الجمعة 27 سبتمبر 2024

رواية "أيام الخريف" لـ حسام العادلي

فن22-10-2020 | 15:09

مهاد

تطرح رواية "أيام الخريف" لحسام العادلي – القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2018 - قبل قراءتها سؤال السلطة والإبداع، سؤال القلم والسيف القديم الجديد. على كل حال تركت البنيويّة فضيلة مهمة قابلة للتطبيق - مع التحفّظ - وهي الانشغال بالنّص دون سواه، لا قبله ولا بعده ولا خارجه. أمّا التحفّظ فهو ما يضيع من دلالة النّص عند تجريده من سياقه ومن علاقته بمبدعه.

في حالة (أيام الخريف)، تفقد كثير من الأحداث والشخصيّات والأماكن كثيرا من دلالاتها عند تجريد الرواية من علاقتها بمؤلّفها، فلا بدّ من أنّه شهد أو سمع كثيرا من الأحداث التي ترد في الرواية وتنمو منها بذورها السرديّة. من هنا يشعر القارئ بكثير من التشابه - الذي يبلغ أحيانا حدّ التطابق - بين كثير من شخصيات الرواية وشخصيّات يعرفها من المشهد السياسي والإعلامي المعاصر. وفي علاقة الرواية بمؤلّفها في الحالة الراهنة ما يبرّر السرد ويمنحه كثيرا من القدرة على التعبير عن الواقع أو مشابهة الواقع، من غير أن يكون تقريرا إخباريا أو سجلًّا تأريخيّا. تلك القدرة مردّها إلى ما يطلق عليه حقّ السرد أو حقّ الرواية، وهو حقّ يزيد في أبسط تصوّراته كلّما اقترب السارد من القصّة وأحداثها، وينقص كلّما ابتعد، على أنّ المشارك في الأحداث قد ينشغل ببعض تفاصيلها فتغيب عنه تفاصيل غيرها، وقد لا يكون قادرا في صخب الأحداث واشتعالها أن يحيط بالصورة كلّها. وفي هذا بعض تبرير اللجوء إلى السرد بضمير الغائب على لسان سارد محيط بكلّ شيء في القصّة، لا السّارد محدود الرؤية، مع فقدان التنوّع في المنظور. يعوّض ذلك الفقدان الحوار والنصوص المتضمّنة وحديث النفس.

في الرواية كثير من الإيهام بالواقع أو مُشابهة الحقيقة أو الواقع. يشمل ذلك الإيهام اجتناب ما لا يُحتمل ولا يقبله العقل. وهي بهذا المعنى رواية "واقعيّة"، والواقعيّة أسلوب كتابة يعطي انطباعًا أنّه يسجّل الحياة اليوميّة الحقيقيّة أو يعكسها بصدق وأمانة. يشير المصطلح كذلك إلى طريقة أدبيّة أساسها دقّة الوصف المستفيض وأمانته وإلى نزوع عامّ إلى نبذ المثاليّة ومقاومة الهروب من الواقع وغير ذلك من سمات الإفراط والمبالغة، وإلى إدراك مشكلات الحياة وقتامتها. ليست الواقعيّة تسجيلًا مباشرًا أو بسيطًا، أو إعادة إنتاج للواقع – أي ليست شريحة من الحياة slice of life أو الواقع – بل مجموعة من التقاليد conventions التي ينتج عنها إيهام بالواقع، إيهام بعالم حقيقي خارج النّصّ، من خلال وسائل الاختيار أو الحذف والوصف وكذلك أساليب مخاطبة المتلقّي.

وفي قرب المؤلّف من تفاصيل المشهد المركّب الثري الذي ترسمه الرواية ما يمنحه قدرا كبيرا من حقّ السّرد telling rights الذي يرتبط بقرب السارد/ المؤلّف من الأحداث المروية والشخصيّات التي تشارك فيها أو بعده منها. مؤلّف الرواية قريب من أحداثها لكنّك لا تستطيع أن تجده في أي من شخصيّاتها فهو في منطقة بين بين، لا هو مشارك في الأحداث ولا هو بعيد منها.

فضاءات السّرد

في (أيام الخريف) كما في كلّ سرد وقصّ فضاءات هي:

(1) فضاءات زمنية: يغطّي فضاء الزمن في الرواية السنوات الأخيرة في فترة حكم مبارك قبل 25 يناير، ويستعيد فترة الملكيّة ليلقي الضوء على ما صارت إليه سليلة الباشاوات "ليلى المرعشلي" وقد استردّت كثيرا من مكانتها في الجامعة وفي السياسة: "صورة بالأبيض والأسوَّد لجَدّ ليلى, تعود إلي سبعين عامًا مضت؛ المرعشلي باشا: واقفًا بقامته المديدة في بذلة التشريفة المُطرّزة ... طربوشه الطويل استقام فَوق رأسه يَزيد هامته شموخًا. وجهه المستدير, عيناه نافذتا النظرة, شارباه المفتولان  ... كان وقتها: الإِقطاعي العتيد والباشا مرهوب الجانب - ومن سَدنّة العرش وكبار رجال القصر حاملي لواء الدفاع عن الملك (فؤاد الأول ومن بعده فاروق). ترأّس العديد من وزارات القَصر, يُعتقد أنّ جذوره التركية تتصل مباشرة بالسُلطان العُثمَّاني".

(2) فضاءات مكانيّة: أماكن الرواية هي ڤيلا "ليلى المرعشلي" وزوجها "كامل الحلواني" - الأستاذ الجامعي الريفي الذي اتّخذته مطيّة للصعود في الجامعة - حيث "رواء الفخامة"، وأروقة السياسة والأحزاب ومجلس الشعب والجامعة والتليفزيون وما إلى ذلك من أماكن "الصفوة" التي تنتمي إليها ليلى وصاحباتها وغريماتها، مع إحالات إلى أماكن شعبيّة فيها تفسير بعض ما يقع للإعلامية الجريئة الفجّة "فدوى الجريتلي" وما يكون من أمر أهلها المتطرّفين معها بعد أن يسطع نجمها في سماء الإعلام: "هبط الليلُ مُتسحّبًا  ... فالتفّ حي المعادي في دمسّة السوّاد ... توقفت المرسيدس السوداء أمام بوابة فيلا الدكتور كامل الحلواني, أطلقت نفيرا مُتقطّعا فانفتحت البوابة, مَرقت السيارة تتهادى فوق ممشى مرصوف ببلاط مُلوَّن, يَشُق حديقة غَنّاء نَبَتت بطولها شجيرات الورد الفوّاحة".

(3) فضاءات المجال/ النشاط: تدور أحداث الرواية في مدارات السياسة والاقتصاد والإعلام والأعمال والعمل الجامعي. "ليلى المرعشلي" تعمل في الجامعة ويصعد نجمها في السياسة وزوجها أستاذ في الجامعة وصديقتها إعلامية. صفقات سياسية وخطط ومناورات وبرامج تليفزيونية ومحاضرات واعتصام وجلسات برلمانيّة وحوارات لا تنشغل الرواية بتسجيلها كما يفعل التاريخ، بل بكشف ما يكون وراء أستارها.

(4) فضاءات افتراضيّة: لا يكتمل طموح "ليلى المرعشلي" ولا تحصل على الجائزة الإقليمية المرموقة، وتنتهي إلى خريف، لكنّها تعرف أنّ بعد الخريف ربيعا جديدا: "في آخر أيام الخريف دائمًا ما تتلقّى الصدمات وتتعثّر بالكبوات, أدركت أنه قَدر مُلازم لها, ثم ما تلبث وأن تنتصر وتتجاوز أزماتها ...".

تلك فضاءات في مجملها قريبة من القارئ المعاصر تبتعد كلّما عادت "ليلى" إلى ماضيها العريق قبل نهاية عصر الباشوات والباكوات، وتقترب أكثر كلّما أومأت الرواية إلى أحداث قريبة وشخصيّات ملأت الدنيا ضجيجا وصخبا، منها تلك الإعلاميّة الفجّة الجريئة المنفلتة. ومنها ذلك الكاتب المعروف الشاهد على كلّ عصور الحكم في مصر منذ ثورة 1952 -  "لوَقع اسم أدهم عبد المجيد دومًا هَيبة مصحوبة بالتبجيل؛ يُنطق بمِلء الفم ولا يمُر أبدًا مرور الكرام. يَرِّن في الآذان ليس باعتباره المثقف الكبير والمفكر الاستراتيجي الفَذ والمُحَّلِلْ السياسي الأقدر في الشرق الأوسط فحسب, إنّما مسيرة حافلة وشاهد علي نصف قرن من تاريخ الوطن وشارك بقوة في صياغة أحداثه". هذا بالإضافة إلى الشخصيّات النمطية المكرورة على المسرح السياسي والإعلامي المعاصر من متسلّقين ومتآمرين ومنافقين ومتاجرين بالدين والشعارات ورجال أعمال يبحثون عن النفوذ السياسي وغيرهم.

وراء الأحداث ومع الأحداث والسياسة والإعلام امرأة سليلة حسب ونسب من زمن الملك وحاشيته باعت شبابها لتحقق طموحها الأكاديمي والسياسي تريد أن تستردّ بذلك ما ضاع من مكانة مع الثورة وزوال الملكية، وظلّت "تُجاهد لإخفاء احتقارها" زوجها الريفي "العجوز" "وضيع الأصل" لكي تظهر أمامه "بمظهر الزوجة المُطيعة:، ثمّ تقع بعد حين، في خريف أنوثتها، في غرام خطيب ابنتها "ندى"، بل تقع في براثن الغيرة الأنثوية من طرف رابع هي الفتاة الشقراء "كلارا": "...ثم ما تلبث وتتوجّع لدى تذكّرها الفتاة الشقراء وممازحته لها بالحديث والضحكات, خيالها يُصوِّر لها ما عساه قد يكون حدث بينهما الآن؛ كانت توعّدته بالنسيان وقتما خرجت من المطعم غاضبة, وبمجرّد انعطافها بالسيارة خَطَرَ علي بالها فاستعرت عروقها به شوقًا وغيرة".

في مثل هذه المواضع، في المواضع التي تخلو فيها "ليلى" إلى جوع جسدها ووجدانها بعيدا عن زحمة السياسة، وحيث تتصوّر لقاءها "هشام" في لحظات حميمة، تبلغ لغة الرواية أوج شاعريّتها – "اضجعت علي سريرها بأحاسيس مهتاجة", "يُبادرها بلمساته؛ فتستجيب, تحرّرت من تاج رأسها, فَكَّت جدائل شعرها المعطّر, خَلعت ثيابها الملكيّة المُتكلفة, فقأت فقاعة نُبلها ... وباتت طوعه أنثى خاضعة". لم تسقط الرواية – مع أنّ الفرص تسنح لها لذلك كثيرا – في براثن الابتذال أو الإثارة المفتعلة وظلّت ترعى حول حمى المشاهد الملتهبة توشك أن تقع فيها: "القُبلات المُلتهبة بالزفرات الساخنة تطوف فوق عُري جسدها المتورد شَبقًا".

وفي لغة الرواية كذلك تأثيل يردّ الأحداث والأفعال إلى مقدّمات وأسباب. لا تفارقها الاستعارة في معظم أجزائها وفقراتها "لتُهادن صداعا استعمَّر نصف دماغها"، وتخلو من الفجاجة والركاكة إلّا في حوارات الإعلامية الوقحة "فدوى الجريتلي". ولغة الرواية في مجملها لغة عالية، إلّا في مواضع الحوارات الدارجة، لكنّ المؤلّف/ القاضي لا يصدر على شخصيّته أحكاما ولا يتحيّز إلى أيّ منها.

لغة الرواية في مواضعها الحواريّة قريبة بسيطة لا تكتفي بالتعبير عن الواقع، بل تعين القارئ المعاصر الذي لا يصبر على اللغة الرصينة العالية على البقاء مع الرواية إلى نهايتها. نهايتها ملغزة مربكة: "ردّ في أسي وهو محطم: أنا المهندس هشام الدالي .. عايز أكلّم الشيخ زكريا ..". خرج المهندس "هشام" من تجربة "هاجر" الريفية إلى علاقته بندى ثم إلى علاقته بأمّها ويبدو أنّه لم يجدّ بدّا من اللجوء إلى شيخ الروحانيّات ليخرجه من حيرته وارتباكه

هي ليست أيام خريف ليلى وحدها، التي دالت عليها الأيام ودارت من زمن الباشوات إلى زمن السياسة والإعلام إلى زمن الذبول والغياب، بل أيام خريف بلد بكاملها سوف يكون فيها هياج وصخب ولغط، وتنتهي حقبة وتأتي في أعقابها حقبة، وتغيب أسماء وأحزاب وفصائل، لعلّ ربيعا جديدا يحلّ بالوطن.

رواية مهمّة لما فيها من لغة رصينة ووصف نابض دافق، وبصائر في المصائر وفروع ترتدّ إلى جذورها، وظواهر وسلوكيّات تتكشّف أسبابها ودوافعها وبلاغة نادرة في لحظات توهّج شعري لافتة.