كان السيد "إيفان ديمتريش" والسيدة
ميشا" زوجين يحسبان على الطبقة الوسطى للمجتمع ، حيث إن دخلهما السنوى حوالى
اثنا عشر ألف روبيل.
فى ظاهر الأمر كان الزوجان يبدوان وكأنهما راضيان
عن حالهما، حتى حدث لهما الحادث والذى هو بمثابة المحك المبيّن لمدى رضائهما هذا،
كان يوم نشرت أرقام جائزة اليانصيب كالعادة فى الصحيفة التى اعتاد السيد "ديمتريش"
قراءتها بعد العشاء كل يوم.
جلست
السيدة "ميشا" والتى كانت من هؤلاء اللاهثين وراء تلك الجائزة ، وتحت إلحاح منها
اضطر السيد "إيفان" للبحث فى جدول أرقام هذه الجائزة المنشورة فى
الجريدة أمامه وهو الذى لم يكن يوما مصدقا لهذه الجوائز.
مر
السيد "إيفان" بإصبعه نزولا فوق عامود الأرقام وهو يتمتم بكلمات ساخرة
من زوجته صاحبة البطاقة، سأل السيد إيفان زوجته عن الرقم المسلسل للبطاقة والذى
كان"9,499 ورقم البطاقة 26 "
وبينما السيد "إيفان" يبحث عن الرقم المنشود فى شيء من الفتور، أو
حتى على سبيل تأدية الواجب لزوجته، فإذا بعينيه تقعان على الرقم المسلسل للبطاقة فى
السطر الثانى من العامود، يكاد لا يصدق عينيه من هول الصدمة، حتى أنه ترك الجريدة
تقع على ركبتيه فلم تقوَ يداه على حملها أكثر، وأحس بأن أحدهم سكب دلوا من الماء
البارد على رأسه، حتى أنه لم يكمل النظر إلى باقى أرقام البطاقة.
تلك القشعريرة اجتاحت كل أنملة فى جسده، وذلك
الخدر اللذيذ الذى سرى فى أوصاله مع بعض الوخز فى أمعائه، وصاح بصوته المبحوح غير المصدق
ما رأت عيناه .. "ماشا.... إن رقم
البطاقة هنا 9,499 "
نظرت له الزوجة باحثة فى وجهه عن تلك النظرة الدالة
على ممازحة أو سخرية ، لكنها أدركت أنه لم يكن يمزح، فنظرت إلى الجريدة المطوية
فوق المائدة أمامه مبهوتة شاحبة وصاحت "إنها أرقامنا بالفعل"؛ وبعدما
راجعا مرة أخرى الرقم المسلسل للبطاقة، نظر الزوجان لبعضهما البعض بتلك الابتسامة
المشرقة كابتسامة الأطفال، ذلك لأن البطاقة التى يمتلكانها كان ترتيبها فى الجوائز
الثانى أي أنهما حصلا على جائزة قدرها 75,000 "خمس وسبعون ألف روبيل" وهو
ما لم يكن يمثل لهما الثروة فحسب إنما أيضا هو"الثروة والسلطة معا".
خيم الصمت على الزوجين لفترة وهما محدقان
ببعضهما، لم يكونا يفكرا حاليا بالثروة أو ما سيفعلا بها أو حتى أين يمكنهما السفر
مثلا ، إنما كل ما كان يسيطر على دماغيهما الرقمان الذهبيان رقم مسلسل
البطاقة"9,499 " والرقم الممثل لمبلغ الجائزة"75,000 ".
بعد قليل أفاق الزوجان من الصدمة الأولى ،
وبدأت الأحلام تراودهما أمسك السيد "إيفان"
الجريدة وأخذ يجول في الغرفة طولاَ وعرضا عدة مرات، ثم قال" أعلم أن هذه
البطاقة ملك لك، لكن أتدرين ما أنا بفاعل إن كنت أنا مالكها ؟ فهذه البطاقة لا تمثل
فقط التغير للحياة إنما هى بمثابة النقلة لنا، سوف اشترى أولا بيتا جديدا بخمس وعشرين ألفا ،
وأنفق عشرة آلاف على الآثاث الجديد، وتسديد
بعض الديون القديمة وما إلى ذلك، أما الأربعون ألفا المتبقية فسوف أضعها فى حساب
بنكى يسمح بصرف أرباحها".
أضافت
الزوجة مؤيدة " نعم سيكون من الرائع شراء بيت جديد، لكن لابد أن يكون فى مكان
ما فى تولا أو أوريول، فمثل ذلك البيت سيكون استثمارا مربحا بالنسبة إلينا".
بدأ
كلا الزوجين يسترسلان فى أحلامهما عن رغد العيش الذى ستجيء به الثروة .
وازدحمت الأحلام الشاعرية فى مخيلتهما، فأما
عن السيد إيفان رأى نفسه وقد أصبح، أكثر ثراء، أكثر هدوءا، وأوفر صحة.
تخيل نفسه وهو يحتسى شرابا صيفيا باردا وهو
مستلقٍ على أحد الشطآن أو حتى فى إحدى الحدائق الغناء تحت أشجار الليمون، رأى أيضا
أنه أنجب طفلين (ولدا وبنتا) وتخيلهما بجواره وهما يتسليان ببناء القلاع على رمال الشاطئ المسترخى فيه، أو يصطادان الخنافس من
الحديقة التى يفترش أسفل شجر الليمون فيها، ورأى أيضا إنه لا ضير إن هو لم يذهب إلى
العمل اليوم أو حتى لبضعة أيام ، إنما سيسلى نفسه بالذهاب لقطف بعض من نبات
"عيش الغراب" أو حتى يقضى بعض الساعات فى مشاهدة الصيادين وهم يرمون
بشباكهم للصيد، وعند الغروب سوف يخضع لجلسة تدليك فى حمامه والذى تغطيه السحب فى السماء فقط، ليأتيه
بعدها مشروبه المفضل الشاى بالحليب، وفى المساء من الممكن أن يلتقى ببعض الجيران.
تخيل السيد "إيفان" الخريف بأمسياته المطيرة الباردة. ثم عاش
خياله موسم الصيف فى "سانت مارتن" وهو يمشى فى الحديقة المطلة على النهر
الملطف لحرارة الجو ، كان يشرب الفودكا ويستزيد منها مع بعض المقبلات من عيش
الغراب والخيار المخلل، وبعدها يتمدد على أريكة الحديقة ليطالع بعض مجلات الموضة والتى يستعملها أيضا
كغطاء لوجهه حين يغط فى النوم بعد قليل.
لكن
صيف "سانت مارتن" يتبعه طقس غائم رطب كئيب ، فالطقس هناك يكون مبللا
بالمطر ليلا ونهارا، كل شيء رطب ومبلل بالليل، والخيل والكلاب، والطيور، حتى إن
المرء لا يستطيع الخروج من بيته مع كل هذه الرطوبة، مما يكون باعثا على الكآبة والإحباط.
عندها فكر فى أنه لابد من السفر إلى مكان أدفأ
من "سانت مارتن" "لا مفر من السفر خارج البلاد ، ليكن مثلا السفر
إلى جنوب فرنسا، أو إيطاليا ،أو حتى إلى الهند.
عبّر
السيد إيفان عن فكرته الأخيرة بصوت مسموع قليلا، مما جعل زوجته ترد عليه " لا
مفر من السفر خارج البلاد ، لكن أولا لابد من التحقق من رقم البطاقة فنحن لم ننظر
سوى فى الرقم المسلسل".
لكن السيد إيفان لم يستطع كبح جماح أفكاره،
وبدأت الأفكار تصطرع داخل رأسه لكن فى جانب آخر "ماذا لو سافرت هذه الزوجة
معه؟ فهذه الزوجة لا يغيرها السفر، ولا تهتم بالرحلات ولا تعير اهتماما للمتعة
أصلا".
ارتعد
السيد إيفان لهذه الفكرة وتصور زوجته وهى جالسة فى عربة القطار نادمة على كل مشترياتها
التى ارتصت حولها فى حقائب وسلال وطرود والتى أنفقت فيها الكثير من الأموال ، وهى
تتذمر من القطار الذى أوجع رأسها.
أيضا فكر فى أنها بخيلة سوف تحتسب كل ما يصرفه،
خاصة وهى مالكة البطاقة .. ثم إنها لو سافرت معه لن يستطيع التمتع بوقته، لأنها
سوف تحبسه معها فى غرفة الفندق المقيمين فيه ولن تسمح له بالخروج.
وفجأة رأى زوجته وقد أصبحت مجرد عجوز تنبعث
منها روائح الطبخ. فى الوقت الذى لا يزال هو يافعا، ممتلئا بالصحة ومن الممكن له
الزواج مرة أخرى.
أيضا اصطرعت الأفكار تجاه عائلتها، والذى كان قبل الجائزة لا يحمل لهم أية
ضغينة، بالرغم من أن علاقته بهم لم تكن قوية أو لم يكن يحبهم كثيرا، لكن بعد هذه
الجائزة فكر فى أنهم ما إن يسمعوا بنبأ هذه الثروة التى هبطت عليهما من السماء سوف
يحتالون على زوجته كالشحاذين للفوز بنصيبهم من تلك الثروة، وإن لم تعطهم فسوف يقذفونها
بأقذع الألفاظ وينعتونها بأسوأ الصفات.
"إنهم كالزواحف ".. "انها
بخيلة ولا تعرف أي شيء عن الثراء" هكذا عبر عن زوجته وأهلها، قال هذا وهو يرمق
زوجته بنظرة كراهية وحقد.
وأكمل " سوف تدخر كل النقود ولن تعطينى
سوى مائة روبيل"
لم
تكن الزوجة وأفكارها عن زوجها بأرقى من أفكاره هو عنها، وربما فطنت هى إلى نواياه
من خلال إفصاح عينيه عن مكنون صدره، بالتالى لم تكن نظرتها إليه أقل حقدا وكراهية.
" من الرائع أن تحقق أحلام اليقظة على
حساب الآخرين لكنى لن أعطيك هذه الفرصة" هكذا دار الحوار فى رأسها.
لابد
وأن الزوج فطن إلى ما يدور فى خلد زوجته، فلقد فهمها لما رآه في نظرتها له، حاقدة تشبه
نظرته لها كارهة.
لهذا
قرر أن يهدم ويدمر أحلامها، فأمسك الجريدة، وأخذ يتفحص الرقم مرة أخرى.
"نعم مسلسل البطاقة9,499 لكن رقم
البطاقة لم يكن 26 بل كان 46 !!"
هكذا أعلناها متشفيا فى زوجته .
عندها أصبح السيد إيفان وكأنه اكتشف فجأة أن
بيته صغير ومظلم وسقفه منخفض، حتى إنه يضغط على أنفاسه، وفجأة اكتشف أيضا أن
العشاء الذى تناوله منذ قليل لم يكن يصلح للأكل وقد أثقل معدته، وأن هذه الأمسية
كانت طويلة وشاقة؛ أيضا اكتشف أن الغرفة التى يجلسان فيها غير نظيفة ممتلئة
بالفتات والقشور.
"إنه لخير للمرء أن يشنق نفسه
على شجرة، بدلا من جحيم العيش بهذا المكان" هكذا صاح وهو يغادر.