السبت 1 يونيو 2024

السوشيال ميديا: مزيدٌ من العزلة والقلق.. قليلٌ من الشهرة والتحقق

فن22-10-2020 | 14:27

مع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، اجتاحت السوشيال ميديا، أو الإعلام الاجتماعي عالمنا، وصارت ذات تأثير كبير فيه، بل وشاركت في تغيرات اجتماعية لم نكن نحلم أن تحدث بتلك السرعة، خاصة في عالمنا العربي، الذي تعد العادات الاجتماعية والتقاليد والأديان المحرك الأساسي لتحولاته، لكن هناك قوى جديدة بدأت تنافس كل تلك الثوابت الراسخة منذ آلاف السنين، وتحدث آثاراً وتحولات سلبية وإيجابية، ولكن هنا يجب الإشارة إلى الأثر النفسي الذي تمنحه تلك الوسائل الحديثة، على سيكولوجية الإنسان، كأي تكنولوجيا دخيلة على المجتمع البشري فإنها تعمل على تحولات في الوظائف الحيوية لدى البشر، لا نستطيع إنكارها، وهو ما التفت إليه الكثير من علماء النفس والاجتماع حول العالم، وبادروا بتقديم الأطروحات العلمية، التي ترصد وتشرح أثر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنسان الحديث.

هذا ما يعبر عنه الكاتب الأمريكي نيكولاس كار في كتابه"السطحيون: هل يجعلنا جوجل أغبياء؟"، يتساءل الكاتب عن الكيفية التي تغيّرت بها أدمغتنا بعد استحواذ الإنترنت على حياتنا، فقد كاد المخ يرتاح من كل الوظائف المعقدة التي تطور بسببها، وأوكل الأمر إلى تكنولوجيا تقتل ما يعرف بمراكز التفكير العميق في الدماغ البشري، ويستتند الكاتب في أطروحته إلى مبدأ المرونة العصبية التي يتمتع بها الدماغ، حيث تتكيف الوصلات العصبية طبقاً للوظائف التي اعتادت القيام بها، وهكذا تكتسب الذاكرة الجسدية والعقلية لأي عملية تعليمية، على سبيل المثال: حين يتعلم شخص العزف على آلة موسيقية ويحاول إتقانها، هذا يتطلب منه تمرينات يومية مستمرة، حتى يعتاد الدماغ طبقاً لمبدأ المرونة أن يحتفظ بكل المعلومات التي اكتسبها خلال فترة التمرين، لذا فإنّ القيام بكل الأشياء عن طريق الإنترنت أفقد الإنسان قدرته على التفكير العميق، وحتى عملية التعلم، هنا يخلق الإنترنت حالة من التشتت الذهني التي تفقد الذهن قدرته على التعمق في الأفكار وتطويرها، ربما يتجلى هذا فيما انتشر في السنوات الأخيرة ما عرف بالقراءة السريعة، هذه القراءة لا تهدف إلى تغذية العقل البشري، بقد ما هي استعراض لأرقام كتب تم قراءتها، وبعض الأفكار السطحية التي لا تختمر بالعقل لدعم الجانب النقدي في الدماغ.

أما على الجانب النفسي، فإنه يتبادر للذهن أنّ مواقع التواصل الاجتماعي قد صُممت لأجل التواصل بين البشر، وهو ما يحمل جانبا من الصحة، فاليوم نتمكّن من التواصل والتحدث لساعات مع رفاق يعيشون على الجانب الآخر من الكوكب، لكن بين طيّات هذه الحياة الاجتماعية الضئيلة التي يوفرها موقع مثل فيسبوك، تدرس منظمة""Royal Society For Public Health ، تأثير السوشيال ميديا على الصحة العقلية لدى الفئات العمرية المختلفة، ونشرت الدراسة بعنوان:

Social media and young people's mental health and wellbeing

تناولت الدراسة في الفصل الأول الآثار السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي على الفئة العمرية لأقل من 25عاما، حيث وقع 70% من العينة الخاضعة للدراسة، أسرى لأعراض الاكتئاب والقلق الاجتماعي، وتعددت أسباب الشعور بالأمراض المذكورة، فالبعض كان يرى أنّه لا يعيش الحياة المثالية التي يرى عليها من هم في مثل عمره، والبعض انتابهم الشعور بالخجل نحو إنجازات أقل في الحياة المهنية والدراسية عمّا يحققها الآخرون، كما حازت الفتيات في الدراسة على اهتمام رئيسي، بعد أن عبرّت 90 % من المشاركات منهن بالشعور بعدم الرضا عن أجسادهن بسبب ما يرينه من أجساد مثالية تنتشر صورها على مواقع التواصل، وهو ما قد يفسر انتشار عمليات التجميل، ومستحضراته، والمؤسسات التجارية التي تستغل هذه الثغرة النفسية، لإقناع النساء حول العالم أنّ هناك الأفضل والأحسن، وتظل النساء تبحث عنه، لدرجة أن تطالعنا وسائل الإعلام يومياً بوفيات تتعلق بإجراء عمليات التجميل، فهل الأمر يستحق العناء، لدرجة أن تغامر النساء بحياتها هوساً بالجمال المثالي الموهوم؟

بحسب المثل الشعبي المصري"طباخ السم بيدوقه"، وهي ما تعكس أن يكون لكل من قدّم شيئاً إلى الناس أن ينال منه نصيباً، لكن في حالة"" Justin Rosenstein، طباخ السم قد أدرك كيف يسري مفعول سمه، فبعد عامين من تقديم موقع فيسبوك للعالم، وتحديداً 2009 قدّم روزنشتاين زر الإعجاب الذي نقع جميعاً في إدمانه، بل إنّه ما يحفونا للمساهمة بآرائنا في عالم افتراضي أزرق يأسرنا، وهو ما نقلته صحيفة الجارديان البريطانية عن المبرمج الشهير، موضحاً أنّه يعلم جيداً أن لهذا الإصبع الأزرق تأثيراً يشبه نشوة الهيروين في الدماغ البشري، وهو ما يدفعه للفكاك من المكوث على مواقع التواصل، هرباً من الوقوع في هذا النوع من الإدمان غير المثير للمقاومة، لأننا لن ندرك بعد عمق تأثيره على أدمغتنا، بل يصل الأمر إلى التأثير على القدرات المعرفية لدى الإنسان، ويمكن ربطه بالمعدلات المتزايدة بداء فرط الحركة الذي يتفاقم لدى الأجيال الجديدة من الأطفال، التي تركت ساحات اللعب، والدمى، وحدقّت في جهاز هاتف ذكي، يقدم لهم وجبات مكثفة من الغباء.

وبالانتقال إلى جمهور العالم الآخر الذي نعتبره أكثر تطوراً منا، فقد أعلنت المؤسسة الملكية للصحة العقلية في إنجلترا، أنّ الاضطرابات النفسية الناجمة عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي قد كلفتّ الدولة ما يقرب من 4.5% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، بعد موجات متزايدة من الإصابات بأمراض نفسية بداية من اضطراب القلق، والهوس، والقلق الاجتماعي، وصولاً إلى الاكتئاب الذي يصل حدّ الانتحار، وهو ما دفع المملكة المتحدة في بداية العام الحالي للإسراع باستحداث وزارة للانتحار، بعد تزايد معدلاته بشكل أفزع القائمين على السياسات، ومقارنة بما تؤديه مواقع التواصل الاجتماعي من وظائف إيجابية، فإنّها تشكل خطراً حقيقياً على العلاقات الإنسانية، فما أكثر المرّات التي نستغنى فيها عن التجمع مع الأصدقاء، ونكتفي بإجراء محادثة إلكترونية معهم، ناهيك عن الاكتفاء بقراءة منشور لأحد الأصدقاء يناقش فكرة ما، بدلاً من البحث عنها، وقراءة ما دوّنه المفكرون والمتخصصون حولها.

لذا فقد حلّت ثقافة الاستهلاك والاستسهال محل ثقافة القراءة المتعمقة، والتفكير المنطقي، والبحث والفضول، لقد أوهمت التكنولوجيا المجتمعات الحديثة أنّها قدّمت كل ما يحتاجونه، فليستريحوا الآن من عنائهم، وستقوم الخوارزميات المعقدة بتقديم كل ما يحتاجونه، حتى إنّك لم تعد بحاجة لتعلم لغة جديدة للاطلاع على ثقافتها، فـ"جوجل" قدّم الحل السحري دون أدنى جهد ذهني يتكبده المرء لأجل التعلم الذي جعله مميزاً عن شركائه في الطبيعة، يتخطى الأمر كونه منح الإنسان مزيداً من الرفاهية بقدر ما هو أحد أوجه الاستغلال ولكن في شكل أكثر تطوراً، فخلف جميع المشتتات الإلكترونية، والمنتجات الخارقة التي يقدمها الإنترنت، تجلس شركات عالمية تحقق أرباحاً تفوق الخيال مقابل ضغط زر بسيط، أو إعجاب، أو مشاهدة لمحتوى مصور، مهما بلغ قدره من التفاهة والسطحية، فنحن في حسابات صناع المحتوى الرقمي، لسنا سوى معدلات أرباح سنوية يجنيها أشخاص محددون، مقابل نوع جديد من المخدرات لكنه الأكثر شرعية، لأنّه يقدم وهماً بالمنفعة، بينما تضمحل تلك المنفعة السطحية أمام ما تمنحه من أحاسيس العزلة وانعدام التواصل الحقيقي، والقلق الاجتماعي الناجم عن عدم الرضا عن الذات، والاكتئاب الذي يكمن وراءه شبح انتظار الأفضل، ونحن لا نعلم أنّ الأفضل هو قيمتنا الإنسانية المجردة من أي نوازع استهلاكية غرسها النظام الرأسمالي في عقولنا، ليجني مزيداً من الربح فوق أرواحنا المنعزلة، ونفوسنا القلقة.