سعدية صديقة والدتي قالت: مكسوفة عروستنا مكسوفة، ردت أمي ربنا
يجعل ليهم في بعض نصيب، ردت أم العريس التي لم أعلم اسمها وعلى وجهها ابتسامة أقرب
لأن تكون مصطنعة، يوم الهنا إن شاء الله، مددت يديّ لأسلم عليها، فاحتضنتني، كادت
تعتصرني، تجولت بيديها على جسدي، تتحسس تفاصيله، بدهاء اقتربت من فمي تشتم أنفاسي،
أصبح لديّ خبرة، أجيد قراءة ما وراء أحضان الحموات المحتملات.
تركت جسدي لها للحظات، لتعاين بضاعتها لتنقل تفاصيلها لابنها، مددت
طرف أصابعي أُسلم عليه، فأمسك بكامل كفي، بطرف عيني نظرت إليه، ثم نظرت إلي الأرض،
ومن آن إلي آخر أسترق النظر، فإذا به يخترق تضاريس جسدي، بنظراته تاركا النساء
لأحاديثهن، كان يصعد ويهبط بعينيه على مرتفعاتي ومنخفضاتي ، انتظرته يتحدث فإذا به
يسأل عن سني، ورغبتي في العمل من عدمه؟
أجبته: سأُكمل دراستي لنيل الدكتوراه، هز رأسه، وتلون وجهه، سألته عن
هواياته، قال لعب الشطرنج علي المقهي مع الأصدقاء، هو محاسب في بنك، يري أنه لا
فائدة من الدكتوراه، المرأة مكانها الجلوس في البيت، هكذا يرى، تذكرت ذلك الشاب
الذي سبقه في الجلوس على نفس المقعد من شهر، وكان يري أن عمل المرأة ضروريًا
لمساعدة الزوج، لم يعجبني الأول لأنه ينظر للزوجة كحافظة نقود، والأخير لأنه ينظر
لها كجسد لا عقل.
غادر العريس، قالت أمي ما رأيك ؟ لم تنتظر الإجابة وأضافت: عريس لقطة،
ربنا يجعله من نصيبك، قلت: لم يعجبني، غير مثقف، يبحث في المرأة عن الجسد ويهمل
العقل، سلمت بأطراف أصابعي فسلم علي وكأنه يسلم علي صديق له، غبي اجتماعيًا لا
يفهم الإتيكيت، لوحت أمي بيدها في غضب: عقل إيه إتيكيت إيه ومثقف إيه، هو الراجل
يعيبه غير جيبه، وشغل إيه الست ما ليها غير بيتها وتربية عيالها، منه لله اللي ما
يتسمى الفيسبوك والتليفزيون بوظوا دماغ البنات.
كانت أمي تقول ذلك وتمني نفسها بأن يكتمل الزواج، وكأنها تقول في
داخلها بس هو يوافق، لكن جاء الرد في اليوم التالي عبر صديقتها يعفيني من
اللوم:" معلش يا حاجة والدته قالت أبلغكم كل شيء نصيب".