بقلم جرجس شكري
كانت عيون علي الراعي - منذ طفولته - مُسَلَّطَةً على فنون الفرجة، فكان يراقب الأراجوز والحاوي، ويتطلع إلى دراسة المسرح العالمي. ولكنه – في الوقت نفسه - كان يدرس القارئ المصري، ويقرأ تأثيره وتفاعله مع العملية المسرحية، منذ المُخايل الذي جسَّد إعدام طومان باي، ووصولًا إلى ستينيات القرن الماضي، مرورًا بالمقامات والبابات وفنون الأراجوز. وهكذا، كان الجمهور شريكًا أساسيًّا وفاعلًا في مشروع علي الراعي المسرحي، قارئًا ومُشاهدًا.
كان علي الراعي يعلم جيدًا أن هذا الفن الوليد أرضٌ بكرٌ، تحتاج إلى بحث وتنقيب. ومن ثَمَّ بدأ مبكرًا في الاهتمام بالمسرح، حتى إنه في أثناء دراسته الثانوية ترجم مسرحية مبسطة عنوانها "رسالة من المريخ". وفي تلك الفترة تعرَّف على كتابات طه حسين، ثُمَّ على مسرحيات توفيق الحكيم الذي فتنه حواره وفكره الدرامي، وعشق مسرحياته التي وصفها بأنها متألقة بالفكر والفن معًا، وقدم عنه - فيما بعد - كتابًا عنوانه "توفيق الحكيم فنان الفرجة وفنان الفكر"، وهو ذات التوصيف الذي أطلقه على أريستوفان، حيث وصفه بأنه يعرف كيف يؤلف بين الفكر والفرجة في عروضه المسرحية أيام مجد أثينا.
بعد تخرجه من كلية الآداب وعمله في الإذاعة المصرية، التقى مجموعة من الكُتَّاب أمثال أحمد أمين والمازني والعقاد وسلامة موسى. وفي أثناء بعثته الدراسية في إنجلترا التقى بأحد علامات القرن العشرين في المسرح العالمي، وهو ألاردايس نيكولا صاحب كتاب "المسرحية العالمية"، الذي أشرف على أطروحته عن برنارد شو "دراما برنارد شو، بعض المؤثرات التقنية". وجديرٌ بالذكر أن برنارد شو – من وجهة نظر علي الراعي - كان فنانًا في المقام الأول، ومُفكرًا وداعيًا في المقام الثاني. وقد أكّدت دراسته لمسرح "شو" ما كان يُحِسُّه قبل السفر من ضرورة أن يكون الفن فنًّا أولًا، وأن يقوم العمل الفني على قدميه ككائن يستحق الحياة لذاته، وليس بفضل ما يَبُثُّه من آراء.
بعد عودته من البعثة قدم للقارئ كتاب "فن المسرحية" عام 1959، وفيه يعلن عن منهجه وعن شخصيته في الكتابة، فهو يتوجه إلى القارئ بأسلوب بسيط، وكأنه يُلقي عليه درسًا في فن المسرحية، حيث يبدأ من أرسطو وتعريفه للقصة المُمَسْرَحَة ذات الهدف، أي القصة التي ترمي إلى تقديم الحدث تقديمًا فنيًّا خالصًا. ويأخذ بيد القارئ ليرشده إلى هذا الفن، ويخبره بأن المسرحية قصةٌ وحركةٌ وشخصياتٌ. ثم يتناول بالشرح والتحليل هذه العناصر واحدًا واحدًا، ويشرح طبيعة كل عنصر، وما يؤديه للمسرحية من خدمات، وما يثيره أمامها من مشكلات. ويؤكد لقارئه أن القصة أهم هذه المكونات؛ فالمسرحية من الممكن أن تتحمل النقص في الحوار، والضعف في تصوير الشخصيات، ولكنها - أبدًا - لا تستغني عن القصة الجيدة. ولا يكتفي علي الراعي المُعَلِّمُ بالكلام النظري، بل يستعين بنماذج من المسرح الغربي، ويبدأ بهنريك إبسن ومسرحية "بيت الدُّمية" كمثال حي على أهمية القصة في النص المسرحي. ويستمر في الشرح والتحليل ليقدم درسًا في فن الكتابة المسرحية، وكان ذلك في أول كتبه للقارئ المصري.
في مرحلة تالية قدم كتاب "مسرحيات ومسرحيون"، وهو أقرب إلى موسوعة مبسطة في المسرح الغربي، بالإضافة إلى رسالته عن برنارد شو التي ترجمها ونشرها عام 1963، فقد كان في ذهنه أن يقدم للقارئ المصري والعربي لمحة عن المسرح العالمي، منذ كلاسيكيات المسرح اليوناني وحتى الاتجاهات المسرحية الحديثة في القرن العشرين، فكان في كل كتاب أو مقال يشعر أنه صاحب رسالة، وحين أطلقت وزارة الثقافة والإرشاد القومي سلسلة روائع المسرح العالمي جاء العدد الأول بتوقيع علي الراعي الذي ترجم مسرحية الشقيقات الثلاث لأنطوان تشيكوف، مع دراسة شاملة عن هذا الكاتب ومسرحه، أبرز فيها تشكُّك تشيكوف في مسرحه! وفاجأ قارئه بالملاحظات التي أبداها هذا الكاتب العظيم على مسرحياته حين قال عن "الشقيقات الثلاث" بأنها ليست مسرحية وإنما ثُلَّةٌ من الخيوط، أما "بستان الكرز" ففيها شيء من التطويل. وخالف علي الراعي تشيكوف ونُقاده، ورأى أن الكاتب نفسه لا يُدرك مبلغ الأصالة والطرافة اللتين يقدمهما في مسرحياته، فثُلَّةُ الخيوط التي يتوه فيها قلمه، والتطويل الذي يشكو منه، هي العناصر الفنية التي ابتكرها الكاتب لكي يعبّر تعبيرًا مجسّدًا عن شيء ثمين بالنسبة لمسرحه. ولم تكتفِ الدراسة بوضع القارئ في عالم تشيكوف فحسب، بل جاءت بمثابة نافذة على المسرح العالمي المعاصر، فقد أصر - منذ البداية - أن يكون الناقد الذي يُلِمُّ بحقول معرفية متعددة؛ ليجمع في أعماله بين البساطة والعمق، منحازًا إلى الشعب، ومحاولًا توسيع دائرة الثقافة، حتى لا تقتصر على النُّخَب فقط، هذا فيما يتعلق بدراسته وأبحاثه في المسرح الغربي.
ذكرنا أن علي الراعي تفتَّح وعيُه قبل الدراسة على فنون الفرجة، وهذا الأمر دفعه إلى البحث في الظواهر المسرحية المصرية والعربية، ومن ثَمَّ لم يدرس في إنجلترا المسرح العالمي إلَّا ليكتشف أصول المسرح المصري. وبعد أن ترك مؤسسة المسرح وتفرغ للكتابة أصدر عبر ست سنوات - ما بين أعوام 1968 و1973 - ثلاثة كتب بحثت في أصول الظواهر المسرحية في مصر، أكّد من خلالها هدفه وقناعته بالشعب صاحب الحق، فقدَّم بانوراما وافية ودراسة تحليلية لظواهر المسرح المصري، وصولًا إلى القرن العشرين.
في كتابه الأول "الكوميديا المرتجلة" ينفض الغبار عن فناني مسرح الارتجال، ويؤكد على قيمته وقيمة الممثل، ويعرض مجموعة من النصوص التي حفظها التاريخ لفناني الارتجال. وفي الثاني يبدأ من مقامات بديع الزمان الهمذاني وتلميذه الحريري، "فبعد طول تسكع في الطرقات والمجتمعات وقاعات الدرس دخلت المقامة المسرح"، بل ويعود إلى جذور المقامة في أصلها باعتبارها أدبًا تمثيليًّا، وأنها مأخوذة من فعل "القيام" في دار الندوة إبّان العصر الجاهلى. ويخبرنا في مقدمة الكتاب، قبل أن يقطع أرض الكوميديا المسرحية من صحراء المماليك وحتى سبعينيات القرن الماضى، حيث بدأ من الكوميديا الشعبية بكل تجلياتها وصولًا إلى الكوميديا الانتقادية وممثلها نعمان عاشور، يخبرنا أنه أخذ على عاتقه مهمة أن يصل بين الكُتَّاب المثقفين وبين تراث الناس في المسرح، و"أنه لا شيء يبرر انعزال كُتَّاب الكوميديا المثقفين عندنا عن كوميديا الشعب، فالكوميديا عندنا بعيدة الجذور واسعة الرقعة موفورة الحظ في الوجدان القومي، فلا مستقبل حقيقي للكوميديا ما لم تتصل بالكوميديا الشعبية، بل بجذورها". ويتعرض بالدراسة والتحليل لنموذجين كان لهما التأثير الأكبر في بداية القرن العشرين في المسرح المصري، وبالتحديد الكوميديا، وهما نجيب الريحاني وعلي الكسار، وكيف استفادا من الكوميديا الشعبية.
وبعد الكوميديا المرتجلة وفنون الكوميديا، فتح الراعي ملف الميلودراما المسكوت عنه، حيث كانت مناقشتها تتم – من قبل – على استحياء، دون دراسة عميقة لهذه الظاهرة التي وجدت قبولًا لدى المصريين. هذا القبول فَسَّرَهُ الدكتور محمد مندور بأن الناس في مصر كانوا حزانى مُثقلين بالهموم، فوجدوا في الميلودراما تنفيسًا عن أحزانهم، لدرجة أن المسرحيين استخدموها في النقد الاجتماعي بدلًا من الكوميديا. وفي هذا الكتاب لم يرفض الميلودراما، أو ينحاز إليها، بل طلب من دارسي المسرح أن يُعملوا النظر في دراستها بعيدًا عن الرفض المُسبق؛ ففيها من الإمكانات ما يمكن أن يُستفاد به لو حَسُن استخدامها. ويبدأ من تراث الميلودراما حين خلَّصتها الثورة الفرنسية من قبضة النبلاء وإصرارهم الزائف على الفضيلة.
ويلاحظ قدرتها على تبني القضايا الاجتماعية الملتهبة، وإبرازها، والتعبير عنها تعبيرًا واضحًا وملتزمًا. ويتنقل بين آراء المسرحيين في الغرب تجاه هذا النوع المثير الذي يجذب الجمهور وينحاز إليه بقوة، حيث أنصف ألاردايس نيكولا الميلودراما بكونها حاجة نفسية وفنية لدى الجماهير العريضة، في حين اعترض عليها جوته واعتبرها نوعًا من الإهانة، فحين عُرضت مسرحية "كلب مونتارجيس" على مسرح ويمار، الذي كان يديره، استقال من منصبه. ثم يأتي دور مدحت بك عاصم، أول من أدخل هذا النوع إلى المسرح المصري، وكتب ثلاث ميلودرامات للشيخ سلامة حجازي، الأولى "صدق الإخاء" 1894، وفي العام التالي كتب "حُسن العواقب" و"هناء المحبين"، لتكون بداية الطريق لسنوات طويلة من مسرح الدم والدموع في مصر، انتقل بعد ذلك إلى شاشة السينما. وحين نشر الدراسات الثلاث في كتاب - بعد عشرين عامًا - راح يدلل على صحة كلامه، من خلال مشاهداته المسرحية في مصر والعالم العربي وتأثير هذه الكتب.
بعد أن جاب أرض المسرح المصري في الكتب الثلاثة سالفة الذكر، راح يجوب أرض المسرح العربي، فكان الناتج هو كتابه الذي صدر عام 1980 "المسرح في الوطن العربي"، وشَكَّلَ حينذاك حدثًا كبيرًا، رسم من خلاله صورة حية للمسرح العربي، إذْ بحث عن الظواهر المسرحية عند العرب، وتناول بالدراسة والتحليل لماذا لم تتطور هذه الظواهر إلى دراما مسرحية، وتناول تطور المسرح وظهوره في كل بلد، معتمدًا على التقسيم الجغرافي، وصولًا إلى سبعينيات القرن الماضي، من خلال قسمين: الأول تناول التراث والمسرح الشعبي بشكل عام، وفي القسم الثاني تناول المسرح في المشرق العربي، مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق والسودان، وخصص القسم الثالث للمسرح في الخليج العربي. وإذا كان كِتاب مسرح الشعب بأقسامه الثلاثة بطاقه هويته في المسرح المصري، فهذا الكتاب بطاقة هويته العربية.
كانت هذه إطلالة سريعة على أهم كتب علي الراعي (1920 – 1999) في مجال المسرح، حاولت من خلالها إبراز مشروعه الثقافي الذي عاش من أجله على المستويين الإداري والفكري، ألا وهو البحث في جذور الظواهر المسرحية في مصر، وإقامة جسر قويّ بين الكُتَّاب المثقفين وبين تراث الناس، ممثلًا الظواهر المسرحية التي تناولها بالدرس والتحليل في كل أعماله. والآن، بعد رحيل هذا المفكر المسرحي الاستثنائي في تاريخ المسرح المصري، الذي بذل حياته لتأصيل الظاهرة المسرحية والبحث عن جذورها، في رحلة استمرت ستة عقود على الأقل، لعب فيها دور البطولة المطلقة في مسرح الشعب .. الآن لنا أن نتساءل: ماذا فعلت الأجيال التالية بمشروع علي الراعي؟ وإلى أين وصل قطار المسرح المصري الآن؟ وهذا ما يحتاج إلى حديث خاص.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020