الأربعاء 3 يوليو 2024

"السجين.. 90 يوم فى الزنزانة".. من كتاب هيكل المذكرات المخفية لـ"محمد الباز"

فن22-10-2020 | 16:31

تنشر "الهلال اليوم"، فصلًا من كتاب "هيكل المذكرات المخفية" للإعلامي والكاتب الصحفي الدكتور محمد الباز، وجاء الفصل بعنوان "السجين.. 90 يوم فى الزنزانة"، وجاء فيه:

(1)

كانت تجربة السجن بالنسبة لى من أغنى التجارب التى مررت بها، فأنا كصحفى اشتغل بقضايا الرأى، احتمال السجن موجود فى الأفق طوال الوقت، ولكنه كان بالنسبة لى مجهولا، وكان أسوأ شئ بالنسبة لى هو الحبس الانفرادى.

عندما دخلت التجربة وجدتها غاية فى الغنى، مصر كلها كانت موجودة، كنت طرفا فى تجربة أخوضها مرتين.

 مرة كصحفى يتابع ما يجرى فى حدث ضخم.

 ومرة كمعايش لرموز كل ما له قيمة فى مصر.

وأعتقد أنه ليس هناك كتجربة السجن، فهناك تسقط حواجز كثيرة بينك وبين الآخرين، المرحوم عبد العظيم أبو العطا مثلا لم أكن أعرفه جيدا، كنت أعرفه كشخص عام، بعد 3 أسابيع قضيناها معا فى زنزانة واحدة قامت بيننا صداقة قوية، فى السجن تظهر معادن الناس، الجيد فى الإنسان يظهر بقوة، والسيئ أيضا، هناك نعرف الآخرين بدون براقع.

(2)

تقتحمنى ذكريات السجن... أطيافها كانت تزورنى كثيرا، تأتينى فى مشاهدة مختلفة.

 كل مشهد يحمل جانبا مما جرى.

المشهد الأكثر اتساعا كانت أحداثه تتابع أمامى دائما.

فى حوالى الثانية من صباح 3 سبتمبر 1981 كانت هناك طرقات على باب شقتى بالإسكندرية، حيث كنت هناك بعد عودتى من باريس، كان معى فى الشقة ليلتها اثنان من أبنائى وسمع أحدهما طرقات الباب فذهب ليجد اثنين من ضباط مباحث أمن الدولة يطلبان منه فتح الباب، فجاء لإيقاظى من النوم فذهبت وفتحت باب الشقة لهما ودعوتهما إلى الدخول، وقال لى على الفور إننى مطلوب لمباحث أمن الدولة.

نظرت فى ساعتى، وكانت الساعة الثانية صباحا.

ذكرتهما بأننى أنا الذى صنعت عبارة " زوار الفجر" فى مقالاتى بالأهرام فى وقت الرئيس عبد الناصر، فكيف يحدث ذلك فى عصر الديمقراطية؟ 

كان كلا الضابطين والحق يقال مهذبا فى تصرفاته، قالا إنهما فى أشد الأسف، ولكنهما مكلفان بأمر يتحتم تنفيذه.

سألتهما أن آخذ حقيبة بما أحتاج إليه من ملابس وأدوية.

 وكان ردهما بأن لدى عشر دقائق أحزم فيها حقيبتى.

سألت ما إذا كان على أن أحزم حقيبة كبيرة لغياب طويل؟

وكان ردهما: ليس أكثر من يوم أو يومين.

سألتهما ما إذا كنا سنذهب إلى القاهرة، وإذا كان ذلك فهل نذهب فى سيارتى؟

وكان ردهما بالنفى، ثم أضافا أن هناك ترتيبات لكل شئ، وحزمت حقائبى وشددت على يد ابنى، ولم أشأ إيقاظ أصغر أبنائى حتى لا يتأثر بما يراه يحدث أمامه، وخرجت من باب الشقة، راعنى ما رأيت، فعلى الردهة خارج البيت كانت هناك ثلة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة، وكان هناك أحد الضباط يمسك بجهاز لاسلكى يبلغ فيه أولا بأول تفاصيل عملية الاعتقال.

التفت فوجدت المصعد جاهزا فى الدور السابع حيث شقتى، وفى داخله الضابط مسلح بمدفع أوتوماتيكى، ثم اكتشفت أثناء هبوط المصعد أن كل أدوار العمارة التى أسكن فيها محتلة بالجنود، وكانت أصداء أجهزة اللاسلكى التى يحملها بعضهم تصدر أصواتا موحشة فى ظلام الليل وسكونه، وعندما نزلنا إلى مدخل العمارة راعنى مرة أخرى ما رأيت، فقد كان المدخل محتلا بقوة مسلحة كبيرة، وسمعت أحد الضباط يهمس بجهازه اللاسلكى بأن العملية رقم 9 قد نفذت، وتساءلت باسما: إذن فأنا العملية رقم 9؟ 

لم أتلق جوابا، لكنه كان واضحا أن ذلك بالفعل هو رقم عملية القبض على.

 كان المشهد الذى وجدته فى ردهة مدخل العمارة أشد غرابة من كل ما سبق، المدخل نفسه محتل كموقع عسكرى من باب المصعد إلى مدخل العمارة، وخرجت إلى الشارع ومن العجيب أن المنظر الذى وجدته كان كئيبا أكثر منه مخيفا، بل لعله كان فى جزء منه سخيفا كذلك، فعندما يزيد حجم القوة أو العنف عن الهدف أو الغرض المطلوب منها تحقيقه، فان الخلل فى التوازن بين الوسائل والغايات يكشف إحساس القوة بعجزها ويفضح إحساس العنف بضعفه.

كان الشارع الذى تقع فيه العمارة التى أسكن فى الصيف احدى شققها بالإسكندرية شارعا صغيرا يمتد متعامدا على طريق الكورنيش ويؤدى إليه، والآن فقد وجدت إن إحدى سيارات اللورى المحملة بجنود الأمن المركزى تقفل جانب الطريق المؤدى إلى الكورنيش، وكان منظر اللوارى المسلحة وغيرها من سيارات الحملة البوليسية المكلفة باعتقالى صاخبا – أو هكذا بدا لى فى ظلام الليل – خصوصا بالأضواء الملونة فوق السيارات حمراء وزرقاء، وكانت بعض الأضواء ثابتة وبعضها الآخر لا يكف عن الدوران، وكانت المحركات كلها تهدر، وأجهزة اللاسكى مفتوحة، والإشارات حول تنفيذ العملية وتقدم مراحلها تروح وتجئ بين القيادة فى مكان ما وما بين القوة المتقدمة والمحيطة بى الآن.

كان المشهد كله يكتسب مسحة من لون أصفر كئيب تبعث به مصابيخ الشارع المدلاة من الأعمدة، وتضفى على الموقف كله جوا يكاد يكون سينمائيا، والتفت إلى الضابط الذى كان بجانبى وقلت له: كأننا فى مشهد من فيلم "زد".

لم يظهر لى أن إشارتى إلى مشاهد ذلك الفيلم الشهير قد وجدت صدى لها، وهكذا مشيت صامتا إلى سيارة صغيرة دعانى الضابط إلى الركوب فيها معه كبادرة من جانبه.

بدأ الموكب المسلح كله يسرى فى ظلام الليل إلى طريق الكورنيش، والأضواء الحمراء والزرقاء تلمع أمامه ووراءه.

سألت الضابط عن الداع لهذه القوة كلها لتنفيذ إعتقالى؟

لم يقل شيئا.

 استطردت: فى حالتى كانت تكفى إشارة تليفونية تطلب إلى الحضور إلى مباحث أمن الدولة، وكنت بالتأكيد سوف ألبى حتى ولو جائتنى الإشارة وأنا فى سفر عمل خارج مصر.

مرة أخرى لم يقل شيئا.

ساد الصمت لبضع دقائق، والموكب يواصل اندفاعه وسألته: إلى أين نحن ذاهبون؟

وحينئذ كان لديه ما يقوله لأول مرة، وقد قاله برقة شديدة: انتظر وسوف ترى بنفسك كل شئ حينما تصل إلى مركز قيادة العملية فى الأسكندرية.

حاول الضابط أن يفتح بابا للحديث، فراح يتذكر كم كان يقرأ مقالاتى فى الأهرام باهتمام.

سألنى عما إذا كانت هذه أول مرة أعتقل فيها؟

كان ردى بالإيجاب.

  وكان تعليقه: إن الظروف تتغير.

وصل موكبنا أخيرا إلى مبنى ضخم عرفت فيما بعد أنه مقر مديرية الأمن فى الأسكندرية، وكان المشهد الذى ينتظرنا هناك حافلا، كان هناك مئات من جنود البوليس يحيطون بعشرات من السيارات تحمل غيرى من المعتقلين.

وبدا لى أن مواكب بعد مواكب من سيارات المعتقلين تقوم من هناك محاطة بالحراسة اللازمة متجهة بأقصى سرعة إلى القاهرة، وكانت الصفارات والأضواء الملونة تفتح الطريق لكل موكب من هذه المواكب، ونزلت من السيارة محاطا بالحراسة، والتفت حولى فإذا خليط هائل من المعتقلين شباب وشيوخ، مشايخ وقسس كلهم الآن فى نفس المصير، وحملقت فى سيارة الأسرى التى كانت على وشك أن تتحرك محاط بحراستها ولمحت وجها مألوفا داخلها هو وجه الدكتور محمود القاضى، ولوحت له مشجعا، وقال الدكتور القاضى: سوف نتقابل فيما بعد بالتأكيد.

انطلق موكبه مع من كانوا معه من الأسرى، وسألنى الضابط الذى كان لا يزال بجانبى: أظنك الآن عرفت ما هو الموضوع وأين نحن الآن؟

ثم سألنى عما إذا كان يستطيع أن يقدم لى أى خدمة، ورجوته، إذا كان ذلك فى استطاعته أن يتصل بإبنى تليفونيا ليبلغه أننى ذاهب إلى القاهرة، وقال إنه سيفعل بكل سرور، وسألنى عن رقم تليفونى وأعطيته له قائلا: أظن أن مباحث أمن الدولة لابد تعرف رقم تليفونى.

قال أنه سيتصل، ويبدو أنه لم يتمكن من ذلك، وبدأ إعداد القافلة التى تقرر أن أكون ضمنها فى الرحيل إلى القاهرة.

كان مركزها سيارة بيجو من سيارات البوليس المصفحة والعتيقة، ووجدت معى رفاقا بينهم الأستاذ إبراهيم طلعت وهو نائب وفدى سابق وأديب وشاعر ومحدث ممتاز، ثم الأستاذ عادل عيد وهو قاض سابق وكان أحد النواب المستقلين البارزين، ووجدت أيضا أحد قادة الحركة العمالية المقتدرين، وكان أيضا نائبا سابقا وهو الأستاذ أبو العز الحريرى، وبدأ موكبنا يتقدم على الطريق الزراعى فى اتجاه القاهرة.

(4)

بعد اعتقالى اتصل أحمد ابنى بوالدته وأبلغها بتفاصيل ما حدث، وبعد ذلك أرسل لها الرئيس السادات صديقنا سيد مرعى ليسألها إذا كانت تريد شيئا فأجابت بأنها لا تبغى سوى التأكد من أننى أعامل معاملة طيبة، ولم يقل لها أحد أين مكانى، وبعض الأصدقاء فى الخارج سألوها أن تأذن لهم بالقيام بحملة من أجلى لكن رأيها كان أن مثل هذا التصرف تجاهى قد يفسر على سبيل الخطأ

(5)

كانت الرحلة إلى القاهرة هى الشئ المخيف فعلا فى العملية كلها، فقد كان جندى البوليس المكلف بقيادة السيارة نصف نائم ويبدو أن أقداح الشاى التى تناولها قبل بدء الجلسة لم تستطع أن تتغلب على تعب وسهر يوم طويل ومرهق.

كانت السيارة تتأرجح تحت قيادته وتوشك فى بعض الأحيان أن تصطدم بسيارة الحراسة أمامنا وبالموتسيكلات المحيطة بها من كل جانب، وسألت عما إذا كان يمكن أن يقود السيارة غيره، ولم يلتفت أحد لاقتراحى، وراح الموكب يندفع بأقصى سرعة على الطريق إلى القاهرة، كانت السيارة محملة بأكثر من طاقتها العادية بالأسرى، وبالضباط وبالجنود وبالمخبرين، ولم يكن هناك مفر من الاستسلام للأمر الواقع، ورحنا نتحدث فيما يجرى غير عابئين بأن كل كلمة نقولها مسموعة من هؤلاء المحيطين بنا.

سألنى الأستاذ إبراهيم طلعت عن تقديرى للموقف، وكان ردى أن العملية كلها كما أراها من حولى تكشف حالة " انفلات أعصاب" ورحنا نخمن فيما بيننا عن الجهة التى يمكن أن يذهبوا بنا إليها.

لم نستطع أن نصل إلى ظن أكيد

 طلبنا فتح جهاز الراديو علنا نسمع شيئا يلقى ضوءا على مصيرنا، وفتحوا لنا جهاز الردايو فعلا، ولكن على محطة القرآن الكريم التى كانت على وشك أن تفرغ من إذاعة صلاة الفجر.

لم تخل رحلتنا من مواقف طريفة، فقد صاح الأستاذ إبراهيم طلعت فجأة أنه لابد من إيقاف الموكب لأنه يريد أن ينزل لحظة من السيارة لحاجة يقضيها، وحين بدا له أن الإستجابة لطلبه ليست كافية، صاح مرة أخرى يقول: إننى أعانى من مشكلة بروستاتا، وإذا لم أنزل من السيارة لحظة لما أريد النزول من أجله فإنى قد أموت، وعليكم أن تتحملوا مسئولية موتى.

توقف الموكب قرب أحد الحقول على الطريق الزراعى، ونزل الأستاذ إبراهيم طلعت لما يريد، ثم أستأنف الموكب تقدمه، وكان الصبح على وشك أن يطلع.

وصلنا القاهرة حوالى الساعة السابعة، وسألنا ما إذا كان فى استطاعتنا أن نشترى بعض الصحف، ورفض طلبنا.

تنبأ الأستاذ إبراهيم طلعت أننا ذاهبون إلى نيابة أمن الدولة، لكن موكبنا تجاوز الطريق المؤدى إليها.

 ومرة أخرى تنبأ الأستاذ إبراهيم طلعت بأننا قد نكون فى الطريق إلى سجن القلعة، لكننا مرة أخرى تجاوزنا الطريق المؤدى إليه.

وحين دخلنا إلى كورنيش المعادى، واضحا أننا فى الطريق إلى سجون طره، واستقر بنا المطاف أخيرا أمام سجن من سجون طره، كان سجنا جديدا، ويبدو أنه – رغم سوء أحواله – بنى بمعونة أمريكية، وكان البحث لا يزال جاريا عن اسم له، ومن المفارقات أن الاسم المقترح له فى ذلك الوقت كان اسم " سجن السلام".

كنت قد تصورت أننا سوف نسجن كمعتقلين سياسيين، وكان هؤلاء عادة يلقون فى السجون معاملة خاصة من حيث أنه كان يسمح لهم بالكتب والورق والأقلام، وهكذ فإنى جئت فى حقيبتى ببعض الكتب ودفاتر المذكرات والأقلام، واكتشفت فور وصولنا إلى السجن أننى كنت غارقا فى الأوهام، ففى صالة استقبال السجن صودر كل ما كان معى ومع غيرى من الكتب والأوراق والأقلام، بل ومن الأدوية والمحافظ والنقود وحتى الملابس، سمح لكل منا بغيار داخلى واحد وبمنشفة وبفرشة أسنان بدون معجون، لأن معجون الأسنان كان يجب أن يوافق على دخوله معنا أطباء السجن باعتباره نوعا من الأدوية فى تقديرهم.

وقيل لنا على أى حال إن أطباء السجن سوف يقررون فى اليوم التالى ما يلزم أى واحد منا من الأدوية، بما فيها معجون الأسنان، والتفت حولى ونحن ما زلنا بعد فى صالة استقبال السجن المحاطة من كل ناحية بالقضبان الحديدية، فإذا مصر كلها تقريبا هنا.

 شخصيات بارزة فى الحياة العامة المصرية، ساسة مشاهير، واقتصاديون وكتاب ومثقفون كبار، قيادات ورموز لكل التيارات السياسية والفكرية فى الحياة المصرية كلها وفى شتى مناهجها، وكان هناك أيضا رجال دين إسلامى، أما رجال الدين المسيحى الذين رأيتهم فى مديرية أمن الأسكندرية، فلم يكونوا منا، واقتادنى بعض الحراس إلى الزنزانة رقم (14)، وكنت وحدى فيها، وتلفت حولى استكشف أحوالها: زنزانة صغيرة عليها باب من الحديد فى أعلاه قضبان تصل منها أصوات الضجة الجارية فى السجن، صليل قضبان حديدية وصيحات مساجين ووقع أقدام حراس قعقعة سلاح.

كانت هناك عشر مراتب من المطاط ملقاة داخلها وعشر بطاطين تفوح منها رائحة ال" د..د..ت"، وكانت هناك حفرة فى ركن من الزنزانة تمثل دور الحمام فيها، وفى ركن آخر كانت هناك مجموعة من الأوانى المصنوعة من الصاج، وتمددت على إحدى المراتب أفكر فى كل ما جرى وأحاول تمثل معانيه وأبعاده، ومضت ساعة أوأكثر قليلا، وسمعت صليل الباب الحديدى ومفتاحا يدور فيه، ثم انفتح الباب عن جاويش يتبعه اثنان من الجنود، أحدهما يحمل صفيحة علاها الصدأ، وآخر يحمل صفيحة أخرى ملأى بأرغفة الخبر، وتغطى الإثنان سحابة من الذباب.

سألنى الجاويش بحزم: أين قراونتك؟

قلت له: ليس عندى قروانة.

أشار بيده إلى كومة من الأوانى المصنوعة من الصاج، وقال لى: هذه هى القراونات، ولك واحدة فيها.

 سألته عما يريد بالضبط؟

 وكان رده: أريد أن أعطيك طعام اليوم.

كان واضحا أنه يريد أن يعطينى بعضا من العسل الأسود فى القروانة ورغيفين من الخبز، واعتذرت له شاكرا، ومع أنى قد بدأت أشعر بالجوع، فقد كان منظر المعروض على من الطعام كافيا لصد أية شهية. 

قال الجاويش إذا رفضت استلام طعامى فسوف يخطر ضابط السجن بإمتناعى، وقلت له إنه حر فى إخطار من يشاء، وبعد دقائق جاء أحد ضباط السجن يسألنى: لما لم تتسلم طعامك وليس هناك غيره طول اليوم، وأضاف متلطفا: إننى أعلم أن هذه أول مرة لك فى السجن، ولكنك سوف تتعود.

قفزت إلى موضوع آخر.

 سألته: ما إذا كان سيكون حبسى انفراديا لأنى ما زلت وحدى فى الزنزانة، وكان رده بالنفى، وزاد تلطفه معى حين قال: الحقيقة أننا كنا نريد أن نجد لك رفاقا يناسبونك.

سألته: أين الذين جاءوا معى من الأسكندرية؟

قال إن معظمهم فى الزنزانة رقم 13، ولكنها امتلأت عن آخرها، وأضاف أنه سوف يحاول أن يجد لى رفاقا يناسبونى.

غاب نصف ساعة ثم عاد ومعه الأستاذ ابراهيم طلعت والأستاذ كمال أحمد وهو من قيادات الحركة الناصرية الشابة، وقال لى إن الاثنين تطوعا لكى يسكنا معك فى نفس زنزانتك، ثم قال: إن هناك بعض الشباب من المتديين عرفوا أننى معهم فى نفس السجن وطلبوا الإقامة معى لكى يناقشونى فى بعض آرائى، ولكنه أمهلهم لحين استئذانى فى أمرهم، وشكرته ورجوته أن يأتى بمن يريد، وجاءوا.

كان بينهم أحد زعماء الطلبة المتدينين فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة واسمه أكمل، وبدأ نوع من الحياة الجديدة المشتركة يسرى فى الزنزانة بعد ساعات الوحدة، ومضت ساعات ثم فتح باب الزنزانة بعد الظهر، ودخل أحد الضباط يطلب منى الخروج.

وتفاءل الأستاذ إبراهيم طلعت بأسرع مما ينبغى، وقال: هو الإفراج بالتأكيد، لابد أنهم أحسوا بضغوط دولية بشأنك فقرروا الإفراج عنك فورا.

قلت له فى محاولة لتهدئة تفاؤله: لا تسرف فى حسن الظن، إن من قرروا اعتقالى لابد أنهم حسبوا مسبقا ما يمكن أن يثيره القبض على  من ردود فعل فى الداخل والخارج، وما داموا قد أقدموا على هذه الخطوة فليس من السهل عليهم أن يعودوا عنها بهذه البساطة.

حملت أمتعتى – الغيار الداخلى والمنشفة وفرشاة الأسنان - وتبعت الضابط الذى جاء لاستدعائى، وعند غرفة مدير السجن وجدت فى انتظارى ضابط برتبة لواء ومعه ثلاثة من العمداء كانوا فى انتظارى وظهر أن الموضوع يتصل بطلب تفتيش شقتى ومكتبى وبيتى فى الريف.

بدأت مسيرتنا فى موكب مسلح جديد فى اتجاه بيتى ومكتبى فى الجيزة، وبعد أن تم التفتيش وصادروا بعض ما عثروا عليه من أوراق، سألتهم مشيرا إلى بعد المسافة ومشقة الطريق إلى بيتى فى الريف، وتساءلت ما إذا كان ممكنا تأجيل ذلك إلى الغد لأنى متعب، لكن الأوامر كانت صارمة، كما أن الإشارات المتبادلة بين السيارة التى كنت فيها وبين قيادتها فى مكان ما كانت تصر على إتمام العملية رقم (5).

كان اللواء المسئول عن هذه العملية غير قادر على أن يجد لنفسه حيلة فى هذه الأوامر الصارمة، ومرة أخرى أبديت نوعا من الاحتجاج: لم يكن هناك داع لهذه الحملات المسلحة كلها، لقد كان جندى واحد يكفى لتفتيش شقتى ومكتبى بدلا من وضعهما كما حدث تحت احتلال عسكرى كامل، وبدلا من الذهاب إليهما بموكب مسلح على هذا النحو.

سألت الضابط المكلف بالعملية: ما الذى تبحثون عنه بالضبط.

 وكان رده: أوراقك السياسية.

 قلت له: إن الكل بما فيهم الرئيس السادات يعرفون أننى منذ زمن طويل نقلت أوراقى السياسية التى أخشى عليها خارج مصر، وأضفت: إذا كنتم تريدون أوراقى السياسية فلماذا لا تعيدوا إلى جواز سفرى الذى صادرتموه من أحد أدراج مكتبى أثناء التفتيش، ثم نسافر معا إلى الخارج لنعود بهذه الأوراق؟

لم يعلق بشئ، كان قد صادر أيضا بعض المراجع الإسلامية التى كنت أستعين بها أثناء عملى فى كتابى عن الثورة الإيرانية، والآن أضفت: أرجو ألا يكون من بين التهم الموجهة إلى تهمة إنتمائى إلى الجماعات الإسلامية؟

كان من بين الأوراق التى صادروها أيضا من شقتى مذكرة برأى حزب الوفد الجديد فى اتفاقيات كامب ديفيد، وكان مرفقا بها بطاقة باسم الأستاذ محمد فؤاد سراج الدين أضاف إليها صاحبها بخطه عبارة " مع تحياتى".

كنت قد التقيت بالأستاذ فؤاد سراج الدين فى جنازة إحدى قريباته وسألنى أثناء موكب الجنازة ما إذا كنت قرأت بيان حزب الوفد الجديد عن اتفاقيات كامب ديفيد، وأجبته بالنفى، فأرسلها إلى فى اليوم التالى ببطاقة منه، والآن كان الضابط المكلف بالتفتيش يريد مصادرة المذكرة.

بالطبع كان أمامى ما أفعله إلا أن أتركه يصادرها، لكنى حاولت أن أرفع بطاقة فؤاد سراج الدين المرفقة بها، ومنعنى من ذلك قائلا: إن البطاقة أهم من المذكرة نفسها.

وكان بيتى الريفى – حينما وصلنا إليه – تحت احتلال عسكرى كبير آخر، فقد سبقتنا إليه لوارى محافظة الجيزة التى تتبعها الناحية التى يقع فيها، وكان أكثر ما أسفت له حين وصلنا ساحة البيت أن لوارى البوليس داست بعض أحواض الزهور المحيطة به، وبدا اهتمامى بالزهور فى تلك الظروف مدعاة للاستغراب، وشغل أحد الضباط المرافقين نفسه بإصدار الأوامر إلى جنوده الذين انتشروا تحت أشجار المانجو يأكلون ثمارها، بأن يكفوا عما يفعلون ورجوته بأن يتركهم كما شاءوا شريطة أن يبتعدوا عن أحواض الزهور.

وفى بيتى فى الريف وبينما كان الضباط من القوة منهكمين فى عملية التفتيش عاد إلى الإحساس طاغيا بالجوع، واستأذنت ضباط الحملة ما إذا كان فى استطاعتى أن أطلب طبقا من البيض المقلى، وجاءنى الطبق عائما فى السمن، وهكذا اضطررت إلى أن أستأذن مرة أخرى فيما إذا كان يمكن استبدال البيض المقلى ببيض مسلوق، لأن كثرة السمن فى البيض المقلى يمكن أن تحرك كل مشاكل المرارة والكلى التى أعانى منها، وجاءنى الإذن بالموافقة، لكن التفتيش كان قد تم وصادر الذين قاموا به ما أرادوا مصادرته، وبينه بعض كتب كارل ماركس وقلت للمرة الثانية ضاحكا: يبدو أننى هناك فى شقتى كنت متهما بالتطرف الدينى، والآن فإننى على وشك أن أتهم بالشيوعية.

لم أسمع ردا، واستأذنت ما إذا كنت أستطيع أن أحمل البيض المسلوق وبعض أرغفة الخبز التى جاءنى بها غفير البيت معى لكى آكلها فى السجن ما دام التفتيش قد انتهى.

بدأنا رحلة العودة إلى طره، ووصلنا هناك قبل منتصف الليل بقليل، وكنت منهكا من التعب، ولكنى كنت مصمما على عدم التبرم أو الشكوى مهما كانت الأسباب.

 أحسست أن خيطا رفيعا يفصل ما بين إبداء الشكوى وإبداء الضعف، وهكذا فإننى فى الأيام الخمسة الأولى للسجن لم أتناول طعاما غير خمس بيضات مسلوقة وخمسة أرغفة عدت بها من بيتى الريفى، والغريب أنها اتسعت لاستضافة رفاقى فى الزنزانة أيضا.

(6)

ما ساعدنى فى التجربة الجديدة على فى كل شئ شعور أحسست به منذ اللحظة الأولى للقبض على، وهو شعور الصحفى أولا وأخيرا، لقد وجدت هذا الشعور يعطينى نوعا من الانسلاخ عن الواقع، أحسست أننى مراقب يتابع الأحداث أكثر مما هو ضحية من ضحاياها، وكنت شديد الثقة - حتى فى تلك اللحظات الأولى - إننى ساكتب فى يوم من الأيام قصة ما جرى، وهكذا فإن السير فى العملية كلها تراجع ليفسح المجال للصحفى كى يتابع ويراقب ويتأمل ويربط أطراف الدراما التاريخية التى تتحرك حوله بصرف النظر عن أنه هو نفسه جزء منها.

كان بعض رفاقى يندهشون من برود أعصابى فى مواجهة أقل ما يقال فيها إنها كانت مزعجة، ولم ينتبه أحد بالقدر الكافى إلى عملية الإنسلاخ التى جرت بين الأسير وبين الصحفى،  وهكذا رحت ساعة بعد ساعة أتأمل الحياة من حولى وأتابع حركتها دقيقة بدقيقة منذ تلك اللحظات الموحشة بعد منتصف ليلة 3 سبتمبر.

بقينا داخل الزنزانات لا نبارحها لمدة أحد عشر يوما، ولم تكن لدى أى منا معلومات من أى نوع عما يجرى فى الخارج، ولم يكن هناك مجال وسط تكدسنا البشرى داخل الزنزانات للقيام بأى حركة طبيعية، وقد حاولت أن أعوض نقص الحركة عن طريق القيام بتمارين رياضية واقفا فى مكانى من الزنزانة، ولم يكن مسموحا بالقهوة أو الشاى، وكانت المياه المتاحة لنا محدودة.

حاول أحد شبان الجماعة الإسلامية معنا أن يعلمنى كيف أستطيع أن أستحم بكوب ماء لا أكثر، وكنا ننام على الأرض كل واحد منا فوق مرتبته المصنوعة من المطاط، وكانت المراتب متلاصقة تغطى أرضية الزنزانة تماما، وكانت قضبان الزنزانة على الجزء العلوى من بابها الحديدى مفتوحة للغارات من الذباب بالنهار والناموس ليلا، وكنت أقول لرفاقى ضاحكا: أسراب القاذفات تغير علينا نهارا وأسراب المقاتلات تغير علينا ليلا.

بعد أربعة أيام جاءت مجموعة من الأطباء، وصرحت لنا ببعض ما كنا نحتاجه من أدوية شريطة أن نثبت أن حاجتنا ماسة إليه.

كان ما آراه أمامى مؤلما.

عند الساعة العاشرة من صباح كل يوم، كان الشاويش يفتح طاقة الزنزانة ويلقى لكل واحد برغيف خبر والقليل من العسل الأسود، ويحضر ثانية عند الساعة الثانية بعد الظهر فيلقى برغيفى خبز وقطعة جبنة بيضاء لكل سجين، لكنها كانت فى جردل والشاويش عبد التواب يفتح الباب الحديدى بيده – الباب ويداه تفتقدان لأسس النظافة – ثم يدب يده فى الجردل لإعطاء قطعة الجبنة مع سرب من الذباب يرافق الشاويش وما يحمله.

كان البعض يقوم بشراء معلبات لحمة ودجاج " لانشون وبولوبيف" وأنا لم أتناولها فى حياتى، لكن للحصول على البروتين كنت أتناول وجبة الفطور، التى أصبحت فول مدمس وكانت وجبة هائلة، وكنت أتناولها برغبة، ولكنى قبلها أقوم بفرزه من السوس، لست وحدى ولكن كل رؤساء وزراء مصر السابقين ورجالها الأقوياء تجدهم صباحا بعد وضع نظاراتهم يقومون بفرز الفول من السوس، خصوصا بعد أن اتفقنا مع الشاويش عبد التواب أن يقوم بتغطية أرغفة الخبز من أسراب الذباب وقد كان خبزهم مقبولا.

فى إحدى المناسبات قدموا لنا لحمة مسلوقة، قدمها لى أيضا الشاويش من جردل بيده، وعرض على زميل الزنزانة الشيوعى المتمرس صابر بسيونى أن يقوم بتقشير اللحمة بإزالة جوانبها الأربعة، لكنى رفضت ونفرت من اللحمة المسلوقة فلم آكلها بعدها أبدا.

بعد إغتيال الرئيس السادات سمحوا لنا أن نشترى من كانتين السجن ما قيمته جنيه واحد فقط، وكان من ضمن المسجونين الدكتور كمال الإبراشى طبيب الأسنان الذى كنت أتردد عليه، ونصحنى بشراء الطماطم لأنها تحتوى على مجموعة من الفيتامينات والحديد.

بعد 55 يوما انقطاع كامل عن العالم سمح لنا أن نتلقى سلال غذاء، كان يصل عندنا فى ملحق طره 33 سلة، وسلة غدائى كانت تزينها وردة حمراء من زوجتى تذكرنى بورد مكتبى الذى هو أول ما أطالعه كل صباح وكان لها معنى عطرى عندى.

(7)

 أنا شخصيا كنت متماسكا غاية التماسك ومتحفظا جدا، ولم يؤثر فى مثل هذه الإجراءات، حتى داخل الزنزانة، وكنت أمارس حياتى بشكل يكاد يكون عاديا.

 مثلا كنت أخرج من الزنزانة بملابس كاملة، البدلة والكرافت على الرغم من أنها البدلة التى كنت قد خرجت بها من منزلى فى أوائل سبتمبر.

 وكنت أمارس الرياضة، واقتصد فى الأحاسيس والانفعالات، لأننى اكتشفت أن حركاتى داخل السجن مراقبة، وأن هذه المضايقات كانت تتم بأوامر من الرئيس السادات شخصيا حتى أضعف.

 لقد كانوا يكتبون تقريرا كل ساعة عن حالتى النفسية، ويعرض على الرئيس السادات، وكنت ضمن أربع شخصيات مصرية يعاملون بنفس المعاملة وأذكر منهم فؤاد سراج الدين والدكتور حلمى مراد.

وكان غريبا أن يطلبوا منا أن نتوجه بالرجاء إلى الرئيس السادات حتى يفرج عنا، ونصدر بيانا لتأييده، فلم يقبل أحد منا ذلك، وكان رأى أن أى واحد فينا وهو وراء القضبان هو رأى مشبوه وقد يبدو دليلا على الضعف، أو دليلا على الإكراه، ولم يكن هناك إكراه لكى نصدر بيانا بالتأييد.

(8)

فى أول أسبوع لم يسمح لنا بالخروج من الزنزانة.

 أول يومين كنا فى سجن الاستقبال.

وأنا فى سجن الاستقبال وجدت نفسى  أقيم إلى جوار عناصر من جماعات دينية مختلفة، قلت لنفسى لابد أن أعمل صحفيا على الفور، بدأت بالفعل مع شاب منهم، كان مثيرا جدا بالنسبة لى، جلست معه ثلاثة أيام فى حوار متصل انتقل بنا من زنزانة إلى أخرى.

حاولت أن أصل إلى ما يفكر فيه أبناء الجماعات الدينية، تتبعت ما قاله، درسته، وعلى الفور أدركت أن الشاب الذى يجلس معى ليس إلا جزءا من عملية كبيرة.

دفعنى ما سمعت إلى أن أقول لمدير السجن ومندوب الأمن القومى ومندوب المباحث العامة أننى لست متحمسا للطريقة التى تواجه بها الدولة هذه الجماعات، لكنهم ردوا على بأن ما أقوله خارج حدودى كمسجون.

قلت لهم: أنا على أى حال أخاف الإرهاب الفردى فالخطر ليس من هذه الرؤوس وحدها.

انتقلنا بعد ذلك إلى سجن ملحق مزرعة طره.

 لأسبوع كامل لم نخرج من الزنزانات، بعدها سمحوا لنا بربع ساعة صباح كل يوم على دفعتين، وربع ساعة بعد الظهر، وبعد شهر امتدت الربع ساعة إلى ساعة كاملة، وفى الشهر الأخير بدأت الأمر تتغير، فقد تحول السجن إلى مناقشات بين كل التيارات السياسية.

(9)

لم تزرنى زوجتى فى السجن سوى مرة واحدة بعد شهرين من الاعتقال، أحضر لها ممتاز نصار إذنا من المدعى الإشتراكى فجاءت لزيارتى مع أبنائى بحضور ثلاثة من الضباط أحدهم من السجن واثنان من المباحث.

فى اللحظة التى كنت أهبط فيها من الزنازين على السلم الحديد متجها إلى البوابة الحديدية التى تفصل بين العنابر وحجرة المأمور كانت هى والأولاد يدخلون من باب السجن.

كان استيعاب الموقف بهدوئه الظاهرى وكأننا اتفقنا عليه مسبقا، وتماسكت هى لتبدو مسيطرة على أعصابها، على رغم ما أعلمه بما يجيش به تدفق عواطفها.

 

 

 (10)

فى السجن لم نكن نر التليفزيون أبدا، ولم نكن نسمع الردايو على الإطلاق، ولا نقرأ الجرائد، وعندما سمعنا أن الرئيس السادات تعرض للإغتيال فى المنصة، سألنا إذا كان من الممكن أن نسمع راديو، فالأمر لا يتعلق بنا ولكنه يتعلق بالبلد كله، لكنهم قالوا لنا أن ذلك ليس ممكنا.

بعد أيام ذهبت إلى ضابط من ضباط السجن وكان لطيفا وظريفا، قلت له: أريدك أن تجيبنى على سؤال واحد: أنت شاهدت جنازة الرئيس السادات فى التليفزيون، قل لى ما الذى كان يرتديه النائب حسنى مبارك فيها؟

دهش الضباط لسؤالى، قلت له: لا تندهش...  إجابة هذا السؤال تعنى لى الكثير؟

قال لى: كان يرتدى بدلة كحلى وكرافتة سوداء؟

عدت إلى زملائى فى السجن، وقلت لهم: أنا متفائل فالنائب الذى سيصبح الرئيس ظهر فى الجنازة ببدلة كحلى وكرافتة سوداء، وهو ما يعنى أننا أمام رجل لا يريد أن يتظاهر بشئ، كنت أخشى أن يلبس بدلة التشريفة العسكرية المشهورة.

 (11)

عندما دخلت إلى السجن كان نصيبى الزنزانة 14، جلست 4 ساعات أو خمس ساعات بمفردى، وبعدين جاءنى ضابط ظريف.

 قال لى: يا أستاذ هيكل ربنا معاك.

 قلت له: ربنا يحفظك لكن ما هى الحكاية؟ هل سأظل فى الزنزانة بمفردى؟

قال: لا طبعا... فيه زنزانة إذا كنت تريد أن تراها؟

ذهبت معه فوجدت عمر التلمسانى وكمال أحمد وإبراهيم طلعت، وكانت الزنزانة ملأنة إلى آخرها، فقلت له سأعود إلى زنزانتى الأولى، لكن إذا كان يمكن أن يتطوع أحد ليجلس معى، وبالفعل تطوع إبراهيم طلعت وكمال أحمد وأقاموا معى.

فى هذه الزنزانة بدأت مناقشاتى مع الشاب أكمل أحد أعضاء الجماعات الدينية التى كانت هناك، وجدته " قافل " تماما.

سألته: يا ابنى بتعمل ايه؟ إيه دروك فى الحياة؟

قال: باعبد ربنا.

قلت: طيب يا ابنى بتعبد ربنا إزاى؟

قال: بالصلاة.

قلت: طيب يا ابنى ما تقدر تعبد ربنا بالصلاة والعمل والاتصال مع المجتمع.

قال: وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون.

قلت: طيب يا راجل أنا باعتقد إن ربنا خلق الإنسان فى الأرض ليعمل مهمة أكبر من كده، مهمة إنه يعمر الأرض ويطور الحياة، لأن فى الإنسان جزء من نور الله.

لم يفهم ما أردته منه، فتح إبراهيم طلعت مناقشة سياسية معى، حاولت أن أجذب الشاب إليها، لكنه رفض، وقال: هذه أمور دنيا لا أناقشها ولا أهتم بها.

كان يقول ذلك رغم أنه كان يدرس فى كلية الهندسة، ولم يكن أمامى إلا أن أنظر إليه كشاب سدت الطرق أمامه فآثر أن ينسحب.

 (12)

فى السجن صباح 28 سبتمبر 1981.

كنت منذ بداية اليوم أشعر أن هناك دمعة حائرة تطرق أبواب العين، لكنى لم أذرفها ربما لأننا قررنا أن نحيى ذكرى عبد الناصر كنوع من التحدى لا من التوجع، ولم يكن يشغلنى بالدرجة الأولى ما حدث لى، ذلك أننى كنت قد اخترت موقفى وحددت موقعى.

فى لحظة من لحظات هذا اليوم تذكرت تفاصيل اليوم الأخير من حياة عبد الناصر، وتذكرت آخر مكالمة تليفونية سمعت فيها صوته، وأخر نظرة ألقيتها على جسده المسجى، هى كلها تفاصيل لا تغادر الذاكرة ولا القلب لا فى أيام السرور ولا فى أيام الحزن.

لكن الذى توقفت عنده ليلتها هو ذلك الحماس الذى دفع الجميع للإصرار على أن يتحدوا كل ما كان يمر بالوطن من ظروف بالإحتفال بذكرى عبد الناصر، فقد كان السجن يضم رموزا وطنية عديدة ينتمى بعضها لما قبل ثورة يوليو، وينتمى الآخرون للثورة نفسها، وكان يضم كثيرين ممن اختلفوا مع عبد الناصر، أو اختلف معهم أو شابت علاقته بهم وعلاقتهم به شكوك وريب وربما صدامات.

استمعت لكلماتهم فى تأبين عبد الناصر باهتمام، وكان المشترك بين ما تقوله كل هذه المدارس الفكرية المختلفة هو الاحساس، بأن الأمة فقدت كثيرا بفقد عبد الناصر.

(12)

ما بين لحظة الإعتقال ولحظة الإفراج وقعت مفارقة مثيرة.

لحظة الأعتقال أخذونى من بيتى فى الساعة الثانية عشر والربع.

 جاء رئيس القوة الذى كان رجلا لطيفا.

سألته عن الساعة، فأخبرنى.

 قلت له أننى صاحب تعبير " زوار الفجر" لم يتجاوب، طلبت منه أن يمنحنى عشر دقائق لأجهز ما يمكن أن أحتاجه فى الرحلة المجهولة، سمح لى، وبعدها وجدت نفسى أسيرا وسط قوات خرافية.

لحظة الإفراج... جاء من أخرجنا لأجد نفسى أمام رئيس الجمهورية الجديد، بعد أن انتهى اللقاء سألت واحدا من الياوران: ماذا سنفعل بعد ذلك؟

رد على دون اهتمام: ولا حاجة... خلاص روح بيتك.

كان سؤالنا هو كيف سنعود إلى بيوتنا، لقد جئنا فى سيارات البوليس، والآن يقولون لنا عودوا إلى بيوتكم.

فتحى رضوان قال: سأذهب إلى منزلى سيرا على الأقدام.

طلبنا أن تحملنا سيارة البوليس وتعود بنا لنأخذ حاجاتنا، فؤاد سراج الدين لم يكن متعجلا العودة إلى منزله، قال أنه سيعود إلى قصر العينى يتناول الغداء وينام قليلا ثم يعود إلى بيته الساعة الخامسة، أما أنا فقلت له: أنا سأذهب إلى بيتى فورا، لا أريد أى شئ آخر.

بعد خروجى من السجن كنت أستقبل زوارى فى الجناح رقم 827 بفندق المريديان، لأن بيتنا كأى بيت مصرى كان فى حالة بياض، زوجتى اقترحت أن نجدد شيئا بعد عشر سنوات، كان المقاولون يعملون بهمة ونشاط حتى قبض على ذات ليلة، وكانت زوجتى خلال عملية البياض فى بيت ابنى على، فلما أفرج عنى قالت أن بيت على مثل علبة السردين، لا يسع أكثر من خمسة أشخاص واقترحت هى الإقامة فى فندق ريثما ننتهى من البيت.

(13)

بعد 90 يوما فى السجن كنت أخشى أن أكون قد فقدت عادة الحوار مع الناس المتحضرين.

كان أمامى ناس طيبون لطفاء ظرفاء.

 لكن لم يكن أحد منهم يتحدث فى الثقافة أوالسياسة من أول الشاويش عبد التواب إلى الشاويش عبد الجبار.