الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

اتساع الفكر وعمق الفلسفة ضرورتان حياتيتان

  • 23-10-2020 | 12:40

طباعة

أحد طلابي من المحبين للحدود الواضحة الفاصلة القاطعة بين الأشياء: ما الفارق بين المفكر والفيلسوف؟ أجبت: ارسم يا بني خطاً مستقيماً تتوسطه "المشكلة"، حيث "المشكلة" تعني أي مشكلة ومن أي نوع، وعلى يمينك – أي يسار "المشكلة" يكون"المبدأ أو المبادئ الفلسفية" أي مبدأ فلسفي، وعلى يسارك أي يمين "المشكلة" يكون "حل أو حلول المشكلة".

(المبدأ الفلسفي---------------المشكلة--------------الحل)

      ينشغل الفيلسوف بوضع المبادئ الفلسفية التي يرى أنها ما يمكن الاستناد إليه عند تناول أي مشكلة، يوجد هذا المبدأ كفكرة أو قيمةكامنة في الذهن للباحث عن حل مقترح لمشكلة ما بغض النظر عن وعيهأو عدم وعيه بها. هذه المبادئ تنشأ في الأساس أو يتم وضعها  قبل وجود أي مشكلة يمكن علاجها بالرجوع إليها وقد تظهر المبادئ مصاحبة لظهور مشكلة ما، ثم يتم اعتمادها كأساس يُستند إليه لحل مشكلات مشابهة لاحقة. بينما لا توجد الحلول إلا من بعد ظهور المشكلة، أو نتيجة لظهور مشكلة نود حلها ويكون الحل قاصراً أو خاصاً بهذه المشكلة.

     إذا أردنا مثالاً توضيحياً لهذا، يمكننا مثلا القول إن فيلسوفاً ما في ميدان الأخلاق يتبنى المذهب النفعي، أي ذلك المذهب الذي يستند في صورته التقليدية إلى المبدأ الذي قوامه أن "الخير هو ما يحقق أكبر قدر ممكن من السعادة لأكبر عدد من الناس". هذا المبدأ يراه الفيلسوف النفعي مبدأ يصلح لتطبيقه على كل حالة جزئية نريد معها تحديد أين الخير، بمعنى أنه يمكن استخدامه مع ظهور كل حالة جزئية- أو موقف جزئي- نريد معها تحديد أين الخير. بهذا المعنى يمكن القول إن هذا المبدأ"سابق" على ظهور أي مسألة نريد معها تحديد أين الخير.  صياغة هذا المبدأ والحجج التي تبرر الأخذ به هي بالضرورة عمل الفيلسوف. أما إذا ظهرت مشكلة وأعملنا فيها الفكر محاولين حلها بالطرق العقلية أو بالاستناد إلى شواهد إمبيريقية أو تاريخية أو أدلة دينية، فنحن في هذه الحالة مفكرون (علميون، سياسيون أو دينيون) وصلنا لحل المشكلة "بعد" ظهورها، أو كان شغلنا الشاغل هو الوقوف عند حدود حل المشكلة دون أن نشغل أنفسنا بصياغة مبدأ يصلح للمشكلة ولغيرها.

     متى كان هناك مبدأ كامن في ذهننا نفكر في الحلول انطلاقاً منه، فالمبدأ من صنع الفيلسوف والحل من صنع المفكر. لنأخذ مثالاً: عندما اتُخذ قرار بمنع استخدام المبيد الحشري الـDDT، كان ذلك من أجل حل مشكلة تسمم بعض الكائنات، وبالتالي ضرورة الحفاظ عليها من الانقراض. وكذلك كان قرار منع صيد بعض الأنواع النادرة الموجودة في الحياة البرية، أو الصيد البحري الكثيف لأنواع معينة من الأسماك. قرار المنع كان يهدف لحل مشكلة الانقراض. أما المبدأ الفلسفي الكامن خلف هذا الحل فهو مبدأ "العدالة بين الأجيال". الهدف من حماية بعض الأنواع-من الحيوانات أو الأسماك- من الانقراض هو الحفاظ على التنوع البيولوجي الذي تتصف به الكائنات على الأرض. من العدل أن ترث الأجيال القادمة الأرض بالثراء والتنوع البيولوجي والنقاء الذي ورثناها عليه. الحل (منع صيد الحيوانات البرية) قاصر على المشكلة التي ظهرت. أما المبدأ الفلسفي (تحقيق العدالة بين الأجيال) فمبدأ يمكن الاستناد عليه كأساس لحل مشكلات كثيرة يبدو ظاهرها أن عدلنا تجاه الأجيال القادمة قد يختل، مثل (الاستخدام الكثيف لأي مورد من الموارد الطبيعية). على هذا النحو فالمبدأ سابق على ظهور المشكلة، والحل تال لظهورها.

     ما الهدف مما أقول؟ هل هو درس مدرسي يوضح الفارق بين الفكر والفلسفة؟ بالطبع لا. ولكنه دعوة لعدم الوقوف عند الحلول الجزئية الوقتية المتناثرة هنا وهناك والاكتفاء بها ثم الاسترخاء بعدها ظانّين أننا حققنا كل المطلوب. البحث عن المبادئ الفلسفية الكامنة وراء الحلول المختارة وضمان وضوحها في أذهاننا واستناد الحلول إليها أمر مهم، بل هو غاية المراد للاعتبارات الآتية: المبادئ الفلسفية مبادئ مبررة، أي أن هناك حججاً تبرر الأخذ بها. وبالتالي فإن القناعة بها تحولها إلى ما يشبه العقيدة التي نبذل من أجلها كل غال ورخيص لتحقيقها. ومن ثم يؤدي استناد الحلول إليها إلى ضمان تحقيقها على أفضل صورة. إذا أردنا مثالاً توضيحياً يمكننا القول أنه لو استندت سياسات التعليم في مصر في الثلاثين سنة الأخيرة إلى مبدأ مثل "الشباب عماد التقدم" وكان هذا المبدأ واضحاً ومبرراً لدى القائمين على السياسة التعليمية، لما وصل حال التعليم في مصر إلى ما وصل إليه الآن. أمر آخر: يجب معرفة أنه من الممكن أن يكون هناك مبادئ أو قيم فلسفية وراء كل حل. وضوح المبدأ الذي نستند إليه في اختيار الحل يساعد واضع الحل المقترح إلى حد بعيد في توقع نجاح الحل، وذلك من ناحيتين: ضمان أن المبدأ الذي يستند إليه الحل مبدأ مقبول. فمن المبادئ الفلسفية ما قد لا تكون محل قبول، مثل المبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، وتكون حلولنا الجزئية للمشكلات تعتمد عليه دون أن يكون هذا واضحاً لدينا لعدم اهتمامنا بالكشف عن المبدأ الذي يستند إليه الحل الذي اتخذناه. الناحية الأخرى ضمان اتساق مجموع المبادئ التي نعتمد عليها بعضها مع بعض، بحيث لا يدخل مبدأ غير متجانس في نسق المبادئ التي ثبتت فيؤدي إلى تضارب الحلول التي تحقق أهدافاً متعارضة دون أن ندري نتيجة لتعارض المبادئ التي تعتمد عليها الحلولنأن. لتحقيق هذا الأمر يجب أن تكون المبادئ التي تستند إليها الحلول واضحة في أذهان مستخدميها وضوحاً يبرر عدم تعارضها مع بعضها البعض. فلا يمكن تفسير إهمال الدولة لصعيد مصر لسنوات طويلة إلا على أنه سياسة لم تكن تستند إلى مبادئ واضحة، أو سياسة كانت تحكمها مبادئ متعارضة، أغلب الظن أنها لم تكن واضحة في ذهن واضعي أو منفذي سياسات الدولة.

     قد يرى البعض أن ما يبدو أنه سياسات ناجمة عن مبادئ متعارضة ليس كذلك في الحقيقة ولكن ضيق ذات اليد هي ما تحول أحياناً دون تنفيذ السياسات بشكل يظهر اتساق المبادئ التي استندت إليها هذه السياسات. فما كان إهمال الدولة لبعض المؤسسات والقطاعات فيها ناتجاً عن عدم وعي بالمبادئ التي كان يجب أن يستند إليها التطور ولكنه كان ناتجاً عن انشغال الدولة بحروب غلت يدها أمام التنفيذ. هنا يمكن الرد بالقول أن الإهمال لم يتوقف بعد انتهاء الحروب التي خاضتها مصر، بل ربما يمكن القول أنه ازداد سوءاً. عندما تعطي السياسات المختلفة انطباعاً أنها مستندة على مبادئ متعارضة أو أنه لا وجود لمبادئ تحكمها، وتكون حقيقة الأمر أن ضيق ذات اليد هي ما أنتج هذا الانطباع بوجود خلل في السياسات أو في التنفيذ، فإنهمتى كانلواضعي السياسات ومنفذيهاالوعي بهذا، ستكون حاصلة بالضرورة على إمكانيةإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح متى توفرت الظروف والشروط.

    الاكثر قراءة