الإثنين 1 يوليو 2024

أغسطس 1981.. سهرة مشئومة

فن22-10-2020 | 12:19

لا أزال أذكر أيام شهر أغسطس 1981، كانت حدة الهجوم المباشر على صلاح عبدالصبور، بسبب عدم استقالته من رئاسة هيئة الكتاب احتجاجا على اشتراك إسرائيل فى معرض الكتاب، قد أخذت فى التراجع مع مضى الأشهر، لكنها تركت مرارة حائمة فى المناخ المحيط بهيئة الكتاب. كما خلفت جرحاً غائراً فى وجدان صلاح عبدالصبور الذى فوجئ بحدة الهجوم عليه ممن حسبهم أصدقاءه. ذلك على الرغم من أنه رفض طلب إسرائيل الاشتراك فى المعرض بحجة أن الطلب قدم بعد انتهاء موعد قبول الطلبات. ولكن القادة فى إسرائيل لم تقبل الرفض، فأبلغوا احتجاجهم إلى أنيس منصور الذى أبلغه إلى السادات، فأمر السادات على الفور بقبول إسرائيل فى معرض الكتاب، وكان على صلاح عبدالصبور التنفيذ مرغماً. وهو يشعر بما يمكن أن يترتب عليه من ثورة المثقفين الذين كانوا مجمعين على رفض التطبيع، وحاول عرقلة الأمر أو الحيلولة دون تنفيذه، ولكن ذهبت محاولاته كلها أدراج الرياح. خصوصاً مع إصرار السادات، رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت. واضطر صلاح إلى قبول الأمر الواقع، وبذل جهداً مضنياً طوال أيام المعرض العاصفة لتخفيف الصدام بين أجهزة الأمن والمتظاهرين، وسعى أكثر من مرة إلى فض الاشتباك حماية للشباب الذين كان متعاطفاً معهم، والذين كانت ثورتهم عليه تزيد من حدة توتره بين الالتزام بحدود الوظيفة والثورة عليها أو الاستقالة منها، ولعله لم يستقل من منصبه لإدراكه أن الاستقالة ما كانت توقف ما سبق أن قررته الدولة. ولعله آثر السلامة على الصدام المباشر مع السلطة الساداتية التى كانت مستعدة للبطش بالمخالفين لها أو الخارجين عليها، فانطوى على أحزانه الجديدة. وأضافها إلى حزنه الثقيل الذى أطبق على شعره كأنه عذاب مصفدين فى السعير.

وكنت أشرف وحدى فى أيام أغسطس الخانقة من عام 1981 على طباعة العدد الرابع من مجلة (فصول) الذى كان من المفترض أن يكون قد صدر فى شهر يوليو حسب موعده، ولكن مقدِم رمضان، وتراخى عمال المطابع، ومتاعب التصحيح، كلها عاقت المجلة عن الصدور فى موعدها المحدد، وأجبرتنا على تأخير الصدور أسبوعين أو ثلاثة، كان رئيس التحرير عز الدين إسماعيل مسافرا إلى ألمانيا، خصوصا بعد أن اطمأن إلى اكتمال مقالات العدد، وكتب افتتاحيته التى كان يكتبها لكل عدد تحت عنوان (أما قبل). أما الصديق صلاح فضل زميلى الذى كان مثلى نائباً لرئيس التحرير فقد غادرنا عقب صدور العدد الأول إلى مدريد للعمل مستشاراً ثقافياً، وظهر العدد الثانى يحمل اسمه - فوق اسمى حسب الأقدمية فى الدرجة الأكاديمية- لأنه اشترك معنا فى التخطيط له. أما العدد الثالث فلم يحمل اسمه، وانفردت وحدى بمنصب نائب رئيس التحرير. بعد أن استعنا بالصديق المرحوم سامى خشبة للعمل مديراً للتحرير.

وكنت أذهب إلى مبنى الهيئة المصرية العامة للكتاب على كورنيش النيل فى رملة بولاق يومياً، واتعارك كل صباح مع عمال المطابع لكى يصدر العدد الرابع من (فصول) بأسرع وقت، وألا يتأخر أكثر مما تأخر، وكنت أمر على مكتب صلاح عبدالصبور يوميا، فقد كان المكتب يقع فى الدور الأول من المبنى، فى منتصف الطريق ما بين مكتب (فصول) الذى كان فى الدور الثانى والبدروم الذى كان يقود إلى المطابع، وكنت كلما واجهت مشكلة البيروقراطية الإدارية، أو أضيق ذرعاً ببطء العمل. أذهب إلى صلاح الذى توثقت علاقتى به على نحو غير مسبوق طوال السنة التى عملتها إلى جواره، والتى جعلتنى ازداد قرباً إليه ومعرفة به بحكم اللقاء اليومى الحميم.

ومضى العمل فى (فصول) بمشكلاته المعتادة، لم يكن يقطعه إلا التعليق على الأخبار، أو الاستماع إلى الشائعات، أو مناقشة بعض القضايا الأدبية الصغيرة التى كانت تظهر على السطح الساكن للحياة الأدبية كالفقاقيع التى سرعان ما تختفى. ومن هذه القضايا ما حاول البعض إثارته من ضرورة العودة إلى نظام (إمارة الشعر) أو (عمادة الشعر) قياساً على عمادة الأدب التى منحت صفتها لطه حسين (عميد الأدب العربى) أيام صدامه مع حكومة صدقى باشا فى مطلع الثلاثينيات، وقياساً على تنصيب شوقى أميراً للشعر فى العشرينيات. واقترح البعض تنصيب صلاح عبدالصبور أميراً للشعر، ربما رداً على الهجوم الذى انصب عليه من بعض الأصوات العربية، ولكن صلاح نبذ هذه الفكرة، وسخر منها، ولم يكف عن التنكيت على أصحابها فى الجلسات التى كانت تضمنا.

ولكن سخريته لم تكن تخلو من مرارة متصاعدة، طوال الأشهر المتتابعة من عام 1981، فقد أخذ يضيق بقيود منصبه وأعباء الالتزامات التى كان يضيفها إليه منصور حسن وزير الثقافة فى ذلك الوقت، ويتحدث كثيراً عن رغبته فى التحرر من الالتزامات الوظيفية، مؤكدا أن حياته أصبحت نثراً سخيفا دفع الشعر إلى الفرار، وأصاب ينبوع الإبداع بالجفاف. وكان يحدثنى فى الأشهر الثلاثة الأخيرة السابقة على موته المأساوى عن مشروع للذهاب إلى إحدى جامعات الولايات المتحدة للعمل أستاذاً زائراً لتدريس الأدب العربى، ولكن المشروع فيما يبدو تعثرت خطواته أو تأخرت، فظل يعانى من جهامة الروتين الوظيفى، ومن غلظ الحياة اليومية التى كانت تصيبه بالإحباط.

وكان يزيد من هذا الإحباط توتر المناخ السياسى الذى أصبح مشحوناً بالعنف. وكان الصدام يتصاعد بين نظام السادات وحلفائه الجدد من الجماعات الإسلامية الذين استعان بهم للقضاء على قوى المعارضة الناصرية والقومية واليسارية. فانقلبوا عليه، ودخل معهم فى الصراع الذى لم ينته إلا باغتياله بعد مرور شهرين فحسب من موت صلاح عبدالصبور. وكان خطاب التأسلم السياسى يزداد ارتفاعاً وتأثيراً، خصوصاً بعد قيام الثورة الإيرانية التى أطاحت بالشاه، وأعلنت الجمهورية الإسلامية فى يناير سنة 1979، وذلك جنباً إلى جنب تصاعد نبرة العداء للولايات المتحدة الأمريكية التى تحالف السادات معها ضد الاتحاد السوفييتى، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تقع أحداث تنذر بفتنة دينية بين المسلمين والأقباط، على نحو ما حدث فى (الزاوية الحمراء) وغيرها، وأخذ خطاب التأسلم السياسى يتصاعد، جنباً إلى جنب خطاب المعارضة من القوى السياسية المناقضة، وفى الوقت نفسه، كان النفور من تنازلات السادات التى وصلت إلى ذروتها بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد فى سبتمبر 1978، الأمر الذى تبعه تعليق عضوية مصر فى جامعة الدول العربية فى مارس 1979، وتزايد المعارضة السياسية الداخلية للسادات من الاتجاهات القومية والناصرية واليسارية على السواء، وازداد التوتر بتسارع إيقاع الصدام بين نظام السادات وجماعات التأسلم السياسى، وذلك على نحو غير مسبوق أخذ ينذر بمخاطر غير عادية.

هكذا، كان مقدم الأول من أغسطس سنة 1981، ثقيلاً، مستفزاً، مشبعا بالحرارة والرطوبة والتوتر والترقب والترصد فى آن واحد، وكنت أتطلع إلى الانتهاء من طبع (فصول) مع نهاية الأسبوع الثانى من الشهر، والانطلاق بعد ذلك إلى عطلة للراحة من عناء كل شىء، أو على الأقل التفرغ لقراءة ما أريد. وكنت قد فرغت من إعداد بحث عن (أقنعة الشعر المعاصر) فى العدد الذى دارت به المطبعة، وأخذه صلاح لقراءته. ولم يشعر بالغيرة لأن الموضوع كله عن شعر أدونيس، مع إشارات ثانوية إلى غير أدونيس من الشعراء الذين استخدموا القناع فى القصيدة، أو قصيدة القناع بعبارة أكثر دقة. وحدثنى صلاح كثيراً عن رأيه فى شر أدونيس، سواء فيما كان يرفضه فى شعر أدونيس، وما كان يستحسنه من هذا الشعر. وأذكر أنه حدثنى طويلاً عن استعارات أدونيس، ونحن خارجين من مبنى هيئة الكتاب، وقال لى: إن أهم ميزة يراها فى شعر أدونيس هى أنه منجم استعارات غنىّ إلى أبعد حد، وأن ثراء المنجم الاستعارى فى شعر أدونيس لا يكاد يوجد عند شاعر غيره، وأذكر أننا توقفنا كثيراً على درجات مدخل الهيئة لكى يشرح لى فكرته، خصوصاً بعد أن دفعته إلى المزيد من الاستفاضة فى الحديث، بعد أن ذكرته بما قاله أرسطو فى كتابه (فن الشعر) من أن الاستعارة هى آية الموهبة الطبيعية وعلامتها، وأن كثرة الاستعارات الجديدة والحية هى مؤشر على حضور درجة عالية من الشعرية الاستثنائية.

وافترقنا إلى لقاء فى اليوم الثانى، وجاء اليوم التالى بمزيد من العمل الذى لم ينقطع إلا باستدعائه لى، فذهبت إليه فى مكتبه، وهناك، وجدت أحمد عبدالمعطى حجازى الذى قد عرفنى عليه قبل ذلك بأيام، ولم أكن أعرف أحمد عبدالمعطى حجازى معرفة شخصية قبل ذلك، فلم أختلط برموز الحياة الأدبية المصرية اختلاطا حميماً إلا فى السنوات الحرجة التى دفعت حجازى إلى الهجرة وإيثار المنفى الباريسى الاختيارى على البطش الساداتى غير الاختيارى، وكان حجازى قادماً فى عطلةاستكشافية قطع ما إقامته فى منفاه الاختيارى فى باريس، حيث كان محسوباً على المعارضين للنظام الساداتى، ومعادياً لسياساته، الأمر الذى أدى إلى الهجرة الثقافية الكبيرة التى فرضها نظام السادات على الكثيرين من المثقفين المصريين الذين ضاق بمعارضتهم له، كما ضاقوا بعدائه لاتجاهاتهم وتحرشاتهم، وأجهزته القمعية بهم، وسعدت بمعرفة حجازى الذى لم أكن أعرفه شخصياً من قبل، وفرحت بزيارته لنا فى مجلة (فصول) التى سعد بها كثيراً، كما سعد بها كل المثقفين الحقيقيين فى ذلك الوقت، وجلست إلى أحمد حجازى وصلاح عبد الصبور نتحدث عن الشعر والشعراء، ربما بمناسبة أن عدد (فصول) الرابع الذى أوشك أن يفرغ منه عمال المطبعة كان عن الشعر المعاصر، وانضم إلى المجلس قادمون لزيارة صلاح، فتشعب الحديث، وظل ممتداً إلى أن تركت مجلسهم لأعود إلى المطبعة لأتأكد من انتظام العمل فى الطباعة.

ومر يومان أو ثلاثة، لا أذكر الآن على وجه التحديد، وكانت المطابع تدور بالملزمة الأخيرة من المجلة لكن حدث خطأ أزعجنى أثناء الطبع، وكان لابد من الشكوى إلى رئيس الهيئة كى لا يتكرر الخطأ، فذهبت إلى مكتب صلاح منفعلاً، ثائراً، أشكو إليه تكاسل المطابع وإهمال بعض موظفيها، وتقبل ثورتى باسماً، وحدثنى عن (زكاة البدن) التى ذكرها بعض الفقهاء، شارحاً لى أن المثقف المعاصر لابد أن يؤدى هذه الزكاة فى العمل الثقافى، وأن عنت العمل وإرهاق البيروقراطية ومحاربة ذلك هى الوجه الآخر من تحمل الهجوم الظالم وغيره من الهموم التى لابد أن نواجهها بوصفنا مثقفين، ولم ينته من كلامه إلا بعد أن ذهب غضبى وتبدد انفعالى. وقدم أحمد حجازى أثناء ذلك، فتلقاه هاشاً باشاً، وأخبره حجازى بأن عيد ميلاد ابنته اليوم، وأنه سيحتفل به مع الأسرة فى المساء وبما أن صلاح وأسرته امتداد للأسرة فلابد من حضوره مع أسرته، وتكرم حجازى بدعوتى معهم، وكتب لى عنوان بيته الذى ذهبت إليه فى ذلك المساء الذى لا ينسى من أغسطس للمرة الأولى فى حياتى، ولم يتركنا حجازى إلا بعد أن تأكد من حضورنا، وبعد انتهاء العمل فارقنا صلاح على أن ألقاه فى المساء فى بيت حجازى، وانصرف هو إلى مبنى التليفزيون لتسجيل برنامج شارك فيه، ولم يكن يعلم هو ولا الذين سجلوا معه أو له أنها المرة الأخيرة للقائه فى مبنى التليفزيون المطل على النيل .

ذهبت إلى منزل أحمد حجازى بالفعل فى مساء الرابع عشر من أغسطس سنة 1981. كانت وقدة الحرارة قد خفتت. لكن آثارها لم تغادر الهواء تماماً، فظلت كالرطوبة الباقية عالقة بالنسمات الواهنة التى كنا نرجو مقدمها سدى. وكان مجلسنا فى حجرة (الصالون) فى شقة حجازى التى تقع فى الدور الخامس، بعد سلالم مرهقة، صلاح وزوجه المرحومة سميحة غالب، والعزيز أمل دنقل وزوجه عبلة الروينى، والأستاذ بهجت عثمان، رسام الكاريكاتير الذى عرفنى به حجازى بوصفه صديقاً قديماً له ولصلاح معا، حين كانا يعملان فى دار روزاليوسف، وكان بهجت الرسام زميلهما فى العمل، وصديقهما فى سهرات خارج العمل، وكانت تلك هى المرة الأول التى أرى فيها بهجت عثمان عليه رحمة الله.

وكان بهجت عثمان فناناً متميزاً برسومه الكاريكاتيرية التى كان ينشرها فى جريدة (الأهالى) لسان حال التجمعات اليسارية التى أزعجت السادات، فاضطر إلى إغلاقها فى الوقت الذى أطلق العنان لمجلات ومطبوعات القوى المعادية للشعارات القومية المرتبطة بالوحدة والحرية والاشتراكية، وكان بهجت نجم الحركة الشيوعية المصرية فى فن الكاريكاتير، حيث برع فى السخرية اللاذعة من النظام الساداتى، وتبنى مصالح الفقراء، أو مصالح الشعب الذى كان يئن من كوارث الانفتاح الاقتصادى المتسبب، فخلق بهجت شخصية (بهجاتوس) الكاريكاترية، أضف إلى ذلك أنه هو الذى رسم الرسوم الداخلية لديوان صلاح الثانى (أقول لكم). ولم أتوقع أنه يمكن أن يتسم بما يتسم به الأصوليون من الشيوعيين، أولئك الذين سرعان ما يندفعون إلى اتهام المخالفين فى وطنيتهم، كما لو كانوا يريدون استئصالهم من الوجود، فى عنف رفضهم لأى شكل من أشكال الاختلاف معهم، لم أتوقع ذلك، فقد بدا لى بهجت عثمان شخصاً ودوداً، سعيداً بلقائه مع صديقه القديم صلاح عبد الصبور. وقلت لنفسى: محتمل أن صداقتهما ترجع إلى وقت اتصال صلاح بالماركسية عن طريق بعض المثقفين اليساريين، وذلك قبل تحوله عن الماركسية بوصفها انتماءً فكرياً.

وأخذت السهرة مجراها المعتاد من الأحاديث والمشروبات، وعرجت على الذكريات المشتركة التى جمعت بين صلاح وحجازى وبهجت فى (صباح الخير) و(روزاليوسف) حيث عمل صلاح محرراً طوال النصف الثانى من الخمسينيات، ولحق به حجازى، إلى أن ترك صلاح مؤسسة (روزاليوسف) ليعمل فى جريدة (الأهرام) إلى جانب لويس عوض الذى كان مستشاراً أدبيا لمؤسسة (الأهرام) فى الستينيات، ولم يقطع تداعى الذكريات سوى ارتفاع إحساسنا بالحر، فلم يكن منزل حجازى يعرف رفاهية التكييف بعد، الأمر الذى فرض عليه أن يقترح انتقالنا إلى (بلكونة) الحجرة المجاورة لنقترب من مجرى الهواء، وخرجنا من الغرفة، وجلسنا فى (البلكونة) التى احتل صلاح وحجازى طرفاً منها فى مواجهة بهجت الذى جلس إلى جواره أمل ثم عبلة، وكنت أجلس إلى جوار الباب، ودار الحوار مرة أخرى، منجذباً إلى الحياة التى نحياها، وإلى ما نعانيه من سياسة الانفتاح الاقتصادى التى فتحت أبواب الفساد على مصراعيها، وكان عبد الرحمن الأبنودى فى ذلك الوقت أصدر ديوانه (المشروع والممنوع) وسجل أغلب قصائده- إن لم يكن كلها - على شرائط تولت توزيعها زوجه - فى ذلك الوقت- الفنانة عطيات الأبنودى، وكان أمل قد حصل على أحد هذه الشرائط من الأبنودى، وطلب منا الاستماع إليها، فأحضر حجازى جهاز تسجيل، ووضع فيه الشريط الذى أخذنا ننصت إليه، وانطلق صوت الأبنودى -رحمه الله- يقول فى قصيدته (سوق العصر).

هذا أوان الأونطة

والفهلوة والشنطة

تعرف تقول: جود نايت

وتفتح السمسونايت

وتبتسم بالدولار؟

تقفل بيبان الوطن وتقول بتفتحها؟

وترمى مفتاحها؟

وتبيع فى أمك وأبوك؟

وكانت قصيدة الأبنودى صريحة، جارحة، مؤلمة فى كشفها أوجه الفساد الجديد وتعريته وإدانته فى الوقت نفسه، وكان صوت عبد الرحمن لا يجسد أحزان البسطاء من أبناء الشعب الذين طحنتهم سياسة الانفتاح فحسب، بل يجسد فى الوقت نفسه الغضب المكتوم فى نفوس المثقفين المحزونين، أولئك الذين أرهقهم الشر الذى استولى فى ملكوت الله، وعذاب السؤال عن السبب الذى أدى إلى أن يتغلغل فى وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد، وأحسبنى انتبهت فى سياق غضب الاحتجاج الذى شحنتنا به القصيدة إلى أن محوراً أساسياً من محاورها يدور حول التراجع فى مستوياته المتعددة، منها تراجع الدولة عن شعاراتها التى ظلت ترفرف كالأحلام معلنة رايات الوحدة والحرية والاشتراكية، وتخليها عن هذه الشعارات كلها، واستبدالها الوحدة بالانقسام، والقمع بالحرية والظلم الاجتماعى بالعدل الاجتماعى، ومنها تراجع المثقفين عن مواقفهم ومواقعهم المعلنة خلال العهد الناصرى، وتخليهم عن التزاماتهم القديمة وانحرافهم نتيجة الضغوط الجديدة التى ارتبطت بغواية الدولارات التى أخذت  تلوح فى الأفق كالوهم، منذ زيارة نيكسون الشهيرة التى كانت بداية “الطوفان الجديد” الذى تتحدث عنه القصيدة، ومضينا نستمع إلى بقية القصيدة ووصلنا إلى المقطع الذى يقول :

ما احناش فى زمن الشعب

ما احناش جسد واحد

ولا احناش لون واحد

ولا موجهين بنادقنا الغلط فى الكون

ولا بندخل صعب

أخطف وفر

بلا شعب بلا غيره

إن كان هو يقر إحنا نقر

وابقى واضح زى ابتسامة السر

وعقب صلاح على المقطع بقوله: صحيح شعب يستحق ما يجرى له، ما دام يسكت على سارقيه، وما دام لصوصه مطمئنين إلى أنه لا يمكن أن يقر، أو يتمرد، ولم يكد يفرغ من جملته حتى اندفع بهجت عثمان منفعلاً، وكيف يقر الشعب يا صلاح ومثقفوه خانوه وباعوه، باغتت جملة بهجت صلاح، وبدا كما لو كانت الجملة أثارت ما كان مكبوتاً داخله، فانطلق سائلاً بهجت عن ما يقصده بالمثقفين الذين باعوا، فاندفع بهجت فى غلظة قائلاً: أقصد أمثالك يا صلاح من الذين باعوا قضيتهم بملاليم، واحتقن وجه صلاح الذى رد غاضباً على زميله القديم، مؤكداً أنه لم يبع، ولم يتخل عن موقف اتخذه، واحتدم فى التعليق على بهجت الذى بدا كما لو كان اندفع إلى النطق بجملة ما كان ينبغى قولها، وتدخلت لتهدئة الجو معلناً أننا ما جئنا للعراك السياسى، كما تدخل حجازى بتذكيرنا بعيد ميلاد ابنته، وسكت صلاح متألماً من الموقف، كما ظل أمل على صمته مع زوجه التى ظلت ترقب دون تعليق، وهدأنا قليلاً، محاولين تجاوز الموقف، فقد تعودنا لغة الاتهام المتبادلة بين المثقفين بلا وجه حق فى كثير من الأحوال، وبررناها فيما بين أنفسنا بأنها حوار المقتولين القتلة، خصوصاً فى زمن لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله، وكنت، ولا أزال، أرى فى ظاهرة عنف الخطاب المتبادل بين المثقفين نوعاً من التعبير عن القمع الواقع على الجميع، ولا يزال رأيى أن القمع معد، وأنه يقع على المقموع فينتقل منه إلى أشباهه الذين يمارس عليهم المقموع قمعه، تعبيراً عن عجزه عن رده على قامعه الأصلى، فيبدو الأمر كما لو كان القمع ينعكس على المقموع الذى يغدو كالمرآة التى تعيد إرسال القمع الواقع عليها إلى الغير، وكنا جميعاًَ نعانى وطأة نظام فاسد، وكان ضيقنا بالنظام يدفعنا إلى الضيق بأنفسنا ومن حولنا، فتبادل العداء والعنف، بدل توحيد جهودنا لتوجيه عدائنا وعنفنا إلى أصل الداء والعلة، وصدق صلاح عندما وصف جماعة المثقفين بأنهم «المقتولون القتلة».

وأتصور أن هذا هو السبب الذى لم يدفعنا فى تلك الجلسة إلى تعنيف بهجت على ما قال، أو زجره على نحو صارم، فقد كنا جميعاً موجوعين، وكنا جميعاً ننفث غضبنا من أنفسنا فى أنفسنا ومن نحبهم فى الوقت نفسه، لكن اللعنة على هذا النوع القاتل من وجع العنف الذى يدفعنا إلى تمزيق أنفسنا، فنبدو ساديين أو مازوكيين على نحو غير إنسانى، إنه ليس وجهاً فى الحقيقة، وإنما هو آفة كريهة وجرثومة قاتلة لم يخل منها خطاب المثقفين إلى اليوم، وخصوصاً خطاب الأصوليين من الشيوعيين الذين يشبهون أقرانهم من الأصوليين الذين يرفعون شعارات الدين، هؤلاء يغتالون بالكلمات القاتلة التى تغرس تهم الخيانة والعمالة والتنازل والمهادنة والبيع للسلطة كالخنجر فى قلوب الشرفاء المختلفين فى الرأى أو الموقف، وأولئك يغتالون بكلمات من الجنس نفسه تبهم الكفر والإلحاد والانحراف والضلال الذى يحرم المتهم به من راحة الدنيا ونعيم الآخرة، ولذلك شعرت -إزاء بهجت عثمان- بالنفور الذى لا أزال أشعر به من كل ممارسى الاتهام المجانى، ومن كل مشعوذى الأفكار الذين يتخيلون أنفسهم الأنقى، والأصوب والأكمل، وغيرهم المخالفين لهم من الخونة والعملاء، ولم أتوجه بكلمة واحدة إلى بهجت بعد ذلك، وحرصت على تجنبه بعد ذلك طوال حياتى، فلم أغفر له ولا لغيره إلى اليوم هذا العنف المجانى فى استخدام الكلمات القاتلة الحمقاء، ورغم محاولات هذا الفنان الجميل الاعتذار لى بشكل غير مباشر فى المرات القليلة التى تقابلنا فيها بعد ذلك، فقد ظلت فى ذاكرتى جثة صلاح التى تساقطت عليها دموعى فى المشرحة، المشهد الذى أغلق قلبى فى وجه بهجت عثمان الذى لا أنكر أنه قيمة كبيرة فى فن الكاريكاتير، رحمه الله ورحمنا معه على أية حال.

ويبدو أن بهجت بعد أن فعل ما فعل شعر بأن ما يدور فى داخلى يدور فى داخل غيرى، فجلس صامتاً تماماً، ملامحه تشى بندم يندفع من قلبه إلى وجهه، ولم يفتنى ملاحظة ذلك رغم أن مجرى الحديث اتجه وجهة أخرى، سعينا -حجازى وأمل وأنا- إلى دفعها بعيداً عن لحظة التوتر المدمرة التى ظلت معلقة فى الفضاء كحد المقصلة، وكدنا ننجح فى البعد عن اللحظة المدمرة، ولكننا عدنا إليها رغماً عنا جميعاً بعد دقائق، فقد كانت زوج صلاح المرحومة سميحة غالب فى الغرفة المجاورة مع سهير عبدالفتاح زوجة حجازى ومعهما البنات، وسمعت سميحة ما قاله بهجت عن زوجها، فانتفضت غضباً بالطبع، ولم تفلح محاولات سهير طويلاً فى إسكاتها، فقد شعرت بأن الإهانة التى وجهها بهجت إلى صلاح هى واحدة من إهانات متكررة من أعدائه (الشيوعيين) الذين يريدون تحطيمه، فاندفعت خارجة من الغرفة، قادمة إلينا فى ثورتها، تتبعها ابنتا صلاح عبدالصبور: مى ومعتزة، صغيرتين بريئتين مروعتين من ثورة الأم، ومن صياحها المتدافع، وتلقينا نحن الجلوس هذه الثورة التى بدأت ببهجت الذى اعتذر بعد جمل قصيرة وانصرف خارجاً، منسحباً من المكان كله، ونالت ثورة سميحة من حجازى الذى جاء ببهجت ليهين صلاح فى بيته، وكان ذلك اتهاماً ظالماً لا معنى له ولا أصل له، فقد كان هدف حجازى هو جمع صديقين قديمين، ربطت بينهما مشاعر إنسانية طيبة، حتى لو اختلفا سياسياً.

ولم تهدأ ثورة سميحة غالب إلا بعد انسحاب بهجت واعتذارات حجازى المتكررة، وبكاء الصغيرتين المروعتين، معتزة ومى ومطالبة صلاح لها بالسكوت والعودة، من حيث جاءت، وكان وجهه محتقناً احتقاناً شديداً، وصوته متهدجاً فى توتره، ولم تخل حركات يديه من رعشة غضب وحزن، تجاوبت مع ملامحه التى ازدادت عتمة من الحزن خصوصاً بسبب بكاء الابنتين اللتين كان يحبهما حباً غير عادى، ويرجو لهما المستقبل الواعد بكل ما حرم منه فى صغره، وهدأت عاصفة سميحة غالب، لكن بعد أن هبطت مقصلة اللحظة المدمرة على الجلسة فأفسدتها نهائياً، ولم يبق منها سوى أشلاء وشظايا حاولنا أن نلملمها بلا أمل فى نجاح، فقد خيم حزن ثقيل علينا، حزن كالأفعوان بلا فحيح، لكنه ينفث سمه فى مسام أجسادنا وذرات الهواء حولنا.

- 2 -

بعد أن هدأت عاصفة تلك الليلة المشئومة من ليل الرابع عشر من أغسطس سنة 1981، وأقبل علينا سكون الليل الذى جاوز منتصفه حاملاً بعض السكينة، أخذنا -حجازى وأمل دنقل وأنا- نحاول نسيان ما جرى، ونستبدل بالريح السوداء نسمات أخرى منعشة، قال صلاح إنه يشعر بإرهاق وصداع وضغط ثقيل الوطأة يطبق على صدره، وأنه يفضل العودة إلى المنزل مع الأولاد، فرجاه حجازى أن يستريح قليلاً، وأن لا ينزل على هذه الحالة، ودعاه إلى أن يستريح قليلاً على سرير قريب من مجلسنا فى الغرفة التى كنا نجلس فى شرفتها، وقام صلاح متثاقلاً، وأسلم نفسه إلى السرير، وظننا أنه سوف يغدو أفضل بعد راحة قصيرة، وأن انفعالات غضبه لا بد أن تهدأ بعد هجعة هادئة، وحاولنا أن نشغل أنفسنا بأحاديث تخرجنا من شراك اللحظة التى أطبقت علينا، ولم يمض وقت طويل، فبعد حوالى ربع ساعة، نهض صلاح من رقدته، وأخبرنا أنه يشعر بضيق فى تنفسه وأن صدره لا يزال يطبق عليه، فاقترح حجازى أن نذهب إلى مستشفى هليوبوليس القريبة من منزله، للاطمئنان ثم العودة، ووافق صلاح، وخرجنا معاً، وهبطنا نحن الثلاثة - صلاح وحجازى وأنا - درجات سلم منزل حجازى الذى بدا بلا نهاية، وركبنا سيارتى القديمة التى كنت اشتريتها من صديق ميسور الحال باعها لى بثمن بخس، ووصلنا إلى الباب الرئيسى للمستشفى القريب، ودخلنا بحثاً عن طبيب، ولكنهم أخبرونا أننا دخلنا من الباب العمومى، وأن علينا السير إلى نهاية ممر بالغ الطول فى المستشفى لنذهب إلى قسم الطوارئ، حيث طبيب الطوارئ، وأخذنا نسير فى الممر الطويل اللعين، ونحن نقطعه بالكلام، وكان صلاح عادياً إلا من الإعياء الشديد الذى كان يقاومه، ويحاول أن يخفيه عنا.

وأخيراً، وصلنا إلى قسم الطوارئ، واستقبلنا طبيب شاب بحفاوة بعد أن عرف شخصية صلاح الذى كان فى حكم نائب وزير الثقافة، وكشف عليه بعناية واهتمام، بعد أن طلب منه الاستلقاء على منضدة الكشف الطبى، وشيئاً فشيئاً تصاعدت علامات الجدية والقلق التى أخذت تظهر على ملامح الطبيب الشاب الذى ظل يعاود الفحص، وينصت إلى ضربات القلب، ولم يتوقف إلا ليحاول أن يبعث الطمأنينة فى نفوسنا، خصوصاً بعد أن عرف القلق طريقه إلى وجوهنا، وأخبرنا أنه سيستدعى أستاذه جراح القلب لفحص الحالة على سبيل الاطمئنان فقط، خصوصاً بعد أن لاحظ أن ضربات القلب غير منتظمة، ولما رأى القلق يتصاعد على وجه حجازى ووجهى، أكد لنا أن كل شىء على ما يرام، كما أكد لصلاح أنه بخير وأنه يفعل ذلك على سبيل الاحتياط والمزيد من الاطمئنان، وتركنا ليعود إلينا بعد قليل معلناً أنه طلب أستاذه، رئيس قسم القلب بالمستشفى، وأنه فى الطريق، وأخبرنا أنه سيصطحب صلاح إلى غرفة العناية المركزة كما طلب الأستاذ، وأننا يمكن أن نصحب صديقنا، فلا شىء يدعو إلى الخوف.

وكان صلاح هادئاً طوال ذلك الوقت، لم يبد على وجهه قلق مفاجئ أو انزعاج، وظل مستسلماً للموقف متأملاً كعادته، لا تفارق وجهه بسمته الساخرة التى لم تخل من مرارة، ومضى موكبنا، صلاح نائماً على منضدة الكشف المتحركة، وأنا وحجازى حوله نحادثه، ونحاول أن نزيل عنه أى شعور بالقلق، وكلانا لا يفكر إلا فى أننا سنقضى بعض الوقت، ويحصل صلاح على بعض الدواء ونعود إلى بيت حجازى ومنه إلى بيوتنا، وتنتهى عتمة هذا الليل الكئيب، وقال لى صلاح، وسط تداعيات الحديث، ونحن منطلقين إلى غرفة العناية المركزة: هل تذكر ما حدثتك عنه من «زكاة البدن»؟ قلت: نعم، قال: هذه أيضاً «ذكاة بدن»، وحاول أن يشرح لى ما قصد إليه، لكنه لم يكمل الجملة الثالثة، فقد دخل إلى غيبوبة، فارتعدنا، ولفتنا انتباه الطبيب الشاب الذى كان معنا، فدفعنا إلى الجرى بالعربة فى اتجاه غرفة العناية المركزة، حيث يمكن إنعاشه وإعادته إلى الوعى مرة أخرى، وانطلقنا بأقصى قوتنا إلى أن وصلنا إلى باب الغرفة المطلوبة، ولحق بنا الطبيب الأستاذ الذى وصل سريعاً، وطلب انتظارى أنا وحجازى أمام باب الغرفة وعدم الدخول.

واستجبنا إلى كلماته الحاسمة، ووقفنا فى الممر المواجه لباب الغرفة، كلانا قلق لا يستطيع أن يقول شيئاً، ولم نفعل شيئاً سوى أن وقفنا صامتين، ننتظر الفرج، وندعو فى أعماقنا بأن تنتهى أزمة الغيبوبة على خير، ويعود صلاح إلى وعيه سالماً، ولم نلمح طائر الموت الذى تسلل إلى الغرفة، واختطف صلاح منا بعد أن توقف قلبه الذى لم يستجب لمحاولات الأطباء الذين فعلوا كل ما يستطيعون لإنقاذه، وبعد أقل من ساعة، خرج إلينا الطبيب الأستاذ ومعه الطبيبالشاب ليقول لنا ما لم نكن نتوقعه، أو حتى يمكن أن نتخيله فى أقبح كوابيسنا: البقية فى حياتكم، توقف قلب صديقكم نتيجة ذبحة، ولم نستطع أن نفعل له شيئاً، عزائى لأسرته، أعانكما الله على ما أنتما فيه، والبقية فى حياتكما، ومضى عنا الأستاذ والطبيب الشاب، وبقيت أنا وحجازى بلا حراك، بلا كلمة، بلا حركة، مسمرين، مروعين، مصعوقين.

وما كاد يثوب الوعى إلى نفسى حتى لاحظت انهيار حجازى، وشحوبه، وتهيأ لى أنه سيعانى ذبحة أخرى يضيع فيها هو الآخر، فاحتضنته تلقائياً، وأخذنا نبكى صديقنا الذى فقدناه غدراً، وظللنا نردد لأنفسنا جملاً انفعالية لا مغزى لها، كأننا نحاول بمجرد نطقها أن نقذف بالكلمات طائر الموت الذى كان لا يزال يحوم حولنا، لعله يرد إلينا صديقنا، ولكن ماذا تفعل الجمل المهتاجة إزاء الموت الذى بدا فاغراً فاه مستعداً بأنيابه التى تطلب المزيد.

وكان لا بد أن أسيطر على نفسى الملتاعة المروعة، خصوصاً مع انهيار حجازى الذى تزايد شحوبه المخيف، ولسوء الحظ، أو حسنه، لا أعرف، كانت الأيام قد علمتنى مواجهة المآسى، خصوصاً منذ أن مات أبى بقربى فى مستشفى لا يختلف كثيراً عن المستشفى الذى كنت لا أزال واقفاً فيه، وكان لا بد من التصرف وفعل المطلوب فى مثل هذه المواقف قبل العودة إلى منزل حجازى وإخبار أسرة صلاح التى تركناها فى رعاية أمل دنقل وزوجه عبلة فضلاً عن أسرة حجازى، وقد تركناهم على وعد بالعودة سريعاً، ولا شك أن القلق أخذ ينتابهم بعد أن طالت غيبتنا، ولكن لا بد من اتخاذ مجموعة من الإجراءات الرسمية فى المستشفى أولاً، ولم يكن معى (نوتة تليفونات) فى تلك الليلة، كى أستعين بها فى الاتصال بمن ينهض بعبء القيام بهذه الإجراءات، فطلبت ما أذكره من أرقام.

وكان الرقم الأول تليفون زميلتنا اعتدال عثمان سكرتيرة تحرير مجلة (فصول) فى ذلك الوقت، وكان زوجها أستاذ التخدير بكلية الطب فى جامعة القاهرة، لكنها لم تقدم عوناً يذكر، ولعلها استشعرت الحرج فى أن توقظ زوجها، بعد أن استيقظت هى، كى تطلب منه المجىء إلينا، فقررت فوراً الاتصال بأستاذتى سهير القلماوى، وكانت فى منزلة أمى، وأيقظتها من نومها فى الساعة الثالثة تقريباً بعد منتصف الليل، وأخبرتها بالمأساة التى حدثت، وبذلت - رحمها الله - جهدها لتهدئتى، رغم عنف الصدمة المأساوية التى أظهرتها نبرات صوتها الذى لم تستطع السيطرة عليه، فقد كانت تعتبر صلاح عبدالصبور أخاً صغيراً لها، وتلميذاً من أخلص تلامذتها، وفى النهاية، استجمعت نفسها، وطلبت منى بلهجة حاسمة أن أتصل فوراً بالأستاذ جمال حمزة وكيل أول وزارة الثقافة، وأعطتنى رقم الرجل الشهم النبيل الذى أخبرنى - فور أن نقلت إليه الخبر - أنه سيكون عندى بأسرع ما يستطيع، كما طلب منى أن لا أحمل هم أى شىء، فسوف يتولى هو كل الأعباء، وأحسبنى تذكرت تليفون أحمد زكى، رحمه.

أو أخذته من زوجتى التى أيقظتها ، ووعد أحمد زكى بالمجىء، وجاء إلينا بالفعل. ولكن كان جمال حمزة قد وصل إلى المستشفى ، وتولى الاتفاق مع إدارة المستشفى على كل شىء، وأخذ يتصل بكل الجهات المعنية والشخصيات المطلوبة، وتحمل عبء كل شىء فى إخلاص جليل ومحبة صادقة .

ولم يبق أمامى وحجازى سوى العودة إلى منزل حجازي، وقررنا عدم إخبار سميحة غالب زوجه بالخبر مباشرة، واصطحابها والبنتين إلى منزل شقيقها الذى يسكن قريباً فى مصر الجديدة، بعد أن قلنا لها إن المستشفى احتجزت صلاح للاطمئنان، وأنه سيظل إلى الصباح، وأنه طلب منا اصطحابها إلى منزل شقيقها لتستريح عنده، وتأتى إليه فى الصباح، وقد رأيت فيما اقترحه حجازى نوعاً من الخلاص المؤقت من مواجهة عبء إخبار زوجته بالكارثة، وعدت معه إلى منزله، وأخبرنا سميحة التى لم تجد مايدفعها إلى عدم تصديقنا، وأخذت تستعد للنزول معنا لاصطحابها إلى منزل أخيها .

ولكن يبدو أن ملامح وجهينا لم تفلح فى إقناع أمل دنقل بما حاولنا أن نقنع به سميحة غالب، فانتحى بى جانبا وسألنى وهو ينظر إلى عينىّ : هل مات صلاح؟ ولم أستطع أن أخفى عنه الحقيقة، وطلبت منه الصمت إلى أن نعبر محنة إبلاغ الزوجة، وتركناه هو وزوجه عبلة يستعدان للانصراف، ولكنه قبل أن يتركنى نطق فجأة - كما لو كان يخاطب نفسه - بسطرين وردا فى قصيدته : «من أوراق أبى نواس»:

كان أبى يمسك الجرح

يمسك قامته ، ومهابته العائلية

ولم يكن عندى مايدفعنى إلى سؤال أمل عن مقصده فى تلك اللحظة، فالمهم هو أن نمضى مع الزوجة والابنتين إلى منزل شقيقها، وأن نحمى الابنتين الصغيرتين من مواجهة ما نحن فيه، على الأقل إلى حين. ومضينا بالفعل، وبعد أن أدخلنا أسرة صلاح منزل الأخ الشقيق، أبلغناه بالكارثة وطلبنا منه إبلاغ أخته، وكانت صدمة المسكينة فظيعة، عجزت الكلمات عن تهدئة صرخاتها التى اندفعت تقطع السكون ، تتجاوب معها صرخات البنتين اللتين روعتهما الأم المكلومة بالخبر على نحو مباشر، مباغت، فوضعهتهما دون تهيئة أمام كارثة فقد الأب الحبيب، وأصرت سميحة غالب على أن تذهب إلى المستشفى، ولم يكن أمامنا سوى الاستجابة إلى رغبتها فى التزود من صلاح بنظرة أخيرة ، وذهبنا معها بالفعل، وأخرجناها بالقوة من الغرفة التى نقل إليها بعد الوفاة، ولكننى لم أستطع إلا أن أعود إلى الغرفة وحدى ، بعد ذهاب سميحة مع شقيقها، وتزودت من صلاح بالنظرة الأخيرة. كان نائما، هادئا، قميصه مفكوك الأزرار، يظهر منه بعض صدره ، وعلامات راحة تظلل وجهه العذب الذى بدا وكأنه تخلص من كل شىء مؤلم، خصوصاً بعد أن أصبح صاحب الوجه وحيداً مع الواحد الأحد، بعيدا عن طعنات الإخوة الأعداء من المقتولين القتلة فى زمن الحق الضائع .

ولاحظ جمال حمزة أننى أكاد أسقط إعياءً، فطلب منى العودة إلى منزلى والنوم ساعتين على الأقل، كى أستطيع أن أحضر الجنازة التى رتب لها كل شىء، ومضيت بعد إلحاحه. أوصلت حجازى إلى منزله ، وعدت إلى منزلى . لكن كيف كان يمكن للنوم أن يأتى إلى عينى ، فبقيت على حالى إلى أن جاء الوقت، وخرجت لأسهم فى الإعداد للجنازة التى مضت فى صمت حزين. وحملنا جسد صلاح إلى قبر أسرة زوجته بالقرب من مدينة نصر، وعدت من الجنازة إلى مجلة (فصول) بعد أن فتحت هيئة الكتاب أبوابها، وكان الخبر قد بلغ العاملين الذين أعلنوا الحداد فى الهيئة .

وذهبت من فورى إلى المطبعة، وكان بصحبتى كل من سامى خشبة مدير التحرير والصديق صبرى حافظ، وطلبت الملزمة الأولى من العدد، وأحضرت المشرف الفنى ، ورفعت الافتتاحية التى كان قد كتبها عز الدين إسماعيل، وكتبت افتتاحية أخرى عن موت صلاح عبدالصبور، وقلت تحت العنوان نفسه : أما قبل :

تحت هذا العنوان كتبت ألفاظ أخرى ، لكنها تمحى الآن، وماكنا نود لها أن تمحى وما كنا نحلم أن نستبدل بالتقديم نعياً. وماكنا نرجو أن نستبدل بالحوار عزاء. ولكن هاهو واحد من أشرف فرسان الكلمة، من أنبل من كتبوا الشعر، يتركنا راحلاً، معانقاً شجر الليل، ومبحراً فى ظلمة الموت. وعسير علينا أن ننعى صلاح عبدالصبور - فى هذه المجلة - فهى مجلته التى تحمس لها منذ أن سمع فكرتها، ومنحها فرصة الوجود، ولم يبخل عليها بكل ماكانت ترجوه من عونه ووقته وجهده . وبالأمس - فقط - كان يبتسم للعاملين بها، ويمسح بعباراته الجادة المرحة إرهاق العمل وقسوته. أكان يقول لنا الوصايا الأخيرة وهو يحدثنا عن «زكاة الوقت» التى لابد أن يبذلها المثقف من دمه وعرقه؟ أكان يخفف عنا بعض آلامه عندما حاول تخفيف آلامنا؟ أكان يترك أحلامه عن الكلمة التى تحيى أمة وديعة بين صفحات أشعاره؟ أكان يجسد بموته - الخاطف - ما سبق أن قاله من أن الإنسان ابن الموت هو نفسه الإنسان خالق الحياة؟ لقد مات صلاح عبدالصبور الجسد، ولكن صلاح عبدالصبور الكلمة لايمكن أن يموت، وهل يموت من علمنا أن نحلم بالمستقبل؟ ومن لقننا حكمة النبى الذى يحمل سيفاً؟ ومن علمنا معنى الظلم ومعنى القهر؟ وهل يموت من تنقل كلماته الريح السواحة، لعل فؤادً ظمآناً يستعذبها، فيوفق بين القدرة والفكرة، ويزاوج بين الحكمة والفعل؟ وهل يموت من علمنا أن نتنفس فى قيعان الزمن الآتى حتى نخرج للشطآن الضوئية، وهل يموت من لقننا رؤيا المستقبل؟.

الزمن الآتى بالنجمين الوضاءين على كفيه :

الحرية والعدل

الزمن الكاسر للذلة والظلم كما تنكسر زجاجة سم

الزمن المطلق للأنسام لتحمل حبات الخصب السحرية

وكان ذلك أول نعى ينشر لصلاح عبدالصبور، وأول عزاء معلن من أحد محبيه الذين تعلموا منه الكثير، ولم يتناقص تقديرهم له، ولا نسوا قدراته الإبداعية والإنسانية، رحمه الله ، فقد تحمل كثيراً من الاتهامات المجانية، وعانى كثيرا من تحالفات مؤمرات الإخوة الأعداء فى الأقطار العربية للانتقاص من مكانته القومية، وظل يتحمل السهام الجارحة لزمن موحش يموج بالتخليط والقمامة ، وظل الزمن الموحش قائماً يزيد من عتمته تخبط سياسة السادات الذى كشف عن براثنه الأخيرة بعد وفاة صلاح بأقل من شهر، ودخل فى صدام مع كل قوى المعارضة للتخلص منها، فنالتنى وأقرانى بركة الفصل من الجامعة بقرار السيد رئيس الجمهورية رقم 490 لسنة 1981 بعد ثلاثة أسابيع فحسب من موت صلاح عبدالصبور الذى كان بعضاً من الموت المؤقت لقيم الحرية والعدل فى وادينا الطيب.