بقلم رضا سُليمان
كانت مسألة مرهقة للغاية
حينما قررتُ، منذ ما يزيد على عقد من الزمان، أن أنقل مسيرة حياة الدكتور "علي
الراعي" إلى عمل درامي، ليُذاع عبر أثير الإذاعة المصرية في ذكرى رحيله، ذلك
لأن ذلك الهرم الشامخ في مجال النقد الأدبي والفني كرَّس جُلَّ حياته للتأمل
والنقد من أجل النهوض بالحركة الأدبية والفنية، ومن ثَمَّ لم يجد الرغبة أو الوقت
كي يتحدث عن نفسه.
ومن المعروف أن رائدنا
التنويرى "علي الراعي" بدأ حياته العملية في الإذاعة المصرية، ومع ذلك
لا تحتوي المكتبة الإذاعية اليوم على أيٍّ من أعماله الإذاعية، لأنه كان من
الأجيال الأولى في الإذاعة التي مارست عملها في أربعينيات القرن الماضي وعمل كمذيع
هواء، حين لم تكن هناك إمكانية تسجيل البرامج كى تبقى تُراثًا إذاعيًّا، فكان لا بُدَّ
من البحث المضني لإنهاء المهمة. وقد كان ذلك حينما توجهت إلى أحد أهم كُتَّاب
الإذاعة - وهو الرائد الإذاعي عبدالمنعم خلف الله - طالبًا منه إنجاز هذه السهرة
الدرامية الإذاعية، فغاب عدة أيام ثُمَّ عاد بها وقد ظهر عليه أثر من تعب وجهد.
وبدأت العمل وأنا أستحضر روح الدكتور علي الراعي، وأنقلها من الورق إلى أثير
الإذاعة المصرية، لنستعرض في تلك السهرة الدرامية سيرة حياة الرجل، الذي بدأ انطلاقته
الأولى في نفس الإذاعة التي أعمل فيها الآن، وإن كان الفارق الزمني يزيد بكثير على
نصف قرن من الزمان. كان الراعي مُثقلًا بالفكر والرؤى العميقة للحالة الفنية
المصرية والعربية، يتنوع فيها ما بين الرؤية النقدية للرواية تارةً وللمسرح تارات
أخرى.
التفاصيل المعروفة عنه تقول:
إنه مولود في مدينة الإسماعيلية، لكنني - بالبحث والتقصي بسؤال مَن عاصروه - علمتُ
أنه من مواليد مدينة بنها في أغسطس 1920. وحين أتم عامه التاسع عشر وانتهى من
دراسة التوجيهية، قرر الالتحاق بكلية الآداب قسم الأدب الإنجليزي كي يدرس الأعمال
المسرحية لكبار الأدباء، أمثال شكسبير وبرنارد شو وغيرهم من رواد حركة المسرح التي
كانت في علياء الفن حينذاك. وفي سني عمره الأولى، لم يكن يترك مسرحية تُعْرَض إلّا
ويشاهدها لتترك بداخله أثرًا عظيمًا. هذا الحب العظيم للمسرح هو ما جعله يلتحق
بهذا القسم. وما إن أتم عامه الرابع والعشرين، وبعد حصوله على شهادة الليسانس في
الأدب الإنجليزي، حتى التحق بالإذاعة المصرية ليعمل بها مُقدمًا للبرامج، علَّها
تكون بداية الولوج إلى إشباع رغبته في التعبير الفني، حيث يجتمع في الفن الإذاعي مُخْتَلِفُ
ألوان التعبير الفني الذي يشغله، إضافة إلى أنها الوسيلة الأكثر جماهيريةً في ذلك
التوقيت من أربعينيات القرن الماضى. لكنه، وبعد مُضِيِّ عدة سنوات، لم يجد في
تقديم البرامج أو النشرات الإذاعية الإجابة على التساؤلات المثارة بداخله، لا
سِيّما رغبته في النهوض بالعالم من خلال النهوض بالحالة الفنية المعبرة عنه، ولم
يجد وسيلةً إلى رغبته تلك غير المسرح، فقرر ترك الإذاعة والانطلاق لدراسة المسرح،
مُتّخِذًا نقطة البداية والانطلاق من رصيده الفني الذي أصقله جلوسه أمام
الميكروفون الإذاعي، حيث مارس من خلاله أحد أهم الفنون المحببة إلى قلبه وهو
"فن الإلقاء"، ليُبدع ويتألق في استعراض الموضوعات الإذاعية المختلفة
قرابة سبع سنوات بعد تخرجه من الجامعة في عام 1944 وحتى عام 1951. ويحصل المذيع
"علي الراعي" على بعثة إلى إنجلترا لدراسة أدب المسرح في جامعة برمنجهام،
وهناك تتلمذ على يد البروفسير العالمي ألارديس نيكول الذي ترك عدة مؤلفات مهمة في
عالم المسرح، أهمها كتاب "علم المسرحية"، وكتاب "المسرحية
العالمية"، اللذان تُرْجِما إلى العربية، ليعود في يوليو 1955 يحمل علمًا
وشهادة الدكتوراه حول دراما الأديب الإنجليزي الساخر برنارد شو، بعدما اقترح عليه
أستاذه أن تكون رسالته عن دراسة الصحراء في الأدب الإنجليزي، لكنه رفض وتمسك
بموضوعه.
الرحيل عن الإذاعة المصرية
كان خطوة مهمة في حياة الرائد الثقافي "علي الراعي"، لكنها كانت خطوة
محفوفة بالمخاطر، فهل هناك مجال آخر أكثر إغراءً وتفوّقًا من العمل كمذيع بالإذاعة
المصرية حين كانت هي الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشارًا؟! فمنذ تاريخ التحاقه
بالإذاعة المصرية عام 1944 وحتى عام 1951 تاريخ رحيله عن الإذاعة وسفره إلى إنجلترا،
لم يكن هناك غير السينما والمسرح، ولم يكن التلفزيون قد دخل إلى البلاد (بدأ أول
بث تلفزيوني مصري في 21
يوليو 1960). هو – إذنْ - أمام ميكرفون الإذاعة في مكانة مهمة وفي
موقع متميز!! يُضاف إلى ذلك قلة عدد الإعلاميين في ذلك الوقت وانعدام المنافسة،
التي نعانيها اليوم. كان لديه أيضًا التألق الدائم، حيث تتلقف الجماهير البث
الإذاعي في شغف ولهفة لسرعة نقل المعلومة والخبر، لأن الإذاعة تتفوق على الصحف اليومية
التي تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد كي تصل إلى الجماهير في كل مكان!!.
ما يزال السؤال: لِمَ يترك
"علي الراعي" كل هذا ويرحل لدراسة المسرح؟! وحينما يعود لا يكمل عمله في
الإذاعة، بل يتخذ طريقً آخر، عن طريق تدريس الأدب وفن المسرح في جامعة عين شمس وفي
معهدي السينما والمسرح. الإجابة تأتي على لسانه في أكثر من حديث أو حوار، حين يؤكد
أن في أعماقه تكمن رغبات أخرى وطموحات عظيمة، نعم .. إنها رغبات تأمُّل الحياة
والنهوض بها .. والحياة تتجسد على المسرح .. والحياة تتجسد داخل العمل الأدبي من
رواية وقصة .. هنا بالفعل تكمن رسالته "النهوض بهذه الفنون من خلال رؤية
نقدية شاملة ترتقي وتسمو ولا تهدم"، وتزداد المسئوليات على عاتق مبدع بحجم
الدكتور علي الراعي، فإلى جانب كتاباته الصحفية وإشرافه على الكثير من الأبواب
والصفحات الثقافية، تُسند إليه مهام رئاسة مؤسسة الموسيقى والمسرح التابعة لوزارة
الثقافة، وهي فترة الازدهار العُظمى للمسرح المصري، حيث تُعرض الروايات العالمية
والمصرية العظيمة التي ستظل ثابتة كأعمدة مسرحية على الدوام، وكان في منصبه الجديد
دائم التأكيد على أن المسرح يجب ألّا يهدف إلى الربح بقدر ما يهدف إلى التنوير
والتثقيف.
وفي العام 1967م يحدث الخلاف،
حينما يُعلن الدكتور علي الراعي رأيه في قضية رفض أو استياء الوزارة من ظهور فرق
التلفزيون ومسرح القطاع الخاص، حيث قال: إن مؤسسة المسرح التي أشغل رئاستها ترى أن
يكون هناك تعاون خلاق بين المسرح وفرق التلفزيون وبرامجه، وألّا تقف الوزارة موقف
العداء من الوافد الجديد، فهو ككل جديد يحمل معه إمكانيات كثيرة للخير، ومن واجب
الوزارة أن تُفيد من خيره. وفي سبتمبر من هذا العام يَصْدُر قرار وزير الثقافة
بنقله مستشارًا لوزارة الثقافة، وفي العام التالي وعلى إثر رفضه تنفيذ قرار الوزير
بنقله عميدًا لمعهد الفنون المسرحية تتم إحالته إلى التقاعد، لينصرف إلى الكتابة.
يعود الراعي إلى التدريس مرة
أخرى في عام 1973م، عندما يسافر إلى الكويت لتدريس الأدب المسرحي الحديث بجامعة
الكويت حتى عام 1981. وفي هذه الأثناء - وبالتحديد في عام 1974 - تم إنشاء المعهد
العالي للفنون المسرحية في الكويت، كتطوير لمركز الدراسات المسرحية الذي أنشأه زكي
طليمات، وكان الدكتور "علي الراعي" وراء فكرة التطوير وتحويله إلى معهد
عالٍ، ضم في بداياته 3 أقسام رئيسية، وهي قسم فنون التمثيل والإخراج، وقسم النقد
والأدب المسرحي، وقسم الديكور المسرحي. وهناك رَشَّحَ للعمل كأساتذة كُلًّا من كرم
مطاوع، وسعد أردش، وأحمد عبدالحليم، وكمال ياسين، وفاروق الدمرداش، حتى إن بعض
المصريين التحقوا بهذا المعهد للدراسة فيه، مثل فؤاد دوارة وأمين العيوطي. وهناك
أيضًا أنشأ فرقة المسرح العربي التي قدمت مسرحية "سلطان للبيع"، بدلًا
من "السلطان حائرًا"، ومسرحية "الملك يبحث عن وظيفة" للكاتب
سمير سرحان باسم "إمبراطور يبحث عن وظيفة".
الحقيقة أن الدكتور "علي
الراعي" كان أول من تحمس على المستوى الرسمي لجمع التراث المسرحي والموسيقي،
وحفظه ودراسته، وكان يهتم بالأوبريت وبالأوبرا، وهي فنون لم تكن تحظى بأي اهتمام
حتى في الأوساط الثقافية، وهذا ما أعلنه في ندوة في مبنى الأهرام عام 1988، وقد
قوبل رأيه بالرفض والاستهجان من بعض رموز الحركة الثقافية، وظل ينادي بفن أوبرالي
مصري، يَسْتَوْحِي الوجدان المصري ويقترب من الروح المصرية صيغةً وموضوعًا.
من أهم كتبه "المسرح في
الوطن العربي"، الذي يقول في مقدمته: إن الهدف العام لهذا الكتاب هو التعريف
للمسرح في الوطن العربي، وقد سلكتُ فيه كل السُّبل المتاحة لكي يكون هذا التعريف
أوسع وأشمل ما تسمح به الظروف. وهناك أيضًا كُتُبُه "فن المسرحية، جورج
برنارد شو أصوله الفنية والفكرية، هموم المسرح، الكوميديا المرتجلة في المسرح
المصري، توفيق الحكيم فنان الفرجة والفكر، فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب
الريحاني، شخصية المحتال في المقامة والحكاية والرواية والمسرح، مسرحيات ومسرحيون،
مسرح الدم والدموع". وهذا الأخير كتاب في الميلودراما المصرية والعالمية. وله
كتابان في فن الرواية، أولهما "دراسات في الرواية المصرية"، والثانى
"الرواية في الوطن العربى". أمّا الحديث عن تلك الأعمال المهمة في
المكتبة العربية، وجولات وصولات فارسنا في قاعات الدراسة، أو الصحافة، أو الندوات،
ورأيه في العروض المسرحية المختلفة، وغيرها، فإنني أترك الحديث عنها للزملاء من
كُتَّاب هذا الملف، لنُنْهِيَ هنا رحلة ثقافية طويلة وعظيمة، بدأت من الإذاعة
المصرية، وانتهت يوم رحيل الكاتب والناقد والمفكر الدكتور "علي الراعي"
عن عالمنا، في الثامن عشر من يناير عام 1999م.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - سبتمبر 2020