الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

طه حسين والأحزاب السياسية

  • 23-10-2020 | 13:13

طباعة

كان طه حسين منذ بداية حياته الفكرية فى سنة 1908 تقريباً، رجلاً من رجال الأدب والفكر، قبل أن يكون رجلاً من رجال السياسة..  ولذلك فنحن إذا بحثنا فى كتبه التى تحدث فيها عن تاريخ حياته وتجاربه، وأهمها كتابالأيامفإننا لا نجد فيها شيئاً عن طه حسين السياسى، لا نجد فيها شيئاً عن علاقاته بالأحزاب المختلفة ورجال هذه الأحزاب، وإنما كان طه حيسن حريصاً فىالأياموفى كتبه التى تحدث فيها عن نفسه على أن يحدثنا عن تطوره الوجدانى والمقالى، وعن التجارب الفنسية المختلفة التى صنعت منه هذا الشخص العظيم الذى نسميه طه حسين.

ولذلك كان كتاب الأيام، خاصة جزؤه الأول، أقرب إلى الشعر منه إلى النثر.. إنه تاريخ شعرى عاطفى لطه حسين.. وليس فيه من تجاربه العملية، ومعاركه الواقعية إلا القليل اليسير.. والسبب الأكبر فى هذا كله، كما قلت، أن طه حسين كان أديباً ومفكراً بالدرجة الأولى، وهو عندما دخل ميدان السياسة  منذ كان فى العشرين من عمره أو حتى قبل ذلك لم ينس أبداً أنه دخل هذا الميدان الصاخب العنيف كأديب ومفكر، ولم يدخله كسياسى محترف للسياسة، ومن هنا لم تفرض القوى السياسية التى ارتبط بها طه حسين عليه طابعها الخاص، بقدر ما ترك هو طابعه على هذه القوى واستفاد منها بخدمة أفكاره وقضاياه التى كان يؤمن بها بطريقته العنيفة الحارة المتطرفة فى الإيمان بالأشياء، وهذا الحرص على الجانب الأدبى والفكرى فى حياة طه حسين وكفاحه الطويل، هو الذى جعل لطه حسين شخصية مستقلة حتى فى أشد أيام ارتباطاته بالأحزاب، وفى أعمق لحظات اتصاله بها.

ولنترك هذا الحديث النظرى، ولنبحث - مباشرة - فى قضية طه حسين والأحزاب السياسية.. لقد حدث أول ارتباط بين طه حسين وبين الأحزاب السياسية فى أوائل هذا القرن، وكان الحزب الذى ارتبط به طه حسين فى هذه التجربة السياسية الأولى حزبالأمةوكان الذى جذبه إلى الحزب شخصية لطفى السيد، أكبر رأس مفكر فى الحزب، ومحرر صحيفةالجريدةالتى تنطق بلسان الحزب والتى أسسها الحزب فى سنة 1907 برأسمال قدره عشرون ألف جنيه.. ومن هنا لم يكن ارتباط طه حسين بهذا الحزب الرجعى، الذى يمثل كبار الإقطاعيين والأغنياء، راجعاً إلى التكوينالاجتماعيللحزب.. فلم يكن طه حسين منحدراً من أسرة فنية ولم يكن بعيداً عن مشاعر الطبقات الشعبية الفقيرة، فهو نفسه قد خرج من أسرة متوسطة أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى..  ولكن طه حسين ارتبط بحزب الأمة لسبب فكرى واضح.. فقد كان طه حسين فى ذلك الحين طالباً فى الأزهر، وكان ميالاً - نتيجة لتفتحه الذهنى العجيب - إلى الآراء المتحررة المجددة فى الأدب والحياة..

لقد كان يعيش فى بيئة الأزهر الدينية المتحفظة، وهو أقرب ما يكون إلى التيار الذى خلقه محمد عبده.. ولم يكن هذا التيار المتحرر المتفتح هو التيار الغالب فى ذلك الحين، بل كان تياراً مغلوباً يكافح ويناضل من أجل الانتصار وكسب المواقع المختلفة.. وكانت أقرب بيئة خارج الأزهر إلى عقلية طه حسين المتفتحة الثائرة البعيدة عن الجمود والتزمت، هى تلك البيئة التى خلقها لطفى السيد فى مصر عن طريقالجريدةلسان حال حزب الأمة.

لقد كان لطفى السيد أكبر عقل مثقف ثقافة غربية فى مصر فى ذلك الحين.. لقد تعلم فى أوروبا، وعاد إلى مصر مقتنعاً بالثقافة الغربية اقتناعاً عميقاً، وأراد أن ينقل هذه الثقافة إلى مصر، أو بالأحرى أراد أن يجعل مصر تتجه وجهة غربية عصرية فى ثقافتها الجديدة.. فى العلم والسياسة والمجتمع.

ولم تكن طريقة لطفى السيد فى الدعوة إلى آراثه طريقة عنيفة ملتهبة، بل كانت طريقة هادئة، تهدف إلى الإيضاح والتنوير وانتهاز الفرص المناسبة، أكثر مما تهدف إلى توجيهصدمةفكرية وروحية إلى الجماهير بشكل أو بآخر.

واستطاع لطفى السيد بأسلوبه المعتدل المطمئن إلى نفسه المتمكن من أساسه الثقافى أن يخلق جزيرة فكرية فى مصر.. جزيرة ترحب بالتجديد الفكرى والاجتماعى والسياسى.

ولقد كانت هذه الجزيرة الفكرية التى خلقها لطفى السيد هى تقريباً الجزيرة الوحيدة الموجودة فى البيئة المصرية والتى تتبع من البيئة المصرية نفسها، فلقد كانت هناك جزيرة أخرى متحررة تدعو إلى الثقافة الغربية وتؤمن بها وكانت هذه الجزيرة تتمثل فى المثقفين الشوام أمثال يعقوب صروف، وشبلى شميل، وفرح أنطون وغيرهم.. ولكن هؤلاء لم يكونوا محتكين بالبيئة المصرية احتكاكاً عميقاً، ولذلك ظلوا غرباء عنها ضعفاء فى التأثير عليها.

أما لطفى السيد فقد كان له تأثيره الفكرى الواسع، لأنه ابن البيئة المصرية التابع منها العارف بمشاكلها معرفة دقيقة.

ووجد طه حسين فى لطفى السيد، وفى التيار الفكرى المتحرر الذى خلقه لطفى السيد بيئة ملائمة تماماً لفكره.. لعقله الذى يضيق بالبيئة المحافظة فى الأزهر ويصطدم بها كل يوم.

لم يكن هناك أحد يمكن أن يقبل آراء طه حسين المجددة، ورغبته فى تطوير الأدب والفكر، أعظم من لطفى السيد.. ولم يكن لطفى السيد يكتفى بقبول آراء طه حسين وإفساح صدره لها بكل كان يشجعه على هذه الآراء تشجيعاً واسعاً عميقاً.

ولابد أن نقف هنا لحظة لنلاحظ نوعاً من التناقض الغريب فى داخل حزب الأمة، فلقد كان الحزب كجهاز سياسى حزباً رجعياً شديد الرجعية، يميل إلى مهادنة الإنجليز والتعاون الهادئ معهم، وكان الحزب يرفض رفضاً قاطعاً أى ارتباط بالأتراك أو التعاونكما كان الحزب الوطنى يدعو فى ذلك الحين”..  كان حزب الأمة إذن حزباً رجعياً.. وكان من الناحية الفكرية حزباً مغلقاً لا تكاد تكون له مبادئ واضحة، ولا يكاد يكون له منهج ذو قيمة أو أهمية.. ومع ذلكوهنا التناقضاستطاع لطفى السيد وحده من بين أعضاء هذا الحزب أن يخلق تياراً فكرياً واسعاً، كان من الواضح أن حزب الأمة نفسه لا علاقة له بهذا التيار.

وهكذا.. كان هناك انفصال بين السياسيين الذين يكونون الجسم الأساسى للحزب، وبين هذا الفكر النشيط الذى يكون وحده تياراً خاصاً به وهو لطفى السيد.. ويجمع حوله عدداً كبيراً من المثقفين.

كان هناك إذن تيار سياسى فى حزب الأمة خافت، لا أثر له ولا شعبية، بينما كان هناك تيار آخر هو تيار فكرى منتسب بالدرجة الأولى إلى لطفى السيد..  ربما لا يحس به أعضاء حزب الأمة أنفسهم، هؤلاء كان لا يعنيهم إلا أن يحافظوا على مصالحهم، حيث سماهم لطفى السيدوقد كان واحداً منهم فى النهايةباسم: أصحاب المصالح الحقيقية.

فطه حسين إذن قد ارتبط بحزب الأمة من خلال التيار الفكرى لا من خلال التيار السياسى.. لقد ارتبط بالفكر الحر المنفتح على الثقافة الغربية..  وكان طه حسين ثائراً على الفكر المحافظ فى الأزهر وخارج الأزهر، وكان يبحث عن مأوى لأفكاره المتحررة الثائرة، ووجد هذا المأوى بوضوح فى التيار الثقافى لحزب الأمة، وفى اعتقادى أنه لولا لطفى السيد واتجاهه الفكرى المجدد المتحرر لما ارتبط طه حسين بحزب الأمة، فلقد كان الدافع الأساسى لهذا الارتباط دافعاً فكرياً ولم يكن دافعاً سياسياً بحال من الأحوال.

ونحن لا نجد فى إنتاج طه حسين الفكرى فى هذه الفترة المبكرة من حياته أى ميل إلى تأييد الإقطاعيين والنظام الإقطاعى الذى كان يمثله حزب الأمة من الناحية السياسية والاجتماعية..  لم يكن طه حسين مؤيداً للإقطاع والرجعية، بل كانلاجئاًإلى جزيرة الفكر الحر الجديد فى شخصية لطفى السيد الذى كان - بالمصادفة - من أعضاء حزب الأمة البارزين، لأنه يرتبط مع الحزب بمصالحهفهو من كبار الإقطاعيينوإن كان ينفصل عنه بفكره وعقلهلأنه من كبار المثقفين المجددين”.

ولم ينتسب طه حسين فى هذه الفترةحوالى سنة 1908” إلى الحزب الوطنى، فقد كان الحزب الوطنى حزباً للشعب حقاً، ولم يكن حزباً للأغنياء والإقطاعيين مثل حزب الأمة، ولكن شعبية الحزب الوطنى كانت تتمثل فى جانبه السياسى، أما فى الجانب الفكرى فقد كان حزباً محافظاً متعصباً فى كثير من القضايا الفكرية الرئيسية، لذلك لم يكن طه حسينالذى يقلقه الفكر أولاً وقبل كل شىءيستطيع أن يجد راحته وغايته فى فكر الحزب الوطنى.

فالحزب الوطنى يقوم فى دعوته الوطنية على أساس دينى، ومعنى هذا الأساس الدينى أن ترتبط مصر بتركيا فى ظل الخلافة الإسلامية.

وتركيا فى ذلك الحين رمز للتخلف الشرقى، سواء فى مظهره السياسى، حيث كانت الحكومة التركية، حكومة سلاطين مستبدين طغاة رجعيين لا يعترفون بالديموقراطية التى كانت حلم كثير من المثقفين فى مصر وفى كثير من دول الشرق العربى فى ذلك الحين..  ولقد كان الإيمان بالارتباط مع تركياكما كان الحزب الوطنى يناديترجمته الفكرية هى الإيمان بالتقاليد القديمة الجامدة، ورفض مظاهر الحياة الحديثة العصرية المرتبطة كل الارتباط بالغرب وثقافته.

ونشأت بين طه حسين - فى هذه الفترة المبكرة من حياته - وبين أحد أعلام الحزب الوطنى وهو الشيخ عبدالعزيز جاويش معركة حول موضوعالسفور والحجاب”.

وهذه المعركة تكشف لنا كيف كان هناك اختلاف واسع بين التفكير العصرى المتحرر الذى آمن به طه حسين، وبين التفكير المحافظ الذى كان يعيش فى ظل الحزب الوطنى.

كان طه حسين يدافع عن سفور المرأة وتحريرها من الحجاب، وهى فكرة عصرية، أخذها من تفتحه على الثقافة الغربية والحضارة الغربية، وكتب سنة 1911 سلسلة من المقالات يدعو فيها إلى هذا الرأى، وهو يلخص مقالاته فى هذه الكلمات فيقول:

لا فرق بين المرأة والرجل فى الحرية، وكلاهما مأمور بمكارم الأخلاق منهى عن مساوئها، محظور عليه أن يتعرض لمكان الشبه.. فالمرأة لا تخلو بالأجنبى ولا تسافر وحدها، ولا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى.. ولها بعد ذلك أن تفعل ما تشاء فى غير إثم ولا لغو.. لها أن تطرح النقاب وترفع الحجاب، وتتمتع بلذات الحياة كما يتمتع الرجل.. وليس عليها إلا أن تقوم بما أخلت به من الواجب لنفسها وزوجها والنوع الإنسانى كافة.. هذا هو حكم الإسلام وهو رأينا الذى لا نحيد عنه.. ولا نعدل به رأياً آخر”.

وكان هذا الرأى الذى قال به طه حسين منذ أكثر من نصف قرن، يعتبر رأياً تقدمياً، مفرطاً فى تقدميته، حيث ضمن آراء المدرسة المتطرفة - آنذاك فى تحرير المرأة - وعلى رأسها قاسم أمين، وقد رد على هذا الرأى الشيخ عبدالعزيز جاويشأحد زعماء الحزب الوطنيوقال فى هذا الرد الذى دافع فيه عن إعجاب: ان رأىالأستاذطه حسين يعتمد على أصلين أوليين:

الأول: ظنه أن الحجاب إنما اصطنع ليكون عقوبة على المرأة

والثانى: قوله إن المرأة والرجل إذا نشآ على قواعد الدين وأصوله وهذبت أخلاقهما أمنا عادية الشر ولم تحتج إلى حجاب ونقاب.

أما الأصل الأول فنحن نخالف الأستاذ فيه، نقول إن الحجاب لم يتخذ عقوبة للمرأة ولا حجراً عليها، وإنما اتخذ تكريماً لقدرها وتعظيماً لأمرها، ودفعاً للأذاة عنها..  فإننا لا نخاف المرأة على نفسها فقط، بل نخافها ونخاف معها الشبان وما يتصفون به من سوء الخلال وكواذب الأخلاق.

وأما الأصل الثانى فنحن نوافق الكاتب عليه..  نقول إن تهذيب الأخلاق وتربية النفوس على أصول الدين يغنيان أكثر من غناء الحجاب والنقاب.

ولكن أين السبيل إلى ذلك؟

تلك هى المسألة التى لا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلا بالقول، حتى إذا آن له أوان العمل وحان حينه وقف منه موقف الحائر، لا يدرى أيقدم أم يحجم، ولا يعرف إلى أين يذهب ولا من أين يجىء”.

هذا مثال من أمثلة الخلافات بين طه حسين ومفكرى الحزب الوطنى.. ولقد كانت هناك خلافات أعمق وأعقد، ومن بين هذه الخلافات الرئيسية ما أشرنا إليه منذ قليل من أن رأى طه حسين إقامة دولة عصرية على أساسقوميلا على أساس دينى، فالوطن فى مفهومه شىء آخر غير الدين، ويجب فصل الدين عن الدولة، وما كان الحزب الوطنى يوافق على مثل هذا الرأى الذى أخذ به طه حسين من الثقافة الغربية والنظام السياسى الغربى.

على العكس لقد كان الحزب الوطنى ينادى بإقامة الدولة على أساس دينى، ومن هنا كان يؤمن بالعمل على استمرار الخلافة العثمانية، باعتبار ذلك استمراراً للخلافة الإسلامية، التى هى هدف الحزب الوطنى وأساس دعواه.

فى الناحية الأخرى كانت آراء لطفى السيد، الآراء القريبة إلى قلب طه حسين وعقله.. فلقد كان ينادى بفصل الدين عن الدولة والأخذ بفكرة الدولة المدنية العصرية، وكان ينادى بتحرير المرأة وسفورها، ويتبنىالكاتباتاللائى كن يكتبن فى الدعوة إلى تحرير المرأة، فقد نشر فى صحيفةالجريدةمقالات لإحدى رائدات الحركة النسائية وهىملك حفنى ناصفثم نشر لها كتابها المشهورالنسائيات، وقدمه تقديماً حاراً متحمساً.

وفى النهاية كان لطفى السيد مؤمناً بالعقل أكثر من إيمانه بالعاطفة، ولقد كان طه حسين أقرب إلى الإيمانبالعقلمنه إلى الإيمان بالعواطف..  ومن هنا وجد فى لطفى السيد، ومن معه من مثقفى حزب الأمة جاذبية، لم يجدها فى الحزب الوطنى الذى يؤمن بالتقاليد والعواطف العنيفة الملتهبة، ولا يكاد يقترب من الأسلوبالعقليفى معالجة أمور الحياة والفكر والسياسة.

ومما ينفى تهمة الرجعية السياسية من طه حسين فى هذه المرحلة - رغم ارتباطه بحزب الأمة الرجعى - أنه فى ذلك الحينحوالى سنة 1908” كان هناك حزب ثالث فى مصر اسمه الحزب الوطنى الحر، وكان هذا الحزب يلتف حول جريدة المقطم وصاحبها فارس نمر، وكان زعيم هذا الحزب رجل اسمه محمد وحيد، وقد كان هذا الحزب يميل ميلاً واضحاً إلى التعاون مع الإنجليز ويقول هذا الحزب على لسان مؤسسة محمد وحيد هذاإن سلامة المصريين فى سلامة المحتلين”.

لقد كان هذا الحزب يناصر الإنجليز، وفى وقاحة لا حد لها، ولكن بطريقة أكثر صراحة وتطرفاً وابتذالاً، ولم يقترب طه حسين من هذا الحزب إطلاقاً، ولو فى لحظة واحدة من لحظات بدايته الفكرية، ذلك لأن هذا الحزب كان خالياً تماماً من جناح المثقفين الذى يملأ حزب الأمة ويجعل له وجهاً آخر غير وجهه السياسى وهو الوجه الفكرى المتحرر.

فطه حسين إذن لم يرتبط سياسياً بحزب الأمة، وإلا لكان قد ناصر أيضاً الحزب الوطنى الحر، أو عطف عليه، أو كتب فى صحفه، ولكنه فى الحقيقة كان مرتبطاً أساساً بالحركة الفكرية لحزب الأمة.. هذه الحركة المجددة المؤمنة بالثقافة الغربية العصرية لقد كانت هذه الحركة أنسب بيئة لهذا الأزهرى الشاب الذى كان ثائراً أشد الثورة على الأزهر، والذى فصل بالفعل من الأزهر نتيجة لتطرفه، ولآرائه التى لم تعجب علماء الأزهر.

على أن حزب الأمة قد بدأ يمر حوالى 1909 “بعد سنتينمن إنشائه بأزمة عنيفة من أزماته.. فلقد نشأ هذا الحزب - كما يسجل الباحثون والدارسون لهذه المرحلة من تاريخنا - بإيحاء من اللورد كرومر الذى كان يعادى الخديو عباس عداء عنيفاً، وكان الحزب الوطنى يناصر الخديو، ويمثل قوة سياسية شعبية لها خطرها وتأثيرها الكبير، وقد أراد كرومر أن ينشىء حزباً آخر يناصر الإنجليز ويقف ضد الحزب الوطنى فأوصى بعض أنصاره بإنشاء حزب الأمة، ولكن اللورد كرومر ترك مصر سنة  1907، وجاء بعده السيرالدون جورستواتبع سياسة الوفاق مع الخديو - على عكس سياسة كرومر.. هنا بدأ حزب الأمة يفقد دوره، وبدأ يذوى ويذبل.. إلى أن انتهى إلى الجمود وفقدان القدرة على أى حركة سياسية لقد كان هذا الحزب يتوقع أن يستولى على الحكم من خلال اللورد كرومر..  ولكن اللورد كرومر رحل من مصر، ورحلت سياسته، ورحلت معه أيضاً أحلام حزب الأمة.

وفى فترة الأزمة التى مر بها حزب الأمة اقترب طه حسين من الحزب الوطنى اقتراباً محدوداً بعد أن ظل بعيداً عنه مختلفاً معه إلى حد بعيد وكانت بداية التقائه بهذا الحزب عندما أنشأ الشيخ عبدالعزيز جاويش - أحد زعماء الحزب - مدرسة ليلية لتعليم اللغة الفرنسية لمن يريد ذلك من الطلاب، وقد كان الحزب الوطنى يؤمن بضرورة تعاون المصريين مع فرنسا كقوة أوروبية للضغط على إنجلترا، ولا شك أن هذه الفكرة كانت وراء إنشاء مدرسة الشيخ جاويش لتعليم الفرنسية للطلاب المصريين، كما كانت وراء كثير من مواقف الحزب الوطنى وتصرفاته المختلفة”.

وانضم طه حسين إلى هذه المدرسة، وتعلم فيها مبادئ اللغة الفرنسية، ثم أخذ ينشر فى صحف الحزب الوطنى مقالات وقصائد مختلفة.

على أننا نلاحظ فى هذه المرحلة من حياة طه حسين أن ارتباطاته بالحزب الوطنى كانت ارتباطات بجانب واحد من مبادئ هذا الحزب، وهو جانب الدعوة إلى الجلاء والاستقلال التام، فقد ظل طه حسين محتفظاً بخلافاته الفكرية التى أشرت إليها منذ قليل، مع الحزب الوطنى، وقد كتب طه حسين كثيراً منقصائدهيدافع فيها عن استقلال مصر فى هذه الفترة ونشر معظمها فى صحف الحزب الوطنى ومن نماذج هذا الشعر قوله فى إحدى قصائده: مخاطباً الإنجليز فى قصيدة كتبها سنة 1909

تيمموا غير وادى النيل وانتجعوا

فليس فى مصر للأطماع متسع

كفوا مطامعكم عنا، أليس لكم

مما جنيتم وما تجنونه شبع؟

وفى قصيدة أخرى قالها يخاطب العام الهجرى الجديد:

كن أنت بعد أخيك فى هلال

وأضئ لمصر سبيل الاستقلال

أشرق وحدث مصر عن آمالها

ماذا صنعت بهذه الآمال

أمصدق فيك الظنون وناظر

للنيل نظرة مانع وصال؟

ومبدد عن مصر بعض همومها

فلقد أضر بها أخوك الخالي

أغرى الخطوب بها وأمطر أهلها

من ريبهن بوابل هطال

وقال غير ذلك من النماذج الشعرية التى تعتبر الآن أثراً طريفاً عن آثار طه حسين والتى جمع الكثير منها الأستاذ محمد سيد كيلانى فى كتابه الممتاز القيمطه حسين الشاعر والأديب”.

وكل هذه النماذج وغيرها من كتابات طه حسين تدلنا على شىء واحد هو أن ارتباط طه حسين بالحزب الوطنى كان هذه المرة ارتباطاً سياسياً ولم يكن ارتباطاً فكرياً، فلا يزال طه حسين مؤمناً بآرائه التى تشده إلى لطفى السيد ومثقفى حزب الأمة الذى مات الآن وانحل من الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وإلى تحرير المرأة، وما إلى ذلك من آراء لا يوافق عليها الحزب الوطنى.

أما من الناحية السياسية لطه حسين ينادى بمبادئ الحزب الوطنى وهى الجلاء التام والاستقلال الكامل وقد ظل طه حسين على ارتباطه السياسى غير الفكرى بالحزب الوطنى حتى سافر إلى فرنسا فى بعثة دراسية سنة 1914 بعد أن نال الدكتوراه من الجامعة المصرية وعاد طه حسين بعد انتهاء بعثته فارتبط من جديد ارتباطاً عميقاً بلطفى السيد وجماعة المثقفين الذين كانوا أعضاء فى حزب الأمة القديم أو كانوا أصدقاء لهذا الحزب، ولم يعد طه حسين بعد رجوعه من فرنسا إلى الاتصال بالحزب الوطنى على الإطلاق.

ويمكننا أن نجد فى هذه المرحلة عن حياة طه حسين عنصراً جديداً يفسر لنا زيادة ارتباطه بهذه المجموعة من المثقفين، لقد كان طه حسين يحس بعد أن تمكن من تعليم نفسه وتدعيم ثقافته، أنه قد عاد من باريس وهو يحمل فى عقله آراء جديدة سوف تصدم الرأى العام حتماً صدمة عنيفة.. وأن مثل هذه الآراء الجديدة تخالف التقاليد والأفكار التى تعود عليها الرأى العام.. ولقد كان طه حسين يتوقع - وهو محق فى ذلك - أن يثور ضده الرأى العام ثورة عنيفة وخاصة أن الأمية كانت منتشرة فى صفوف الشعب، وأن التقاليد الفكرية المحافظة كانت معششة فى العقول بصورة قاسية.

ومن هنا تصور طه حسين أن لا مأمن لفكره إلا بين نخبة من المثقفين، ولو كانت هذه النخبة قليلة، ولكنها على أى حال سوف تفهمه وتقدره بل وسوف تقدم له الحماية وتدافع عنه.

ولذلك لم يفكر طه حسين بعد عودته من أوروبا فى أن يرتبط بحزب شعبى، فالحزب الشعبى عادة يمتد إلى قاعدة جماهيرية كبيرة، وهو يحرص على إرضاء هذه القاعدة، وعدم استفزازها أو تبنى آراء لا توافق عليها ولقد كان الحزب الشعبى الذى بدأ يظهر ويستولى من قيادة الحياة السياسية فى ذلك الحين هو حزب الوفد.

لم يرتبط طه حسين بالوفد بعد عودته من باريس، ولم يقف إلى جانبه، بل ظل مرتبطاً ببقايا حزب الأمة، وأصدقاء هذا الحزب، من أمثال عدلى، وثروت.. وفى سنة 1922 تم إنشاء حزبالأحرار الدستوريينمن بين أعضاء حزب الأمة القديم، وقد أنشئ هذا الحزب لمعارضة الوفد، وللوقوف إلى جانب السراى فى حربها مع الوفد.

وانضم طه حسين إلى هذا الحزب واشترك فى صحيفتهالسياسةالتى كان يرأس تحريرها أحد كبار المثقفين فى حزب الأحرار الدستوريين بل وفى مصر كلها وهو الدكتور محمد حسين هيكل، قريب لطفى السيد وتلميذه..  وكان طه حسين فى ذلك الحين مدرساً فى كلية الآداب بالجامعة المصرية..  ووقف طه حسين فى هذه الفترة بعنف وقسوة ضد الوفد وضد سعد زغلول.

ولا شك أن هذا الموقف من جانب طه حسين - فى التقييم السياسى - كان موقفاً خاطئاً، فالوفد فى ذلك الحين كان أكثر الأحزاب المصرية ثورية وقرباً من الشعب، بينما كان الأحرار الدستوريون بعيدين عن الشعب ومصالحه فهم مجموعة من الأعيان والإقطاعيين.

ولكن موقف طه حسين فى ذلك الحين كان وراءه أكثر من مبرر.. فكما أشرت كان حزب الأحرار الدستوريينوقد احتوى حزب الأمة القديم وأضاف إليهيضم جناحاً من كبار المثقفين المتحررين إلى أقصى حد وكان على رأسهم أيضاً لطفى السيد، الذى كان على رأس الجناح المثقف فى حزب الأمة القديم أيضاً.

وهذه البيئة من المثقفين كانت تتقبل طه حسين وتساعده بكل ما فيه من تمرد فكرى وثورة عقلية ولم تكن تنفر منه أو تضيق به، كما كان المتوقع لو أن طه حسين انضم إلى حزب الوفد، حيث لم يكن الوفد يستطيع - بسبب قاعدته الشعبية - أن يتقبل مثل هذه الآراء الفكرية الجديدة التى تصدم الجماهير فى تقاليدها الفكرية المختلفة.

ومن ناحية أخرى لم يكن حزب الوفد ولا قيادة سعد زغلول فوق الشبهات.. فلقد بدأ الوفد يفكر بعقلية البحث عن السلطة أى أنه بدأ يتخلص من قيادة ثورة  1919، وبدأت المآخذ تظهر ضد سعد زغلول من جماعات متعددة من بين المثقفين على وجه الخصوص، فكانوا يأخذون عليه لوماً منالمكيافيلليةالسياسية، ويأخذون عليه استبداده وإصراره على قيادة الحركة السياسية المصرية - التى اشترك معه فى قيادتها كثيرون من زملائه الأكفاء - بطريقة فردية متسلطة لا تعطى فرصة العمل للآخرين، وسواء صحت هذه المآخذ على سعد زغلول أو لم تصح.. فمن المؤكد أنه كان قد فقد لمسة الإجماع على زعامته إلى حد يقرب من التقديس خلال ثورة 1919 لقد فقد اللمسة فى سنة 1923 “حيث أنشئ حزب الأحرار الدستوريينوما بعدها إلى سنة وفاته “1927”

ومن هنا لم يعد سعد فوق النقد.. ولم يعد حائراً على الولاء المطلق لقيادته وزعامته.

ومما لا شك فيه أيضاً أن العلاقة الشخصية كان لها دور فى هذا الموقف الذى اتخذه طه حسين ضد الوفد وضد سعد زغلول، فلقد كان طه حسين على علاقة عميقة بلطفى السيد منذ بداية هذا القرن، كما كان على علاقة وثيقة بأسرة عبدالرازقحسن عبدالرازقومصطفى عبدالرازق وعلى عبدالرازقوكانت هذه الأسرة من دعائم حركة الأحرار الدستوريين كما كانت من قبل من دعائم حزب الأمة، وكانت هذه الأسرة بالذات قريبة إلى قلبه لأن من بين أفرادها عالمان كبيران تعلما فى الأزهر مثلما تعلم طه حسين، ولكنهما كانا من أكثر المنادين بالتجديد والتحرر فى الفكر العربى الإسلامى عموماً، وقد خاضا كثيراً من المعارك فى سبيل هذا التجديد هذان العالمان هما مصطفى عبدالرازق وعلى عبدالرازق.

تجمعت هذه العوامل كلها فربطت بين طه حسين وبين الأحرار الدستوريين وأبعدته عن الوفد.. وفى هذه الفترة نفسها كان هناك زميل آخر لطه حسين.. ابن من أبناء جيله.. وواحد من ألمع مفكرى هذا الجيل.. هو عباس العقاد.. وكان العقاد يقف فى الطرف المقابل لطه حسين.. كان يرتبط بالوفد وبسعد زغلول أشد الارتباط.

ولعل المقارنة بين الكاتبين تساعدنا على الوصول إلى مزيد من الوضوح فى موقف طه حسين، فلقد كانت المعركة فى حياة العقاد معركة مادية..  لقد خرج من أسرة فقيرة جداً، مما أضناه وأرهقه، وجعله فى بداية حياته قريباً جداً من واقع الشعب وحياة جماهيره، بينما طه حسين لم يعان كل هذه القسوة فى بداية حياته، بل وجد من أسرته المتوسطة ما يعينه على مواصلة تعليمه، وكانت المعارك الفكرية الأولى فى حياة العقاد مع شوقى وهو شاعر كبير وأرستقراطى كبير وقد تجسدت فى هذه المعركة العنيفة بين العقاد وشوقى وكأنها معركة مع كل من يمثلهم شوقى من الأرستقراطية الفكرية التى كانت تملأ حزب الأمة، وحزب الأحرار الدستوريين من بعده، بينما كانت معركة طه حسين مع الأزهر، أى مع الرأى العام كله، ذلك الرأى العام الذى كان يعتبر أى هجوم على الأزهر هجوماً على الدين.. لا يقبله ولا يقره ومن ناحية ثالثة لم يظهر العقاد بأى آراء - فى القضايا الكبرى - تصدم الرأى العام وتثيره.. بينما كانت كل آراء طه حسين فى بداية حياته الفكرية صدمة مستمرة متواصلة للرأى العام.

ومن هنا كان العقاد قادراً على أن يقف بلا خوف فى صف الرأى العام.. بينما كان طه حسين عاجزاً عن أن يلتزم بهذا الموقف.

على كل حال لم يمض وقت طويل حتى جاءت المعركة الحاسمة الأولى فى حياة طه حسين وهى معركة كتابهفى الشعر الجاهليفقد صدر هذا الكتاب فى سنة 1926.. وأثار زوبعة ضخمة فى الرأى العام انعكست على مجلس النواب الذى كانت أغلبيته وفدية.. وكان يرأسه سعد زغلول بينما كان رئيس الوزراء هو عبد الخالق ثروت المتعاطف مع الأحرار الدستوريين والمعادى للوفد.. ومن الأشياء الدالة على موقف طه حسين أنه أهدى كتابه فى طبعته الأولى إلى عبد الخالق ثروت، وكان نص هذا الإهداء الذى لم يظهر فى الطبعات التالية هو:

إلى حضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروتباشا”.. سيدى صاحب الدولة.. كنت قبل اليوم أكتب فى السياسة وكنت أجد فى ذكرك والإشادة بفضلك راحة نفس تحب الحق، ورضا ضمير يحب الوفاء، وقد انصرفت عن السياسة وتفرغت للجامعة، وإذا أنا أراك فى مجلسها كما كنت أراك من قبل، قوى الروح، ذكى القلب، بعيد الناظر، موفقاً فى تأييد المصالح العلمية توفيقك فى تأييد المصالح السياسية.. فهل تأذن لى فى أن أقدم إليك هذا الكتاب مع التحية الخالصة والإجلال العظيم”.

وهكذا أهدى طه حسين كتابه، أو قنبلته الفكرية إلى عبد الخالق ثروت، صديق الأحرار الدستوريين، وصديق جناحهم المثقف على وجه الخصوص.

ولا شك أن طه حسين كان يعرف أن كتابه سوف يثير زوبعة فكرية ضخمة، ولم يتوقع الحماية من الرأى العام، وإنما توقع هذه الحماية من النخبة المثقفة التى كانت ترتبط ارتباطاً حزبياً بالأحرار الدستوريين أو تربطهم به رباط صداقة ومودة من أمثال:  لطفى السيد، ومحمد حسين هيكل، وعبدالخالق ثروت، ومصطفى عبدالرازق، وعلى عبدالرازق.

وقامت الزوبعة بالفعل.. ووقف البرلمان الوفدى برئاسة سعد زغلول ضد طه حسين وطالب البرلمان بمحاكمة طه حسين، وتقدم النائب الوفدى عبدالحميد البنان ببلاغ إلى النيابة ضد طه حسين، وألقى سعد زغلول نفسه خطاباً فى إحدى المظاهرات التى قامت تطالب برأس طه حسين بسبب كتابه.. وقال سعد فى هذا الخطاب:

إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر فى هذه الأمة المتمسكة بدينها هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذى فى الطريق، فهل يفسر العقلاء شىء من ذلك.. إن هذا الدين متين، وليس الذى شك فيه زعيماً، ولا إماماً حتى نخشى من شكه على العامة، فليشك ما شاء، وماذا علينا إذا لم تفهم البقر”..

 

ويمكن متابعة تفاصيل هذه القضية المثيرة فى كتابفصول ممتعةللأستاذ محمد سيد كيلانى.

والسؤال هنا..

من الذى دافع عن طه حسين عندما اتهمه الوفديون وزعيمهم بأنه فى كتابه عن الشعر الجاهلى ملحد خارج عن الدين؟

إن الذين دافعوا عنه ووقفوا إلى جانبه هم، أولاً:  لطفى السيد مدير الجامعة وهو أحد أعلام الأحرار الدستوريين وأحد مؤسسى الحزب، وهو الذى كتب أول بيان خرج به الحزب على الناس، وألقاه عدلى باشا فى أول اجتماع للحزبفى فندق شبرد القديم”.. وكان لطفى السيد قد انفصل عن الأحرار الدستوريين - شكلياً - بعد أن أصبح مديراً للجامعة، باعتبار أن منصب مدير الجامعة يجب ألا يكون منصباً حزبياً

ثانياً: على الشمسى وزير المعارف آنذاك..  وكان فى ذلك الوقت قريباً من الأحزاب الدستوريين محسوباً عليهم.. وقد دافععلى الشمسيفى البرلمان عن طه حسين دفاعاً صريحاً وقال للنواب فى دفاعهإننا نطمع فى أن تكون الجامعة معهداً طلقاً للبحث العلمى الصحيح”.

ثالثاً: “ وهذا هو الأهمعبدالخالق ثروت نفسه، وقد كان رئيساً للوزراء، وهو الذى أهدى له طه حسين كما أشار فى كتابه الذى أثار كل هذه العاصفة العنيفة وعبدالخالق ثروت من كبار أصدقاء الأحرار الدستوريين، وإن كان من الناحية الشكلية يبدو مستقلاً..  وقد هدد ثروت بالاستقالة إذا أصيب طه حسين بأى ضرر وهكذا وقف حزب الأحرار الدستوريين إلى جانب طه حسين..  بينما وقف الوفد ابتداء من زعيمه سعد زغلول ضد طه حسين..  وقف حزب الأقلية مع حزب الرأى..  ووقف حزب الأغلبية ضد حرية الرأى..  وقفت النخبة المثقفة التى تلتف حول الأحرار الدستوريين مع طه حسين..  ووقفت الجماهير العريضة، بأفكارها المحافظة ضد طه حسين، وتابعت قيادة الوفد هذا الموقف، بل وغذته بعنف وقسوة.

وكان طه حسين فى ذلك الحين يبدو من الناحية الشكلية أيضاً مستقلاً بعيداً عن الأحزاب..  لأنه أستاذ فى الجامعة..  والأستاذ الجامعى يجب أن يكون فوق الأحزاب.

ولقد حرص طه حسين فى هذه الفترة حرصاً كاملاً على استقلاله الشكلى..  ولكنه كان يميل بالتأكيد إلى الأحرار الدستوريين، بسبب موقفهم من حرية الرأى، ومساندة مثقفيهم للتجديد الفكرى مساندة واضحة،

واضطر طه حسين فى هذه المعركة إلى سحب كتابه  فى الشعر الجاهليوحذف بعض الفقرات التى أثارت هذه الحملة العنيفة ضده..  ثم أعاد إصداره باسم جديد هوفى الأدب الجاهليوإن كان طه حسين قد أعلن أكثر من مرة إنه متمسك بما جاء فى الطبعة الأولى من كتاب فى الشعر الجاهلى.. وإنه لو وجد فرصة لأعاد نشر هذه الآراء.

وهدأت العاصفة بعد أن حذف طه حسين من الكتاب ما تسبب فى إثارة هذه العاصفة.

واستمر طه حسين مرتبطاً بالأحرار الدستوريين وأستاذاً فى الجامعة سنوات متعددة إلى أن وصل إلى منصب عميد لكلية الآداب.

وجاءت سنة 1932 لتحمل معها مرحلة جديدة فى حياة طه حسين السياسية، ففى هذا العام كان على رأس الحكومة الطاغية الرجعى إسماعيل صدقى، لقد جاء به الملك فؤاد إلى الحكم ليضمن عن طريقه أن تكون السلطة مطلقة فى يد السراى، وجاء صدقى نفسه إلى الحكم ليخدم بمنتهى الصراحة والوضوح الرأسمالية المصرية الناشئة، التى تريد أن تشترك مع الاستعمار فى نهب البلاد واستغلالها.

وأراد صدقى أن يكتسب كل الصفات الشكلية التى تؤهله لرئاسة الوزارة ولتحطيم الدستور، وللقيام بدور البطولة فى ظل الديموقراطية الزائفة.

لقد كانت هذه الديموقراطية، تقتضى وجود حزب وصحيفة معبرة عن هذا الحزب وأغلبية برلمانية.. وألف صدقى باشا بالفعل حزباً جديداً هو حزب الشعب، وعقد الحزبالمفتعلأول اجتماعاته فى 17 نوفمبر سنة  1930، وأصدر جريدة للحزب أسماهاالشعبأيضاً، وأجرى انتخابات زائفة قاطعها الشعبالحقيقيوسالت فيها دماء المواطنين، وتمكن صدقى من تزييف برلمان يؤيده بأغلبية الأصوات.

وكان طه حسين فى هذا الوقت عميداً لكلية الآداب، فطلب منه صدقى باشا أن يحرر جريدةالشعبالمدافعة عن الحكومة، ورفض طه حسين هذا الطلب، فقد كان أصدقاؤه - الأحرار الدستوريين - متحالفين مع الوفد فى معارضة الحكومة القائمة معارضة حاسمة، وكانت الأمة كلها غاضبة على هذه الحكومة.

ولكن السبب الأكبر - فيما أعتقد - لرفض طه حسين التعاون مع صدقى باشا هو الرجعية الفكرية الواضحة التى كانت واضحة في هذه الحكومة..  فقد أغلقت الحكومةمعهد التمثيل والرقص التوقيعيبحجة أنه يمس الآداب العامة، وحاربت الاختلاط بين الشباب والفتيات فى الجامعة حرباً قاسية شعواء، وأثارت العديد من المعارك والحروب ضد حرية الفكر، وضد التجديد الفكرى بالذات، فكيف يقبل طه حسين، المفكر المجدد المستنير أن يتعاون مع حكومة تتصف بكل هذه الرجعية الفكرية؟

كيف يقبل أن يتعاون مع حكومة تغلق معهد التمثيل، وهو المؤمن بالفن المسرحى، والذى كاد يطير فرحاً، عندما قرأ فى ذلك الوقت تقريباً مسرحية أهل الكهف.. أول مسرحية لتوفيق الحكيم.. حيث اعتبر طه حسين هذه المسرحية بداية لفن جديد فى الأدب العربى هو فن المسرح.

كيف يتعاون مع هذه الحكومة وهو المؤمن بحرية المرأة وبضرورة تعليمها تعليماً كاملاً.. والذى يؤمن أن الاختلاط فى الجامعة حق طبيعى للفتاة والشاب؟!

كان من الطبيعى إذن أن يرفض طه حسين التعاون مع هذه الحكومة الرجعية العتيدة فى رجعيتها، وقررت الحكومة من جانبها أن تحارب طه حسين، فعزلته من منصبه كعميد لكلية الآداب، وعينته مفتشاً للغة العربية فى وزارة المعارف، وتقدم بعض النواب إلى وزير المعارف باستجواب يفتح قضية طه حسين القديمة التى أثيرت منذ ست سنوات عند صدور كتابفى الشعر الجاهليوتساءل هؤلاء النواب كيف تسمح الحكومة لكاتبملحد خارج عن الدين مثل طه حسينأن يبقى فى عمله.

وكانت الاتهامات فى هذا الاستجواب ضد طه حسين مركزة فيما يلى:

1- “ إنه ظهر فى صورة نشرت فى جريدة الأهرام، تمثل طلبة كلية الآدب حول عميدهم - الدكتور طه سين - وقد جلست كل شابة إلى جانب شاب”.

2- “ إن الدكتور طه حسين المسئول المباشر عن جميع ذلك هو الرجل المعروف بمصادمة آرائه لنصوص القرآن الكريم والعقائد الدينية وقد ظهر عداؤه للإسلام فى كثير من تعاليمه وآثاره، عندما كتب في الشعر الجاهلى الذى ضجت عند صدوره البلاد بأسرها.. ولا يزال هذا الكتاب يدرس فى الجامعة بعنوانفى الأدب الجاهليولكن تغيير العنوان لم يغير شيئاً عن روحه اللادينية، كما وأنه قد زين للشبان وسائل المجون والفسوق فى مؤلفهحديث الأربعاءولا يمكن للأمة أن تطمئن إلى وعوده المتكررة بالعدول عن هذا السبيل المعوج، فسوابقه لا تشجع على تصديقه”.

وينتهى هذا الاتهام بتحريض صريح ضد الدكتور طه حسين حيث يقولحضرات النوابفى ختام اتهامهمفكيف سكتت وزارة المعارف عن ذلك كله، ولم نحرك ساكنا ؟ وكيف تسمح أن يكون هذا الرجل عميداً لكلية الآداب بعد أن افتضح أمره، وضجت الأمة من خطر تعاليمه وآرائه”..

ونص هذا الاتهام المثير الطريف الذى وجهه النواب - فى البرلمان - إلى طه حسين سنة 1932 منشور فى كتابطه حسين الكاتب والشاعرللأستاذ محمد سيد كيلانى.

وعوقب طه حسين من حكومة صدقى بنقله - كما أشرنا - إلى وزارة المعارف.. وفى اليوم الأول لنقله من الجامعة أضرب طلاب الجامعة تحت قيادة الطلاب الوفديين، وخرجوا فى مظاهرة ضخمة إلى بيت طه حسين حيث استقبلوه وحملوه على الأعناق وهتفوا بحياته.. وحياة الفكر الحر المضطهد ومن يومها رفض طه حسين الذهاب إلى وزارة المعارف.

ومن يومها بدأ تحول جديد فى حياته.

لقد أحس أن الجماهير التى تخلت عنه فى الماضى تقف إلى جانبه وتؤيده ضد حكومة صدقى الرجعية، وأحس أن الحكومات والأحزاب الرجعية لا يمكن أن تؤيد الفكر الحر إلا إذا ضمنت أن لها من وراء هذا التأييد مصلحة كبيرة ضخمة.. فلقد كان الأحرار الدستوريون على سبيل المثال يحتفلون بالمثقفين ويسبغون عليهم الرعاية، ليكسبوهم حولهم تعويضاً لهم عن انصراف الشعب عنهم، ومحاولة من جانبهم لاكتساب شىء من الاحترام والتقدير.

والأحزاب والحكومات والرجعية عموماً لا يمكن أن تؤيد الفكر الحر إلا عندما تحس أن هذا الفكر ليس له ترجمة فى الواقع العملي ويمثل خطراً عليهم.. فلو كانت ترجمة الفكر الحر عملياً - هى الدعوة إلى مجانية التعليم أو إلى نشر العدل بين المواطنين.. فهى - فى هذه الحالة - دعوة مرفوضة تستحق الإبادة

لقد اكتوى طه حسين بالرجعية فى صورة عملية مباشرة.. وكانت آراؤه الآن قد بدأت تتبلور فى الدعوة إلى نوع من التغيير الاجتماعى العميق بتوسيع قاعدة التعليم والعدل فى صفوف المجتمع، وكانت الجماهير التى انصرفت عنه فى الماضى قد بدأت تقبل عليه الآن، وتمنحه التأييد والتقدير.

ومن سنة 1932 إلى سنة 1936 كان طه حسين يتحول بسرعة إلى الارتباط بالوفد وجماهيره وصحافته.

ومن غرائب المصادفات أن طه حسين كان يقترب فى هذه الفترة من الجماهير، بينما كان مفكر آخر كبير يبتعد عن الجماهير بعد أن تخلت عنه.. وكأن القدر لم يرد لهذين المفكرين الكبيرين أن يلتقيا فى معسكر سياسى واحد.. هذا المفكر الآخر هو عباس العقاد، ففى هذه السنوات الحاسمة بالذات بدأ العقاد ينفصل عن الوفد، ودخل معركة عنيفة ضده، ثم انتهى به الأمر فى سنة 1936 إلى الوقوف فى معسكر الأحرار الدستوريين ثم فى معسكر السعديين.. أى فى معسكر الأقليات الرجعية التى ينطوى تحت جناحها بعض المثقفين اللامعين.

أما طه حسين فمنذ اصطدامه بحكومة صدقى بدأ يوثق صلته بالوفد، حتى أصبح فى سنة 1950 وزيراً للمعارف فى آخر وزارة وفدية.

وكالعادة لم يرتبط طه حسين بالوفد ارتباطاً حزبياً مباشراً.. أى أنه لم يصبح عضواً فى أى منظمة من منظمات الوفد، ولكنه ارتبط به عن طريق الصحافة والعلاقات الشخصية المباشرة.

وفى هذه المرحلة التى امتدت من 1932 إلى 1952 حدث تحول آخر فى موقف طه حسين الفكرى، لا شك أن التحول السياسى كان نتيجة من نتائجه.. هذا التحول الفكرى هو أن طه حسين انتقل من الدعوة إلى التجديد فى الفكر إلى دعوة أخرى: هى التجديد فى المجتمع نفسه.. فقد بدأ يطالب بتعميم التعليم ومجانيته، وبدأ يطالب برفع الظلم الاجتماعى عن الطبقات الشعبية، وأخذ يعود إلى التاريخ الإسلامى ليستمد منه البراهين المختلفة على أن الإسلام كان ثورة اجتماعية ضد الظلم المادى، وأثبت فى العديد من كتبه مثل كتابالوعد الحقأن الدعوة إلى العدل أساس من أسس الإسلام.. ففى هذا الكتاب يتحدث عن الأرقاء الذين ناضلوا وتعذبوا من أجل الإسلام، وكان هذا الكتاب معناه أن العدل الاجتماعى مطلب أساسى من مطالب الإسلام.

هكذا أصبح طه حسين الآن، فى مرحلته الجديدة، قائداً من قادة التغيير الاجتماعى، وكان هذا التغيير الاجتماعى يلتقى مع أعمق معانى التغيير الفكرى وأروعها وأكثرها أصالة وجدية.. فلم يعد فى دعوته إلى التجديد الفكرى يحس - كما كان يحس من قبل - بالرغبة فى العزلة عن الجماهير والتعالى عليها، وبأن لا مكان له، كمفكر مجدد، إلا بين النخبة والصفوة القليلة..  كلا أنه يستطيع أن يصل إلى أروع معانى التجديد الفكرى من خلال ارتباطه بالمصالح الأساسية للطبقات الشعبية.

إن حماية الرجعيين للفكر الحر حماية متقلبة مترددة، تخضع لقياس المصالح الخاصة المحدودة، أما حماية الشعب كله فهى أفضل وأبقى وأكثر منطقاً ووضوحاً.. ولعله اكتشف فى هذه المرحلة من حياته أن الفكر المجدد الحر لا يستطيع أن يعيش مستريح الضمير بين شعب جاهل فقير متأخر.. ومن هنا خاض طه حسين المعركة فى هذه المرحلة مع الشعب كله ومن أجله.

ولم يكن لارتباطه بالوفد ارتباطاً حزبياً بالمعنى الضيق، بل كان بحثاً عن وسيلة جديدة لتوصيل أفكاره إلى الناس وتحقيقها فى الواقع.. ولقد كان طه حسين داخل حزب الوفد خير مدافع عنتأميمالتعليم، سواء فى كتبه المعروفة مثل كتابهمستقبل الثقافة فى مصرأوفى مواقفه العملية المختلفة.

ولقد لقى من وراء موقفه عنتاً شديداً، وتشهيراً لا حد له من الأوساط الرجعية.. تلك الأوساط التى كانت تعزو إليه أنه أفسد التعليم بسياسته التى كان شعارهاالعلم كالماء والهواء حق للجميعومن الملاحظ أن طه حسين فى هذه الفترة من حياته أصبح أكثر ميلاً إلى المحافظة فى آرائه الفكرية، بينما انتقل تطرفه إلى مواقفه الاجتماعية، بل لقد عاد إلى دراسة الإسلام، الذى اتهم فى بداية حياته بمهاجمته، ولكنه استطاع من خلال دراساته الإسلامية أن يبلغ منهجه الجديد فى التفكير إلى الجماهير الواسعة، وذلك من خلال احترامه لعقائدها وأفكارها المختلفة.

فهو يغير من النظرة الشائعة للإسلام على أنه دين روحى فقط.. بل يثبت أنه دين يدعو إلى الثورة الاجتماعية بغاية أساسية هى تحقيق العدل، حتى لقد اتهم طه حسين بسبب كتبه التى ظهرت فى هذه المرحلة الأخيرة من حياته اتهامات سياسية متعددة، وصودرت بعض كتبه نتيجة لهذه الاتهامات.

ويمكننا أخيراً أن نلخص الخصائص العامة التى ميزت علاقة طه حسين بالأحزاب السياسية فيما يلى:

أولاً: كانت علاقاته السياسية فى خدمة أفكاره.. لقد كان على الدوام يبحث عن بيئة مناسبة لفكره الحر المتفتح، ويرتبط بهذه البيئة أينما وجدها.

ثانياً: لم يدخل طه حسين أبداً ضمن تنظيمات حزبية محددة، بل كان يرتبط بالأحزاب ارتباط الصداقة والتعاطف الواضح دون أن يكون عضواً فى التنظيمات المختلفة لهذه الأحزاب.

ثالثاً :  فى أشد أيام ارتباط طه حسين بالأحزاب الرجعية، لم يناصر فى كتاباته أو تصرفاته: الإقطاع أو الرأسمالية أو أى نوع من أنواع الرجعية الاجتماعية أو الفكرية، وكل ما يؤخذ عليه فى فترة ارتباطه بأحزاب الأقليات أنه أمدها بتأييد معنوى راجع إلى مكانته الفكرية وقدرته فى التأثير على الجماهير كما أنه اشترك مع الأحزاب الرجعية فى بعض معاركها السياسية اليومية.. حيث شن - على سبيل المثال - حملة عنيفة لمصلحة الأحرار الدستوريين - على الوفد وسعد زغلول.

رابعاً:  ظل فكر طه حسين الأساسى بمعزل عن الضياع فى زحمة الحياة السياسية، ولذلك احتفظ دائماً بشخصيته الفكرية المستقلة: رائداً مستنيراً.. وعندما سقطت الأحزاب بعد الثورة لم يسقط طه حسين، بل واصل طريقه المستقل فى الفكر والحياة.

خامساً:  خط اتجاه طه حسين فى السياسة تأثر بموقفه الفكرى إلى حد بعيد.. فقد كان فى البداية يؤمن بالتجديد الفكرى ولا يلتفت إلى التجديد الاجتماعى إلا قليلاً، أما فى المرحلة الأخيرة التى بدأت منذ سنة 1932  فقد آمن بالتجديد الاجتماعى وآمن بأنه لا قيمة لتغيير الفكر بدون تغيير المجتمع.

وهذا هو ما يجعل طه حسين بحق مقدمة كبيرة من مقدمات الثورة الشاملة على الأوضاع الرجعية التى انهارت كلها - بعد كفاح طويل سنة  1952.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة