"وإن أتاني
الموت فلأمت محدثًا أو سامعًا "
هل كان
هذا السّطر الشّعري الخاطف كالبرق، والذي
كتبه شاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور في
مفتتح قصيدته "أغنية لليل"
متنبئًا بالمصير الفاجع الذي انتهى إليه
في مساء الخميس الثالث عشر من أغسطس 1981.
الليل سكرنا وكأسنا
ألفاظنا التي تدار فيه نُقلُنا وبَقْلُنا
الله لا يحرمني الليل ولا مرارته
وإن أتاني الموت فلأمت محدِّثا أو
سامعًا.
كان
الشّاعر مدعوًّا لحضور حفل عيد ميلاد ابنة الشاعر
أحمد عبد المعطي حجازي،فإذا بالنقاش يحتدم، وإذا بالاتهامات تطّل بوجهها
القاسي، وإذا بالرسّام بهجت عثمان
يقول لصلاح عبد الصبور:"لقد بعتَ كل
شيء بثمن بخس(إثر قبوله رئاسة الهيئة
المصريّة العامة للكتاب واستمراره في منصبه بالرغم من مشاركة إسرائيل في معرض
الكتاب) وعبثًا حاول الشّاعر أن يدافع عن نفسه، وأن يدرأ ذلك الهجوم الفظّ، لكن
قلبه العليل وجسده المنهك لم يتحمّلا وقع السهام. وكانت الفاجعة، وكان الرحيل
المباغت الذي شقّ سكون ليل القاهرة وأفزع
محبّي الشّاعر من المحيط إلى الخليج بعد أن تجسّد الموت واقعًا أليمًا.
وصدقت
نبوءة الشاعر حين كتب مصيره شعرًا، وتخيله
إبداعًا، مجسدًا إطاره الزّمني الليلي
وفضاءه النقاشي الجدليّ. ولا يعنيني في هذا السياق أن أسعى إلى تبرئة صلاح عبد
الصبور الإنسان أو أن أتورّط في اتهامه، و يكفي أن أحيل القارئ الكريم إلى المقالين
البديعين اللذين نشرهما رجاء النقاش في كتابه ( ثلاثون عامًا مع الشعر
والشعراء) بعنوان "ليس بالقلب وحده مات صلاح عبد الصّبور 1،2"
"بقدر
ما يعنيني أن أتأمّل تجربة صلاح عبد الصبور الشاعر في علاقته بكلماته وفي مستويات
حضور الموت في إبداعه، إذ إنّ أوّل ما يلفت النظر في تجربة عبد الصّبور الشعريّة
ذلك الاتّحاد العميق الذي لا تنفصم عراه
بين الشاعر وإبداعه، وبين الكاتب وكلماته.
وقد كان فطنًا لهذه العلاقة حين اختار عنوانه الدّال لكتابه الأشهر" حياتي في
الشعر" وحين استشهد بمقولة أحد الشعراء في كتابه "على مشارف الخمسين":" أنا لا أكتب الشعر،
ولكن الشعر هو الذي يكتبني". وحين أشار قائلًا في السياق نفسه:" يتاح لكثير من الشعراء
والفنانين أن يقتربوا من دائرة النّار مرّة أو مرّات في حياتهم، وهم حينئذ يذهلون
عن ذواتهم ليقتربوا من هذه النّار
اللافحة. ولكن هذا الاقتراب محفوف بالمخاطر، إذ إنّهم حين يعودون إلى عالمهم العادي بعد هذا الاغتراب المخيف تظلّ هذه
الأقباس التي حازوها مشتعلة في نفوسهم، فتنعكس بعد ذلك على رؤيتهم للحياة، وعلى
تصرفاتهم اليوميّة". وإذا كانت الكلمات هي
التي تشكّل عالم الشّاعر فمن
البدهي أن يكون الشّاعر أكثر الكائنات تقديرًا لقيمتها واستمتاعًا بحلاوتها وخوفًا
من شراستها وقسوتها:
لفظ مصمت
وأكاد
أصيح بقائله: اصمت
فالجرح
تدغدغه الألفاظ
لفظ قاتل
ذو ألف لسان تنفث سمًّا
أو
لفظٌ يُرديني.. لا قطرة دم
والسّكين
الألفاظ تشق اللحم
ويحق لنا
أن نتساءل أهو شاعر كتب كلماته أم هي كلمات " كتبت شاعرها"
ربما لذلك
كتب صلاح عبد الصّبور في إحدى مقالاته
المنشورة في الجزء السابع "أقول لكم عن الحب والفن والحياة" أنّه
كان يعتبر نفسه أميرًا في مملكة الكلمات، وأنّه كان يرى الكلمات ثمرة
سعيٍ مضنٍ ومكافأة عن رحلات شاقّة وراء
الألفاظ والمعاني.. رحلات استغرقت العمر كلّه، وشغلته كالمعشوقة الغيور عن أن ينظر إلى أي وجه من وجوه الجمال، وأنّه
ذات يوم تخيّل أنّ للكلمات طعمًا ورائحة ووزنًا وملمسًا.
لكن
المفارقة الأليمة تكمن في أنّ هذه الكلمات المعشوقة في تجلّيها الحسيّ المتنوّع
وحضورها الجسدي الفائق ، كانت هي النافذة
التي أطلّ منها شاعرنا منذ بواكير شعره الأولى على عالم الموت الغياب متجسدًا في
رحيل أبيه في إحدى الصباحات البعيدة:
وأتى نعي أبي هذا الصباح
نام في الميدان مشجوج الجبين
حوله الذؤبان تعوي والرياح
ورفاقٌ قبّلوه خاشعين
وبأقدام تجرّ الأحذية
وتدقّ الأرض في وقع منفر
طرقوا الباب علينا
وأتى نعي أبي
إلى آخر
قصيدة منشورة في الأعمال الكاملة لصلاح عبد الصبور
وهي قصيدة
"الموت بينهما"
وما بين
هاتين القصيدتين يطلّ الموت بمفاهيمه المتعددة وتجلياته المتنوعة من حنايا المتن
الشعري لشاعرنا، فضلًا عن حضوره اللافت في مسرحه الشعري، كما نرى في عتبة العناوين
قولًا مثل (بعد أن يموت الملك) أو تلميحًا مثل " مأساة الحلاج: بجانب حضور
دلالاته المتعددة في مسرحيات(مسافر ليل) والأميرة تنتظر و"ليلى
والمجنون" وكذلك في بعض عناوين كتب صلاح عبد الصّبور النثريّة ككتاب (حتى نقهر
الموت).
ومن
الغريب حقًا أن نرى ذلك الحضور المهيمن
لقيمة الموت في ديوان عبد الصّبور الأوّل " الناس في بلادي"، الأمر الذي
دفع ناقدًا كالدكتور علي عشري زايد إلى
التعليق قائلًا:" ويروع القارئ مدى ضخامة الرقعة التي يحتلها الموت من مساحة
الرؤية الشعرية في هذا الديوان" إذ نلمح
حضور الموت عبر رحيل الأب والأخ والصديق بمستواه الحقيقي المباشر، ونرى حضوره
الرمزي عبر تيمة الطارق المجهول في قصيدة " رحلة في الليل" وحضوره
المرتبط بتيمة موت الطفل الحب كما في قصيدة"طفل" وحضوره مقترنا بالموت
في سبيل صنع الحياة، كما في "شنق زهران" وفي سبيل المبدأ كما في (نام في
سلام) لترتقي دلالة الموت من الإشارة إلى الرحيل الجسدي المتكرّر إلى معاني
التضحية والبذل والعطاء والإيثار والاستشهاد والفداء من أجل البشريّة ومن أجل
القيم الإنسانية العليا، وفي هذا الإطار تتلاقى تلك الرؤى مع سعي شاعرنا في أعماله
اللاحقة لإدانة تيمة الموت المعنوي أو
الانتحار المعنوي والخوف من مواجهة الحياة.
كما في
قوله:
"ألا ما أتعس الإنسان حين يموت
في أعماقه الإنسان"
أو في
تنويعاته المسرحية على تيمة الأحياء الموتى والموتى الأحياء التي استقاها من إليوت
أو من إعادة تأويله لفكرة الموت متأثرًا بنيتشه في تشوقه للأجيال التي تلد الإنسان
الأعلى محولًا دلالة الموت من الجبر والإذعان إلى الاختيار العاقل الواعي المتعانق
مع رؤية حضارية تسعى للأفضل.
أقول لكم بأن الموت مقدورٌ وذلك حق
ولكن ليس هذا الموت حتف الأنف
تعالوا خيّروا الأجيال أن تختار ما تصنع
لكي توسع
لمن يتبع
فلن تختار غير الموت
أو في
إدانته لإنسان العصر الحديث الذي يخشى مواجهة الحياة ولا يسعى إلى خوض غمارها فيظل
أشبه بجثة تسعى على قدمين بلا روح :
"أنا
رجعت من بحار الفكر دون فكر
قابلني الفكر، ولكنّي رجعت دون فكر
أنا رجعت من بحار الموت دون موت
حين أتاني الموت لم يجد لدي ما يميته
وعدت دون موت".
وإذا كان
الناس كما يقول بوسويه " يهتمون بدفن أفكارهم عن الموت اهتمامًا لا يقل عن
دفن موتاهم" فإنّ الفنانين الأصلاء والشعراء الكبار لا يفرون من تلك المواجهة، بل
يسعون إليها سعيًا، ويحاولون الانتصار على الموت
بصنع معنى للحياة ومنازلة فكرة العبث أو المرور العابر على سطح الحياة دون النزوع إلى التجذّر في أعماقها،
ولهذا فقد ظلّ صلاح عبد الصبور يصرخ في البريّة ويدين في سخرية مريرة فكرة "الأيّام بلا أعمال" التي تورّطت
فيها الجموع الغارقة في السلبيّة. وأضحت قرينة مؤانسة لساعات الموت
اليومي.
هذا يوم" بعناه للموت اليومي
بحياة زائفة صلدة
وفرحنا أنّا ساومناه
وخدعناه ومكسناه
ما أحسن أنّا علّقنا هذا اليوم
الغارب
في منحدر الشّمس فهوت ببقاياه
ومن ثمّ
كان الشعر هو الملاذ الصادق للشاعر وخلاصه الحقيقي وأداته العليا وسلاحه الماضي كي
يقهر الموت اليومي الذي كان يراه دائما في ساعات السعي المضني ومتاهات الجموع العابرة
أنا مصلوبٌ والحب صليبي
وحملت عن الناس الأحزان
في حبّ إله مكذوب
لم يسلم لي من سعيي الخاسر إلا
الشعر
كلمات الشعر
عاشت لتهدهدني
لأفر إليها من صخب الأيام المضني.
وإذا كان
صلاح عبد الصبور مؤمنا بأن الشعر هو الوجه الحقيقي للشاعر وصوته النابض بالحياة،
فمن المنطقي أن يرفض اختزال الإنسان في عبارة(الإنسان هو الموت) لوليم بتلرييتس
الشاعر الإيرلندي ويتجادل معه ملقيًا ظلالًا من الشكّ الكثيف حول صدقها ، مستحضرًا
ابتسامة الطفل المسكونة بميلاد الأمل وحركة التّفاعل الحضاري المنطوية على فعل التّطور والرقي ليرى من خلالهما استمرار الحياة وقدرتها الدائمة
على التّصدي للموت:
يا وليم بتلرييتس
كم أضنيت يقيني بفكاهتك الأسيانة
بذكاء القلب المتألّم
لكنّي أسأل
إن كان الإنسان هو الموت
فلماذا يتبسّم هذا الطفل الأحور
ولماذا جاز البحر المزبد
حتى حطّ على شبّاكي الشرقي الموصد
هذا العصفور الأسود
هذا البيت
الإنسان هو الموت.
لذلك ظلّ
صلاح عبد الصّبور على يقين دائم بقدرة الشّعر على
صياغة الحياة الروحيّة للمجتمع مؤمنًا بأنّ الأمّة تستطيع أن تقهر الموت بالفن،
مرددًا مقولته الصادقة: حين يولد فنّان تعرف الأمّة أنها قد قهرت جيشًا من جيوش
الموت.