الأربعاء 15 مايو 2024

"سيدات القمر".. تهافت الأرض واستحالة النجوم

فن22-10-2020 | 11:34

هذه هي أول رواية عربية تفوز بالبوكر العالمية تحت عنوان (Celestial Bodies)، حدث هذا الآن في صيف 2019. تتداخل في رواية الأجيال (سيدات القمر) الصادرة عن دار الآداب عام 2010 وتقع في 1224 صفحة، ثلاث عوالم مثل دمى الماتريوشكا، الأوسط يظلل الأصغر، والأكبر يحتوي الكل. الصندوق الحاوي هنا هو مشهد عُمان السياسي وأدق المراحل التي مرت به. ولم تتوقف عندها المؤلفة (خوجة الحارثي) كثيرا، بل ركّزت على تجارة الرقيق التي ازدهرت في مرحلة ما، وكان تُجَّار العبيد يجلبونهم من شرق إفريقيا وبلوشستان. ثم تغوص في تفصيلات العالم الأوسط، وهو مجتمع بلدة مُتخيَّلة اسمها (العوافي)، والطبقية الدنيا من أهلها الفقراء وفي قاع رجات سُلَّمهم يأتي الرقيق، وقد برعت خوجة الحارثي في تناول هذه الفئة جنبا إلى جنب مع سادتها وتبيان العلاقة التي تجمعهما ببعضهما برموز لا تخطئ مرماها واسقاطات ناعمة أنثوية وإشارات شديدة الذكاء. لا ينحصر شكل المجتمع هنا في ظاهرة الرقيق، بل يتوسع إلى تناول أحوال المعيشة والبنى الثقافية الشعبية حيث تنتشر القصص الخرافية والأساطير نتيجة الجهل المستمر والحرص على التجهيل. أما عالم القلب الأصغر، نقرأ ما يجول في نفوس الشخصيات حيث لكل منها مأساتها وهواجسها وحكايتها الموجعة تحت قهر المجتمع. تناولتها خوجة الحارثي في نسيج سرد متشابك غير مهترئ ولا متهدل، سلس محكم يمسك بتلابيب القصة وأغراضها وقارئها. كما تمكّنت من السيطرة على قبضة الزمن على كل من مستوى الكتابة وعمر أحداث الرواية، إذ نمر على أربعة أجيال بيسر ودون حيرة أو تشتيت، فننتقل من عام ١٨٠٢ وقت توقيع اتفاقية عدم بيع الرق الأولى إلى مسقط واتفاقية الشارع السريع التي ستحول دون أن يحصل عبد الله وميا على مساحة لا بأس بها من الأرض كانا يريدان الحصول عليها. النقاط التاريخية لا تسردها الكاتبة على سبيل توثيق الأوضاع السياسية التي مرت بها هذه الأجيال، بل هي خلفية محركة للحياة الاجتماعية الشاملة لهذه الشخصيات. العبيد وغيرهم في (سيّدات القمر) ينشدون الانعتاق ولو من سجن الذات تطلب الحريّة بالتحامها بالآخر أو بالاغتراب عنه. تجمع بلدة العوافي العُمانيّة حكايات هذه الشخصيّات المشعثة المغبرة المشتَّتة في القرن العشرين حيث نرى ألف نموذج للعبودية بلا رسن والعشق بلا قصائد والعائلة بلا صلات رحم والتقاليد بغير رحمة.

المؤلفة مشغولة بجيل المستقبل (ستلاحظ ذلك في رواياتها السابقة: "نارنجة" دار الآداب 2016، "منامات" المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004، ومجموعة "صبي على السطح" دار أزمنة 2007 والنص الذي كتبته للأطفال "عش للعصافير" النادي الثقافي بمسقط 2010) إن الجيل الأصغر في الرواية يعاني أكثر، هذا الجيل الذى تدرَّب على النفاذ ببصيرته بسرعة إلى الأعماق، يجد نفسه فجأة إزاء جيوب محصورة من تلك الرواسب والذكريات، ربما لم يواجهها جيل سابق أبداً بغير ذريعة مقدسة، وهو يواجهها تحت أعين الناس جميعاً وعلى رؤوس الشهاد. إنه جيل يستكسشف كل مكان، ويحول جحيم الروح إلى معارض صور حية، ولا مانع لديه من تناول طعامه من أكداس المخازن والسير بقيود غير مرئية، وربما كان على حق فى ذلك، فهو يستمد قوته من المستقبل الوهمي. إنه يشغل أذهاننا وأذهان الكبار في (سيدات القمر) كما لم يفعل جيل آخر مع أبناء عصره منذ زمن طويل. إنه يُزاحم ويبدِّل ويحاول التنظيف، والبعض مدين له لذلك بالكثير فمن منهم لم يرمقه، ولو للحظة، بعين الريبة، ولم يتساءل عما إذا كان هذا الجيل معنياً حقاً بالحياة كما نفهمها، أم إنه يريد استغلال النفس البشرية بطريقة أكثر آلية وأشد استنزافاً فحسب؟ إنه يربكنا بإمكانيات للرؤية تتجدد باستمرار، ولكن كم هناك من أشياء وضعها أمامنا ولم يترتب عليها تقدم مماثل فى حياتنا الداخلية؟ المؤلفة تفترض في روايتها أن شبابنا الثابت الخطى قد منح فى الوقت نفسه القدرة على إعطاء الشكل الخارجى المرئي بالتدريج بقدر مكافئ تماماً لأكثر حقائقه الداخلية صفاء، وتجعلنا على استعداد لتصديق أنه يملك هذه القدرة إلى الحد الأقصى. معالجة قد تكون أعقد مما ينبغى؛ فالتبسيطات جميعاً مهما بلغ من درجة تغلغلها، فماذا يمكن فى الواقع أن يغير حالة شخص قدر له، منذ أيامه الأولى، أن يحرك قوى هائلة داخل نفسه ذاتها، وهى قوى يحبسها الآخرون ويلزمونها الصمت؟ وأي سلام يمكن أن يلقاه إذا كان يعانى فى قلبه من سياط إلهه؟

"إنني أتعامل مع النقد بجدية شديدة، تصل إلى درجة الإيمان بأنه، حتى في خضم معركة يقف فيها الفرد..بجانب أحد أطرافها، يجب أن يكون هناك نقد ذاتي." كلمات للمفكر الأنسني إدوارد سعيد؛ فلابد من وجود وعي نقدي، كي تكون هناك قضايا ومشاكل وقيم وحتى حيوات نناضل من أجلها..فينبغي على الناقد أن ينظر لنفسه بوصفه عنصرا يُثري الحياة، وفى حالة تضاد بناءة مع كل أشكال الطغيان والسيطرة والاستغلال؛ فأهداف النقد الاجتماعية هي المعرفة اللا قسرية وغرضها الحرية الإنسانية! أما خوجة فقد مارست هنا عمليات النقد الاجتماعي في كل فقرات الرواية تقريبا، ولا تنبذ الجيل السابق (الرواية تهديها إلى أمها) لكنها تتمسك بصدق الحزن مع ميا التي استغرقها العشق واستغرقتها ماكينة الخياطة السوداء ماركة الفراشة، عشق أسود صامت تسجد مه ولا تدعو الله إلا بأن (تراه) لكن أمها لا تفهم وتظن أن ميا سجينة ماكينة الخياطة لا تكاد ترفع عنها رأسها إلا لتبحث عن الخيوط أو تتناول المقص. تركت الصلاة عندما خطبت لشخص آخر، ظنت أن الله يعاقبها على حبها. زوجها الأحمق سليمان يرفض أن تلد في المستشفى بمسقط حتى لا يقع مولوده (في أيدي النصارى!) وهي تسمي مولودتها: لندن. لا يعرفون شيئا عن حبيبها المهاجر فتقول لأن بشرتها بيضاء جدا. لكنهم يتهافتون ويذلّون بعضهم على فتات وسخافات، الوالد يصيح اربطوا العبد سنجر حتى لا يعود يسرق خيش البصل مرة أخرى! (الكائنات منفصلة في اتّصالها وهذا أقسى أنواع العزلة) هو المعنى الذي أرادته المؤلفة، في بعض خطوط الرواية التجريبيّة العبثيّة فكأنها رواية المجرة العُمانيّة، وما الشخصيّات المنعزلة المتشظية بين دروبها سوى تعبير عن غلاظة قيود الأرض واستحالة التحليق نحو النجوم. (الحياة منشطرة شطرين كالليل والنهار: ما نعيشه وما يعيش بداخلنا) الشخصيّات تعيش بين الأرض والسماء وفي أزقة النفس الداخليّة قاتمة كالليل وصارخة كالشمس. تبدو من بعيد حيوات عاديّة تتبع نمطًا تقليديًّا في مجتمع يؤمن بعادات بالية وشعوذات خرافية وأدوار محدّدة سلفا للجميع. لكن، بالتدريج، يلمس القارئ حيرتها وتقلّباتها وفرديتها وتمرّدها وهي تطوف في مسارات قدرية مخيفة. ومن هنا فإن الرواية لا تثير اهتمامك العميق إلا بقدر ما تشغل الذهن بتحويلات محددة، تلك التحويلات التى تؤدى فيها الخصائص الباهرة للغة دوراً رئيسياً لكنها لا تستحوذ عليك استحواذاً عميقاً إلا إذا وجدت أثار الفكر فيه متكافئة فى القوة مع اللغة ذاتها. القدرة على الالتواء بالفعل العادى حتى يحدث أثراً غير متوقع، وذلك دون الخروج على القواعد المعروفة والتحكم فى الأشياء والمعاني التى يصعب التعبير عنها، وبخاصة التحكم فى وقت واحد فى الإشارات والهارمونية والأفكار، وتلك عقدة الأدب الفذ.

    Dr.Radwa
    Egypt Air