الأربعاء 26 يونيو 2024

في مرثية للنخلة العربية للشاعر فريد أبو سعدة

فن23-10-2020 | 10:28

النخلة العربية مثل الناقة كلتاهما رمز شامخ للتاريخ العربي، كلتاهما تمثلان البيئة العربية في تلك الصحارى الشاسعة الممتدة التي لا يستطيع شيء أن يبقى على حاله فيها، النخلة رمز لهذا الشموخ العربي الذي يتحدى حرارة الشمس وندرة الماء وعسرة الزمن، ولعلنا نتذكر الأبيات التي يشبه بها عبد الرحمن الداخل نفسه بالنخلة العربية، لأنه لم يجد رمزا يمثله سوى هذا الرمز حين يقول في مقطوعتين متتاليتين :

"تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ                      تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ

فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى                  وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي

نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ                     فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي

سقتكِ غوادي المُزْن من صَوبها الذي            يسِحُّ وتستمري السِّماكَين بالوَبل"

ويقول مرة أخرى :

"يا نخلَ أنتِ غريبة مثلي                  في الأرضِ نائيةٌ عن الأهل

تبكي وهل تبكي مكَمَّمَةٌ                   عجماءُ لم تُجبلْ على جَبلي

لو أنها عَقِلتْ إذن لبكت                    ماءَ الفراتِ ومنبِت النخل"ِ

 

إن النخلة صنو الإنسان العربي الذي يفتخر بعزه ومنعته، وصموده أمام تقلبات الدهر، والنخلة ذلك الرمز أيضا عند الشاعر فريد أبو سعدة فشعره لا يخلو من ذكر النخل مرة تلو أخرى ليس في هذه القصيدة التي نحن بصددها فقط بل أيضا في قصائد مختلفة منها قوله

" وأهز النخل تهمي سفعة

كلمات خبأتها الريح لي

جمعتها كاليتامى"

إن رثاء النخلة وتحديد هذه النخلة بالعربية رثاء لتاريخ العرب كله، ومع أن الشاعر يبدأ بأن النخلة باعتبارها كيانا ماديا لا يميد فإن رمزيتها التي اكتسبتها عبر التاريخ هي التي تميد وتبيد ربما، إذ يبدأ المقطع الأول في القصيدة منفصلا هكذا

"كل شيء يبيد

وواحدة أنت في البيد باقية

لا تميد"

الشاعر يعترف للنخلة بأنها باقية في بداية القصيدة التي خصصت لرثائها، كيف تكون باقية وهي ترثى، إن التناقض هنا بين النخلة بوصفها كيانا ماديا، والنخلة بوصفها رمزا من رموز العروبة، النخلة الباقية تلك النخلة التي مازالت تتحدى الصحراء، ولكن روح النخلة التي تلبست جسد العربي عند عبد الرحمن الداخل لم تعد موجودة.

والقصيدة تريد أن تزاوج بين الشاعر والنخلة، وتريد أن توازي بينهما بشكل من الأشكال إذ تبدأ بأن النخلة (واحدة) وتنتهي بأن الشاعر (واحد(

" اتركي لي تواريخهم

فأنا عاشق

وهمو جاحدون

أنا واحد"

وهذا التماهي بين ذات الشاعر وذات النخلة دليل على هذا الانتماء، وكأن الشاعر حين يرثي النخلة العربية، فإنما هو يرثي ذاته نفسها.

وهذه النخلة التي يرثيها الشاعر تقف شامخة معلنة تحديها للبوار والموت

"تطل من الزمن العربي الجميل

مغاضبة

والمدى كالسوار

سافري

مثل وشم على البيد

أو سافري

مثل ظل الغرابيب

واسعة هذه الصحراء

ولا ظل إلا الذي تمنحين"

وكأن الشاعر يريد للزمن أن يعود، أو يدور في دوائر تبدأ من حيث تنتهي، ولذلك يقول " والمدى كالسوار" ولكن هذه الأمنيات لا يمكن أن تعيد الحياة إلى النخلة التي يرثيها الشاعر، ربما يدور التاريخ دورته، وربما تنبت النخلة الأولى في أول الصحراء، لكن من سيعيد إليها هذا الشموخ العربي القديم؟

ومع هذا فلا يمكن للنخلة إلا أن تكون الملجأ الوحيد في الصحراء، لأنها الشجرة الوحيدة التي تمنح الظل

"واسعة هذه الصحراء

ولا ظل إلا الذي تمنحين"

في الحقيقة هناك شجيرات غير النخلة تمنح الظل في الصحراء لعل منها السمرة الشجرة التي تمنح الحنظل، ولكن النخلة تفوق السمرة بعدد كبير من المنافع التي يعرفها العربي جيدا، وربما لم تكن كلمة الظل متوقفة على الظل المادي فقط بل الأمان والمأمن الذي تمنحه النخلة دون سواها.

ولابد هنا من الإشارة إلى ذلك الأسلوب الذي يشبه الأسلوب القرآني الذي يتبعه الشاعر إذ تأخذ الفقرات طابع الجمل القصيرة وتنتهي كلها بما يشبه الفاصلة القرآنية (تمنحين – بعد حين – ما ترين – واشكرين  – ريح الجنون).

وهذه الفاصلة لا تتكرر دائما بل تتناوب مع فواصل أخرى، وهذا ما يجعلها شبيهة بالأسلوب القرآني في الفاصلة.

ثم تبدأ مرحلة أخرى من التماهي بين الشاعر والنخلة، حين يكادان يصبحان شيئا واحدا

" العلامة كنت

وبوابة للقبيلة

هل ردمت ريح هذي الفلاة التواريخ

هنت

وهانت دموع المحبين

إني وحيد

ومنهزم

فاحفظي ما وعيتُ

احفظي ما وعيتِ

سيأتي زمان يزيحون عنا الحجار

سيأتي زمان

ولو بعد حين"

الشاعر يتحد مع النخلة فعليها أن تحفظ ما وعاه وما وعته كلاهما شيء واحد، ويتساءل الشاعر باستفهام كأنه تقريري هل الريح ردمت التواريخ، وكما أن النخلة رمز فالريح أيضا رمز، وما يجعلنا نشعر أن الاستفهام في هذه الجملة تقريري أنه يقرر ما فعلته الريح بالتواريخ، فيقول (سيأتي زمان يزيحون عنا الحجار) وهنا أصبحت الذات الشاعرة شيئا واحدا تماما في امتزاجهما معا في ضمير الجمع (عنا).

ثم يبدأ الشاعر في سرد تاريخ النخلة أو جزء من تاريخها الذي طمرته الرياح

" السماء الكئيبة خالية

مثل رأس حليق

والغرابيب منثورة كالنمش

النبي يطارده الطامعون

(لهم ما يشاءون

من إبل

أو نخيل

لهم ما يشاءون

إن أسلموه) 

النبي المهاجر في البيد

يساقط الآن في القيظ

واللحم محترقا بالعطش

...........

هل رنا لك؟

 (أنت الوحيدة

يا سرة الصحراء

الوحيدة في القيظ)  

هرولت كالأم

باسطة فوقه باليدين"

النبي محمد كان يعرف للنخلة حقها في هذه الصحراء الممتدة، فمما ينسب إليه ما ورد في مسند ابن أبي يعلى الموصلي " أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم ، وليس من الشجر يلقح غيرها".

والشاعر هنا يتحدث الآن عن رحلة الرسول محمد  - صلى الله عليه وسلم -  في الصحراء، الرحلة التي قطعها من مكة إلى المدينة هربا من ظلم أبناء عشيرته، ليؤسس تاريخا جديدا بهذه الهجرة، مشيرا إلى الذين كانوا يتربصون به من أعدائه، وقد وعدت قريش من يدل عليه بما يشاء من الإبل والخيل والنوق، وفي ذلك نستطيع أن نشير إلى رحلة سراقة خلف النبي، ومحاولته الإمساك به، ومن بعده رحلة قريش خلف النبي وصحبه عندما كانا في الغار، إذ يقول الله تعالى {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} التوبة الآية 40

وفي رحلة مثل هذه لابد أن للنخلة دورا لا يمكن أن يقوم غيرها به، فالرحلة في أرض الحرات بين مكة ويثرب لابد أن النخلة فيها كانت تقوم بدور الأم أو العمة التي تعطي لتحفظ الحياة.

فإذا تركنا عصر النبوة إلى عصر الخلافة الراشدة، وجدنا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي كان يقيم العدل بين الناس حتى أنه آمن على نفسه فكان ينام في ظل النخلة بعيدا عن زخرف الحياة ومتاعها، وكانت النخلة ممثلة لهذا الأمن الذي يشعر به عمر ورعيته، حتى أن مبعوث كسرى وجده على هذه الحال فقال قولته المشهورة التي رددتها الأجيال بعد ذلك "عدلت فأمنت فنمت"

النخلة هنا دار ومأوى وأمان، يقول الشاعر فريد أبو سعدة

"استراح إلى عدله وغفا

الخليفة

)في سنوات الرمادة

بلل بالخل لقمته

واكتفى)  

كان كالرمح منتصبا لا يريم

) الرسول الذي بعثته الممالك)

في حضرة البدوي الحكيم

ليس إيوان كسرى كجذع النخيل

ولا سعف النخل ريش الطواويس

لا

ليس بين الخليفة والناس جند

فاحفظي ما ترين"

الشاعر يعيد سيرة الخليفة الذي عدل في عام الرمادة حيث قلة الطعام والشراب، العام الذي أسقط فيه الخليفة عمر عقوبة القطع على السارق، لأن الذي يسرق كان لا يجد قوت يومه، فكان مضطرا، لكن الخليفة لم يكن يستأثر بالطعام من دون الناس فقد كان طعامه من الخبز والخل، وكان فراشه من سعف النخل ولم يكن له ما لكسرى من الزينة، وهنا أيضا النخلة سر ورمز.

وننزل مرة ثالثة في درجات الرمزية لهذه الشجرة الغريبة، فنجد أسطورة هذه الشجرة لا تتوقف على التراث الإسلامي بل تمتد أيضا إلى التراث المسيحي إذ تلد العذراء المسيح تحت النخلة، وتساقط عليها النخلة الثمار الطيبة.

{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } سورة مريم الآية 25

"اهربي

أينما شئت يا مريم

)ليت هذي المدينة يأخذها الرب

أو ينتهي الوجع المؤلم) 

اهربي

أو تمني على الرب موتك

هذي المدينة خلفك

كالرمح

موغلة فيك الجراح

لا ترحم

غاض ماؤك في البيد يا مريم

فضعي ما حملت

وهزي بجذعي إليك

فيساقط الرطب والظل

قري

لطفلك معجزة وفم

فكلي واشكرين"

هنا أيضا تكون النخلة الملاذ والمأوى والسند لمريم العذراء عندما ولدت المسيح، فهي النخلة والنخلة وحدها التي أعطتها الظل والطعام والأمن، ليس غيرها من موجودات الصحراء.

ولكن هذه النخلة التي كتبت هذه الصفحات المضيئة من التاريخ، هذه النخلة قد اقتلعها من جذورها البرابرة البيض، ومن الغريب أن يكون البرابرة بيضا، لكن البرابرة هنا رمز للهمجية وعدم التحضر، هؤلاء البرابرة اقتلعوا النخلة كي يقيموا مكانها شجرة من حديد تستخرج النفط والزفت، أو كما يقول الشاعر

"البرابرة البيض آتون

كي ما يمدون خيطا من الزفت

في راحة البيد

في رئة البيد

خيطا من الزفت

ينقل بحرا من النفط للبحر

وحدك من قال: لا

وأنا

فهوت كل هذي الفؤوس

وغارت بنا"

هنا أيضا يحدث الامتزاج التام بين الشاعر والنخلة (غارت بنا)، وهنا أيضا نشعر أن رثاء النخلة ما هو إلا رثاء لذات الشاعر، إن هذا التاريخ الذي سطرته النخلة مع النبي والخليفة والقديسة مريم، كل هذا التاريخ يمحى بخطوط النفط السوداء، ولكن الشاعر يطلب من النخلة أن تترك له هذا التاريخ، لأنها هي التي قالت لا للبرابرة معه، وهو الذي سيحفظ عنها هذا التاريخ معها، لأنه واحد يتمثل في جسد النخلة الواحدة ...

"اتركي لي تواريخهم

فأنا عاشق

وهمو جاحدون

أنا واحد"

إن القصيدة اختصار لذاكرة النخل في المخيلة العربية، فلا شك أن سيرة النخلة الواردة في القصيدة سيرة مختصرة لكنها معبرة وموجزة وذات دلالة، إنها سيرة نبي وخليفة وقديسة طمستها يد البرابرة البيض بالنفط والزفت، ولكن ذاكرة النخلة وذاكرة الشاعر تأبى أن تطمس، فليفعل البرابرة ما يشاءون ويشوهون وجه هذه الصحراء بما يشاءون من أشجار الحديد، لكن الشجرة العربية ستبقى شامخة في قلب هذه البيد الممتدة، فتحية لذاكرة الشاعر والنخلة، وتحية لهذه القصيدة الرائعة.

    الاكثر قراءة