الخميس 23 مايو 2024

قصص قصيرة

فن22-10-2020 | 14:49

 (1)

عَـــجْــــز

سرَّه أن يتحرَّك القطار وما يزال المقعد المواجه له شاغرًا، فكم يزعجُهُ أن يجاوره أحد الفضوليين؛ الراغبين في الثرثرة، دون أهمية لما يقول، ويحنق عندما لا يردُّ على ثرثرته، يتمنَّى أن يتكرَّر ذلك في المحطة التالية، ولكنه يعرف أن أمنيَّته لن تتحقَّق، وأن راحته بانفراده بهذه النافذة لن يدوم، قرَّر أن يلعبَ مع نفسه لعبة التوقُّع: سيأتي من يجلس هنا؛ إن لم يجلس على المقعد المقابل أحد فقد أخطأ حدْسُه. كم يتمنَّى أن يخطئ حدْسُه.

في المحطة الثانية توجَّس من انتصار حدسه؛ اعتاد أن يتوقع الأسوأ ليهيئ نفسه للقادم، هكذا في كل شؤونه، لم يبق إلا القليل ويتحرك القطار، ما زال المكان شاغرًا، شَعَرَ بتفاؤل يتسرَّبُ إليه، لم يلتفت عندما شعر أن أحداً يخطو باتجاه المقعد المقابل، ولكنَّهُ كَنَسَ بقايا التفاؤل الذي تسرب إلى نفسه منذ لحظات.

جلستْ دون أن ترفع عينيها عن حقيبتها عشبيةِ اللون، وقد وضعتها في حِجْرِها، أخرجتْ منها منديلاً، مسحتْ بقايا دموعها برفق، أتاح له إطراقُها أن يرتشف ملامحها بعينيه، ما تزال تمرِّر المنديل برفق تحت عينيها، رفعتْ نظرها بغتةً، لتجد عينيه تنظران باتجاهها كعدسة مصوِّر، أطرقتْ خجلاً، صَرَفَ نظره إلى النافذة ليرى المناظر التي اعتاد رؤيتها كلما ركب القطار من البلدة، حيثُ يعمل، عائداً إلى المدينة، يحدثُ هذا مرة أو مرتين في الشهر، شعر أنها رفعتْ رأسها مجدداً، عَدَلَ جِلْسَتَه ليسترق النظر إليها، فوجدها تحدِّق فيه، سرعان ما صرفتْ نظرها تفتِّش في حقيبتها عن لا شيء.

يقترب القطار من المحطَّة الثالثة، كم يخاف أن تنزل في هذه المحطَّة، ليس أمامه إلا أن يلعب مع نفسه لعبة الحدْس مجدداً؛ ستغادر القطار في المحطة التالية، إن لم تغادر فقد أخطأ حدسه، وكم يتمنى أن يخطئ.

أطفالٌ يقفون مقابل السكة، يلوحون بأيديهم، ينظر إليهم مبتسماً، تشاركه النظر إليهم، يلوح لهم بيده، برغم أنه قد جاوزهم، تفعل ذلك أيضاً، يقترب القطار من المحطة الثالثة، يرد على ابتسامتها الفاتنة بابتسامة، هزَّ رأسه برضا، تنظر إليه نظرة من تعرفه منذ زمن، استقبل نظراتها بتطلع إلى المزيد، شعرتْ بذلك، تحركت شفتاها بكلمات لم يفهمها. انشغلَ بغمازتين تبدوان على خديها مع كل نبرة، وبشفتين رقيقتين حدَّ الدهشة، انتظرت منه جواباً، لم يُجبْ فهو لا يدري ماذا قالت! خجلت لأنه لم يجب عن سؤالها، شعرتْ أنَّه لا يرغب أن يخبرها عن المحطة التي ينوي النزول فيها. مظهرُهُ الأنيق، وجاذبيته الطاغية، ونظراته الودودة، أغرتها بإعادة السؤال، هز رأسه، يميناً وشمالاً بحسرة، لم تستطع تفسير عزوفه عن الإجابة! ولكن صمتَه كان مستفزَّاً. وقف القطار؛ حانَ الوقتُ لاختبار حدسه للمرة الثانية، عَدَلَتْ جِلْسَتَها فيما يشبه التهيؤ لمغادرة القطار، نهضت وهي ترمقُه بازدراء، تحيطها هالةٌ من السحر، نظر إليها نظرةً ذات معنى، ولكنها عجزتْ عن تفسيرها، فقد جرحها مرتين، وقف ينظر إليها صامتاً محتاراً، أشاحتْ بوجهها وهي تخطو خطواتٍ غاضبة مغادرةً القطار، تبعها إلى المحطة، لم تلتفت إليه، لم تشعر بأنه يتبعها، كانت الأنظار تلاحقه وهو يلاحقها دون أن تلتفت إليه، وربما دون أن تشعر به، يمدُّ يدَه ليربتَ على كتفها، ولكنه يتراجع، لوَّحت لها سيدة في منتصف العمر، تقف في صف المنتظرين، يبدو أنها جاءت لاستقبالها، اتجهت إليها، غرقتْ في حضنها، فلم يجد مناصاً من العودة إلى مقعده في القطار؛ تقتاتُه الحسرة، لأنها ذهبت مغضبةً، دون أن يستطيع الإفصاح لها عن عجز أذنيه ولسانه..

 (2)

مُــنْــحَــنـى

مثقلاً بنصف قرنٍ من السنوات، ونصف دسته من العيال، يجوب شوارع الحي، يمشي في الطرقات ذاتها، يتعثر بنتوءات الأرصفة القديمة، يجلس في المقهى الوحيد على ناصية الشارع المؤدي إلى الحي، يزعجه أن يجد أحداً قد سبقه إلى الطاولة التي اعتاد أن يجلس عليها، يشرب القهوة، ويدخِّن المعسَّل، يطرب لقرقرة النرجيلة، يلوِّن أنفاسه كمن ينفخ في ناي، ويبالغ في دفع الدخان عبر أنفه، ثم يدفع الباقي بنفخة متموِّجة من فمه، يعتقد جلساؤه في المقهى أن هذه آخر المتع التي يستطيع ممارستها. لا يكترث لتعليقاتهم، فهو يحتقرهم، ويسخر منهم جميعاً، فليس فيهم من يفهم الأمور على حقيقتها، كلهم تافهون، يقضون ساعات غبية في المقهى، ثم ينصرفون ببلاهة، يركضون في الجهات الأربع لشقائهم دون أن يشعروا أو يعترفوا بأنهم مغموسون في العناء حتى الأذقان.

أما هو فقد عرف الحياة جيداً، ولكنه عرفها بعد أن تورَّط فيها حتى قمَّة رأسه، ولم يعد هناك خطٌ للرجعة، لا بُدَّ أن يمضي فيها إلى المنتهى، لن يركض إلى المستقبل كما يفعل هؤلاء الأغبياء، سينتظره متأكداً أنَّه سيأتي محملاً بالكثير من المفاجآت، والفجائع، والآلام.

كانت آخر مرة ضحك من قلبِه تلك الليلة الشاتية، حين جلسَ مع صغاره حول المدفأة؛ نكتة جاءت في وقتها، حكاها ابنه عن أحد معلميه، ضحك ساعتها حتى دمعت عيناه،وانطلق الصغار يضحكون لضحكه غير المعهود، حتى زوجته ضحكت وهي تضع يدها على بطنها المنتفخ. أخذ يمسحُ دموعه، وهو يعجبُ لهذه الدموع التي تذكره بحزنِهِ حتى في أشد لحظاته بهجةً.

خرج من المقهى، وقف قليلاً قبل أن يتخذ قراره بأن يعبر الشارع إلى الناصية المقابلة، وهذا يعني أنه قرَّر العودة إلى بيته، عقد يديه وراء ظهره، مشى متهادياً، يتلفت في المارة، وفي المحلات المبعثرة على امتداد الشارع، ينظر إلى كل شيء ولا يكترث لشيء مما يرى. أطلقسراح يديه من خلف ظهره، ليفتش جيبيه، أخرج من جيبه الأيسر ورقة صغيرة، فيها اسم الدواء الذي وصفه الطبيب لصغيره. نظر إليها، ونظر إلى لافتة الصيدلية، لا بد أن يقطع الشارع مجدداً.

قبل أن يدفع باب الصيدلية الزجاجي وجده يندفع لوحده، وقف في مكانه، كانت فتاة في نصف عمره تقريباً، التقتْ عيناه بعينيها الساحرتين، تحدثتا برموز لم يفهمها، ولكنه خجل وأطرق، سرعان ما ندم فأعاد النظر، فوجدهما قد انصرفتا عن عينيه، كانت فرصةً مواتية ليرتوي من تفاصيل وجهها الطفولي المفعم بالحيوية، التقتْ عيناهما ثانية، شعر أنَّها تريد أن تقولَ له شيئاً، ولكنها تراجعت، فتراجع خطوة للوراء، بينما أخذت طريقها على الرصيف الذي اعتاد أن تطرقه قدماه جيئةً وذهاباً كل يوم، ترك الصيدلية وراءه، وسار خلفها، دون تفكير، لم يكن يتهادى هذه المرة، فقد كانت تسير بخطواتٍ حثيثة، لا تلتفت لشيء، أخذته طريقها من رصيفٍ إلى رصيف، يتساءل: هل تشعر بوجوده؟!! لم يكن متأكداً، ولكنه سيتبعها على أية حال، مضى وقتٌ طويل وهو يمشي على أثرها، تاركاً وراءه نصف قرن من التِّيه، ونصف دسته من الأولاد، والحي والمقهى، وطاولته المفضَّلة في المقهى، ودواء صغيره.

(3)

الـــمَــهْــد

تُحرِّكُ المَهدَ المعلَّق، توقفهُ، تحرِّكُهُ مرةً أخرى، بهدوءٍ أكثر هذه المرة، يتأرجح المهد، تتبعهُ عيناها، تتأملُه بشغف، يشغلها عما جاءت إلى السوقِ من أجله.

لم أعُدْ أرقبُ ثواني الإشارة الحمراء التي تمضي سريعاً هذه المرة، أتأملُ المهدَ يتأرجحُ عبر واجهة السوق الزجاجية؛أتُراها تودُّ لو عادتْ صغيرةً يتأرجح بها المهدُ بأمان؟ أم تُراها أمٌ تركت صغيرها بلا مهد، وراق لها أن تشتري له مهداً في أرجوحة؟ أم تُراها تنتظر صغيراً قادماً، فتراه قبل الأوان يتأرجح في مهدِهِ الصغير؟

        تُحَرِّكُ المَهْدَ والإشارة الحمراء تُساقِطَ ثوانيها بسخاء، بقيَتْ لي ثوانٍ يمكنني فيها أن أتوقع خطأ تلك الاحتمالات، فربما تكون مجرد فتاة ككل الفتيات اللاتي يولدن برائحة الأمومة؛ إنْ تكنْ كذلك فالوقوف لدقائقَ أمام مهدٍ يتأرجح كافٍ للحُبِّ، والزواج، والإنجاب، والاستمتاع بمرأى طفلٍ تُسْعدُهُ حركة المهد البندولية.

        تذمُّر السائقين خلفي دليلٌ كافٍ على خسارة آخر ثانية حمراء، اندفعتُ مضطراً في سيلٍ من المركبات والضجيج، تاركاً ورائي كثيراً من الظنون، ومهداً يتأرجح، وفتاةً مسكونةً بالأحلام، محفوفةً بالأقدار.

(4)

الـنــادل 

عندما تدخل المطعم الشعبي المزدحم، ستجده يدور بين الموائد، توجَّسْتُ بادئ الأمر؛ فكيف لي أن أطلب من هذا السبعيني خدمةً. قبل أن أطلب شيئاً مكثتُ وقتاً أتأملُ حركته، يقاوم بابتسامته الطيّبة تجاعيد الشيخوخة على وجهه المتغضن، يُقْبِلُ باسماً، ثم يعود يقاوم انحناءة ظهره.

قصد الزاوية حيثُ أجلس، ابتسم ابتسامة مألوفة: (هاه.. أيش طلبك؟)، رددت ابتسامته قائلاً:" اختر لي على مزاجك"، ذهب دون أن يُكرر السؤال؛ هل اعتبر طلبي ذلك أمراً؟ أم أن الوجبات التي يقدمها المطعم لا تختلف كثيراً؟ أم أنه لا وقت لديه للمفاوضة؟

تبعتْه نظراتي يعبر الممر، يقاوم انحناءة ظهره، لم يطل غيابه، عاد يحمل صحناً ضمَّ (طبق الشكشوكة، والخبز الملوَّح، والحليب العدني)، تناولته شاكراً، بينما تعالت الأصوات من الموائد الأخرى: (عم يوسف، عم يوسف) يستطيع الاستجابة لهم جميعاً في وقت واحد، يبدو أن بعضهم زبناء دائمون للمطعم، فهم يتبادلون معه الضحكات والتعليقات، فيقبل عليهم ضاحكاً، ويغادرهم ضاحكاً، وعينه على مائدة أخرى، ومنادٍ آخر.

ألقي نظرةً على جميع الموائد، فلما وجدهم منكبين على طعامهم، اطمأن، وألقي بجسده المنهك على كرسي خشبي إلى جوار المدخل، يميلُ رأسُه على الجدار، أطبق جفنيه، اللذين يكادان يلتقيان حتى في لحظات التحديق.

تمضي دقائق وهو مستغرق في هذه الحالة، يهدأ حتى لكأنه جزءٌ من أثاث المكان، يبدو لي هدوؤه يستر براكينَ من الألم، والغربة، والشوق لشباب مفقود، والخوف من غدٍ مجهول، وفراق أحبة نأت بهم الديار، وعجزٍ يوشك أن يطبق على روحه.  تُرى إلى أين ذهبتْ به هذه السِّنَة؟ أأذكَرَتْهُ شبحَ العجز والمرض؟ أم أن له أسرةً يخشى عليها الشتات، والجوع؟ وعندما يأتي المساء؛ أتراه سيأوي إلى أسرة تنتظر عودته، أم أنّه سيرجع إلى غرفةٍ باردةٍ بائسة، يلتحف الوحدة، وتقتاته الوحشة؟

(عم يوسف.. عم يوسف) يصرخ أحدهم من زاوية المطعم. يفيق، يهتزُّ، ينهضُ مقاوماً ثقل السنوات على كتفيه، يتلفَّت باحثاً بين الموائد عن مصدر النداء، يلبس ابتسامته الطيبة ويتجه نحو الداعي.

 (5)

دكان العم سالم

في مدخل الحي يقع دكان العم سالم، الذي يقصده أهل الحي جميعاً، فيجدون فيه أكثر ما يحتاجون. منذ سنوات شُقَّ إلى جواره الشارعُ العام، فأصبح الدكان يفتح بابه الصغير على رصيف نظيف، وشارع لا يهدأ. تفاءل أن الشارع الجديد سيأتيه بزبائن جُددٍ، وتوقع أرباحاً مضاعفة. قدَّر أنه لن يستطيع الوفاء بطلبات المشترين بمفرده؛ ولكن الشارع الجديد جاء معه بالسوبر ماركت، الذي أُنشئ على مساحةٍ شاسعةٍ على الضفة المقابلة لدكان العم سالم، فأخذ الجيران والأصدقاء ينصرفون عن دكانه واحداً تلوَ الآخر.

اكتشف أنَّه يخسر بعض السلع لانتهاء صلاحيتها، ما جعله يتخلى عن جلب السلع ذات الصلاحية القصيرة، ثم بدأ يتخلى عن سلع ذات صلاحية أطول؛ عندما شعر أنه يوشك أن يخسرها أيضاً، فانتهى به الأمر إلى بيع المنظفات، وسلعٍ ليس لها تاريخ انتهاء، أو أن المشترين لا يهتمون بتاريخ صلاحيتها.

يبدأ يومَه بتنظيف مدخل الدكان الصغير، حيثُ يقضي معظم الوقت، جالساً يتأمل حركة الشارع التي لا تهدأ. عندما يشتد الحرُّ أو يملُّ الجلوس، يدخل دكانه فيعيد ترتيب بعض السلع في الرفوف، وعلى المشاجب.

في وقتٍ وجيز قامت على جانبي الشارع بنايات ومجمعات تجارية كبيرة، سدَّت الأفق عن دكان العم سالم، فأصبح بين مجمعين تجاريين كفاصلةً بين جملتين. تزداد السيارات العابرة للشارع، والسيارات الواقفة أمامه، والعابرون الرصيف، ولكنهم لا يلتفتون إليه، وحينما تقعُ عين أحدهم عليه، فإنها لا تتجاوز الاستغراب، والشفقة في أحسنِ الأحوال.

أصبح يضطر إلى إغلاق الدكان بعض ساعات النهار لينجو من ملاحقة مراقبي أمانة المدينة، الذين يعتبرون دكانه الصغير على الشارع الكبير تشويهاً للمنظر العام، ومخالفةً للأنظمة؛ فكَّر أن يُجمِّل واجهة الدكان بصفائح الكلادينج، ولكنه وجد أن ذلك سيكلفه أضعاف ما يمكن أن يجنيه من مبيعات عامٍ كامل؛ ففضَّل مداراتهم، لعلَّهم يملُّون، أو يغفلون عنه.

عندما كثر ترددهم عليه، فكر أن يَقبلَ العرض الذي قدّمه له صاحب العمارة المجاورة، ليضمَّ مساحة الدكان إلى مواقف العمارة؛ تذكَّر الكلمات القاسية التي ردَّ بها مساومته المتكررة، فكيف له أن يعرض عليه شراءه الآن؟ ثم ما هو البديل الذي يضمن له دخلاً مستقراً، ويشغل به أيامه القادمة؟!

في مساره اليومي من بيته إلى الدكان، تدور برأسه كلُّ الهواجس، وقبل أن يصل إلى باب الدكان يكون قد أخرج المفتاح، وهيأه ليغرزه في ثقب الباب، ولكنه يتجاوز الدكان بخطوات، ليرصد اتجاهي الشارع، والمواقف المجاورة فيطمئن أن مراقبي أمانة المدينة لا يتربصون به.