السبت 5 اكتوبر 2024

نموذج القراءة عند طه حسين

فن23-10-2020 | 14:17

القراءة فعل خلاق، وليست عملا سلبيا يقتصر فيه المتلقى على قبول دلالة جاهزة ترف كالوردة التى تنتظر من يقطفها على سطح الكلمات. هكذا ينبئنا النقد الحديث، فالقارئ - خاصة للنصوص الأدبية - شريك مؤسس فى إنتاج معناها، يبذل جهده ويوظف خبراته ومعارفه كى يدخل طرفاً حقيقيا فى لعبة المجاز والرموز، يمنح بقدر ما يأخذ، ويكتشف كل مرة يقارب فيها النصوص شيئاً جديداً لم ينتبه إليه من قبل، لأن جهازه المفاهيمى وحساسيته الجمالية وطاقته التخيلية لا تتجمد عند نقطة واحدة. ولا يمكن أن يؤدى ذلك إلى ضياع حقيقة النص وتشويه ماهيته كما يخشى المتوجسون من تحول المفاهيم والمصطلحات النقدية،  فجزء من هذه الحقيقة كامن فى الاستجابة الحارة المتدفقة لما تشير إليه اللغة أو تحرض عليه،  وماهيته تتجلى فى الرصيد الموازى له فى بنوك الإبداع والمعرفة.

 وطه حسين نموذج خصب ومتجدد لاختيار مفاهيم القراءة وأنماطها،  فهو حالة خاصة وبارزة لما يفعله القارئ العصرى فى تراثه وواقعه حيث يعيد النظر فى كل شيء،  يرفض المسلمات حتى ينشئ مكانها منظومة أخرى من المبادئ التى تحمل تناقضها فى صلب كيانها،  فيعود إلى إقرار بعض ما أنكر وإنكار بعض ما أقر فى حركة دائبة هى الشاهد الوحيد على حيويته وتوهج حقيقته الثقافية والإبداعية معاً.

لكننا قبل أن ندخل عالمه يجمل بنا أن نتوقف قليلا لقراءة أسطورته،  وتتمثل فى الدرجة الأولى فى تغاير الدال والمدلول،  فقد كان المفترض فيه أن يكون واحداً من الأزهريين المكفوفين المشتغلين بالدين والمنكفئين على ذواتهم،  ينحصر عالمهم وطموحهم فيما تقع أيديهم عليه لا يشعر بهم أحد ولا يتركون أى أثر،  لكنه مزق إطار هذه الصورة التقليدية ليقدم نموذج الدكتور المثقف العالمى المشتغل بإصلاح الدنيا وتحريك المجتمع وقيادة الفكر والثقافة. ترك قراءة القرآن فى المآتم واشتغل بالسياسة والأحزاب وإدارة الحياة الجامعية،  تبذ العجز والزهد وتحدى القيود،  ليفجر أكبر طاقة روحية يمكن للأدب أن يضيء بها الحياة ويعيد تفسير الكون والتاريخ. أصبح أسطورة حياتنا الأدبية والثقافية والتعليمية فى القرن العشرين،  المثل الأعلى للشباب،  وحتى للبنات - كما تقول نوال السعداوى فى مذكراتها - بنظارته الداكنة وبسمته الماكرة وصوته  الأجش الهادئ العميق، وقد كان توفيق الحكيم عندما يريد أن يحدد المسافة التى تفصله عنه والناجمة عن هذه المفارقة الكبرى يصفه دائما بأنهالشيخ طهكى يذكرنا بأنه على عكسهأفندى أصيللم يضع العمة على رأسه فى يوم من الأيام.

وها هى أسطورة طه حسين لا تزال مشتعلة بعد قرابة ربع قرن من وفاته،  وتعقد المؤتمرات المحلية والدولية لذكراه وحتى لذكرى أحد كتبه،  نقيس بها حركة الزمن والأفكار،  ونطرح عليها قراءاتنا للثقافة والعلم والحياة والفن كى ندرك موقعنا فى مدار النهضة وفلك التقدم،  كى نتأسى به أحيانا ونأسى له أحيانا أخرى،  كى نفهمه مرة ونفهم أنفسنا مرات،  كى نقرؤه طوراً ونقرأ ذواتنا فيه أطوارا أخرى على حد عبارته الأثيرة.

كسر التماثيل

على أن أجمل ما فى هذه الأساطير الجديدة هو أننا نصنعها ثم نأكلها بعد ذلك. نقيم لها التماثيل ولا نلبث أن نكسرها عند الضرورة فوهم الخلود وثبات القيمة مدمران لحيوية الشعوب،  ونقد الرموز وتفريغها من المعنى خطوة ضرورية لإعادة شحنها بمعنى جديد يتناسب مع كل مرحلة. ومازلت أذكر عندما كنت شابا أدرس للدكتوراه فى إسبانيا خلال الستينيات،  وتوطدت علاقتى حينئذ برسام أمريكى اعتنق الإسلام وتخصص فى رسم لوحات رقص الفلامنكو ومصارعة الثيران،  وعقدت معه صفقة نلتقى بمقتضاها مرتين فى الأسبوع ليتمرن على اللغة وأتمرس بنطق الإنجليزية فى منزله الذى بناء من مخلفات القصور العربية الأندلسية،  وحدث فى تلك الفترة أن انتشرت قصة علاقة جاكلين - التى كانت لا تزال تسمى كينيدى - بالمليونير اليونانى أوناسيس، وأبديت أسفى الشديد لتحطم الصورة التى رسمت لها فى الوفاء الوقور والحزن الجميل على الرئيس الشاب المخطوف غدرا،  وإذا بصديقى الفنان يقول لى بإنجليزية أحاول الإحاطة بها: على العكس من رأيك تماما،  هذه الأساطير الجديدة لابد من إبطالها،  نموذج الوفاء غير حقيقى فى المجتمع المعاصر وهو أكذوبة صحفية كما أن صورة كينيدى ذاتها أكذوبة،  ومن الخير لنا ولتيار الحياة ذاته أن نتعود الصدق والنقد وهتك الهالة التى تحيط بالشخصيات المحبوبة. عندئذ أدركت أحد الفوارق الجوهرية بين مجتمعاتنا العربية وثبات القيم فيها،  وتلك المجتمعات الغربية التى لا تنظر إلى الماضى وهى تلهث فى حركتها للمستقبل،  وأدركت أننا فى اليوم الذى نكسر فيه بعض تماثيلنا السياسية والثقافية نكون قد أصبحنا على مقربة من إيقاع الحياة المعاصرة فى العالم اليوم.

والكتاب الذى احتفلنا بمرور سبعين عاما على صدوره لطه حسين وهوفى الشعر الجاهلىخير دليل على الطبيعة الموقوتة لقيمة التماثيل الكبرى فى الحياة العصرية،  فالمقولات التى يتضمنها فى جملتها لم تعد لها أهمية تذكر الآن،  فإنكار الشعر  الجاهلى برمته لم يعد يهز شعرة فى مفرق أحد، على حد عبارة المتنبى المتجبر، والقضية الأساسية فيه وهى تحرر البحث العلمى من سيطرة الفكر التقليدى أصبحت مسلمة لا يناقشها عاقل مشتغل حقيقة بالبحث والعلم، لا بالأيديولوجيا والتضليل، وتعدد صورة المعرفة دون تداخل بينها أو هيمنة لأحدها على المجال الآخر أصبح من الأولويات المعترف بها، فالمؤرخ يقيم تصوره للماضى على أساس النقوش والآثار والدلائل المادية التى تنتج علما يخضع للتكذيب والتعديل يوما بعد يوم فى معرفة نسبية متنامية، وهذا لا شأن له بالدين ومعتقداته الراسخة المستقرة، وقد مضى عصر افتعال التعارض بين العلم والدين وتقييد حركة الأول باسم الثانى، فسباق المعرفة العصرية وضرورة دخولنا دائرة إنتاجها يجعلان إحداث هذا التعارض تدميرا للثقافة العربية ورهانا خاسرا على مستقبلها لا يمكن التسامح فيهما.

فقراءة طه حسين لتاريخ الشعر الجاهلى على ما أثارت من حساسيات قد دخلت صلب الفكر العربى المحدث وتجاوزها الباحثون من بعده، لا يمكن أن تظل نموذج القراءة المستقبلية للتراث القديم، أصبحت فى ذمة العلم بما استحدث بعدها من تصويبات واكتشف من معلومات وبيانات، مما يجعل قيمتها تاريخية فحسب، ترتبط باللحظات الثورية فى حياة مصر وسعيها إلى التحرر والتقدم إلى الاستقلال عن الماضى وعن الغير، وإلى الاشتباك فى الآن ذاته مع حركة التقدم المعرفى فى العلوم الإنسانية والطبيعية، والمساهمة الفعالة فى تنميتها والإفادة العملية من معطياتها التى تنتظم مستويات الحياة بأسرها.

يعود طه حسين عام1951  إلى تقديم طبعة ثانية من كتابه الأول الذى كان أطروحته للدكتوراه فى الجامعة المصرية «تجديد ذكرى أبى العلاء» فيكتب بعد أن بلغ الثانية والستين من عمره شارحا السبب الرئيسى فى إعادة نشره لأنه «يمثل طورا من أطوار حياتى العقلية وأنا رجل شديد الأثرة، أحب أن أكون واضحا لمعاصرى ولمن يجيئون على أثرى من الناس وضوحا تاما فى جميع ما اختلف على نفسى من الأطوار، وهذا الكتاب يمثل حياتى العقلية فى الخامسة والعشرين، فلا بأس بإظهار هذا النوع من الحياة للناس”.

ومعنى هذا أن الجهد العلمى البارز فى تأليف الكتاب والالتزام فيه بشروط المنهج التاريخى الدقيق لا يجعلان مزيّته أنه يقدم صورة لأبى العلاء المعرى مهما بلغت درجتها من الوضوح والصدق، بقدر ما تصبح أهميته ذاتية خاصة لدى طه حسين، يسجل طوره وهو فى الخامسة والعشرين من عمره، لم يختلف إلى غير الأزهر والجامعة المصرية من بيئات أكاديمية ولم يعرف سوى المجتمع المصرى وأفكاره أوائل هذا القرن، فالكتاب على هذا صورة للمؤلف وقراءة نموذجية عاكسة لصاحبها تبرز فيها شخصيته وخواصه العقلية والنفسية أكثر مما هو صورة لموضوعه الذى يبحث فيه، أى أن الذكرى التى يجددها هذا الكتاب ليست فى حقيقة الأمر ذكرى أبى العلاء بقدر ما هى ذكرى طه حسين نفسه فى هذه المرحلة المبكرة من حياته، وما يؤرخ له فى الواقع ليس الشعر العباسى كما  تبلور فى أفق المعرى وإنما هو رؤية طه حسين وأبناء جيله لهذا الشعر وحساسيتهم تجاهه وطريقة تذوقهم له والقضايا التى تشغلهم عند قراءته وإعادة تشكيل عالمه.

ولأن طه حسين كان يؤمن كما يقول فى مواقف عديدة بأن الحياة فى تغير مستمر والعقل فى رقى متصل، والإنسان متواضع مهما تبلغ به الكبرياء فإنه يرى أن القراءة لا تمضى على نسق واحد، ولا تعنى قبول ما يسطره الكتاب والتسليم به، بل تتطلب اتخاذ موقف نقدى مما نقرأفليس على النوابغ بأس ألا نقبل منهم كل ما تركوا لنا، وإنما علينا نحن البأس كل البأس ألا نقرؤهم ولا نفهمهم ولا ننقدهم ولا نصدر فى حكمنا عليهم عن القراءة والنقد والفهم”.

وفى حديثه عن صوت أبى العلاء- هذا الذى أطال صحبته ومعاشرته-  يربط طه حسين بين حرية القارئ فى القبول والرفض ومستويات الكتابة ذاتها فيما تتطلبه من درجات المعرفة لدى دوائر القراءة المختلفة قائلا: “قد عرفت أبا العلاء إلى خاصة الناس  وأحب أن أعرفه إلى عامتهم.. فلو نشرت اللزوميات فى عامة المثقفين لما فهمها أكثرهم، لأن أبا العلاء لم ينشئ اللزوميات لعامة المثقفين، بل لست أدرى، لعله أن يكون قد أنشأها لنفسه وللذين يرقون إلى طبقته من أصحاب العلم الكثير والبصيرة النافذة”.

فإذا كان للنصوص مستوياتها فى الكثافة والخفة، فى الصعوبة واليسر، فى الابتلاء بالإشارات الثقافية والإيماءات التاريخية والاكتناز الدلالى فإن القراءات التى تسبح فوقها لابد أن تكون بدورها ذات مستويات عديدة، وبوسعنا أن نضيف اليوم بمصطلحاتنا المحدثة أن هذه المستويات تختلف طبقا لمدى اتساعأفق التلقىأوالانتظارأى بمدى تراكم الخبرتين المعرفية والجمالية لدى القارئ، ومدى قدراته على استيعابه وفك شفراته المتشابكة.

وعلى كثرة ما يتحدث طه حسين عن العلم ومشروعه وشروطه ومناهجه، فإن إدراكه العميق للطابع الإنسانى لعمليات القراءة كان يعتبرها دائما أمرا آنيا يخضع للصدفة ويتشكل حسب الوقت والمزاج، ويتبع فى الدرجة الأولى الموجهات الفاعلة فى حركة المجتمع وظروفه المكانية والتاريخية، ففكرة الصدفة هى الهامش الصغير للحرية التى يمارسها القارئ فى الاختيار اعتمادا على حدسه وشعوره الباطنى. ويتمثل طه حسين بكلمات الشاعر الناقد الفرنسى الشهيربول فاليرىفى حديثه عن الفنان التشكيلىديجاقائلاًليست حياة رجل من الناس آخر الأمر إلا مصادفات يتبع بعضها بعضا، وإلا استجابات تقريبية للأعراض الطارئة، هذا الجمع الدقيق بين الحرية والضرورة فى مفهوم الصدفة المحسوبة هو الذى يتمثل فى الفعل الثقافى الإبداعى فى جوهره.

وهنا نلاحظ ضيق المسافة الفاصلة بين القراءة والكتابة عند طه حسين، فكلاهما يجسد الآخر ويتجلى فيه، ليست القراءة لديه سوى هذا الصوت الهادئ الذى يتناهى إليه من جليسه، كما أن الكتابة تتمثل بدورها فى هذا الصوت الواضح العميق الذى يتدفق منه إلى هذا الجليس ذاته فى لحظات أخرى الأمر الذى يجعل الشخص والفضاء حاسمين فى تشكيل كل من القراءة والكتابة فى فعل متجانس متوحد لديه، يخضع لتأثير الزمان والمكان ويعد صورة للشخص فى وقت محدد، تنطبع بحالاته وتخضع لتقلباته. يقول طه حسين فى مقدمة كتابهمن بعيدالذى أملاه فى أوروبا. “قد يظهر للنظرة الأولى أن بعد المكان لا يؤثر فى كتابة الكاتب، ولكنك إذا قرأت هذه الفصول فستتبين فى غير شك أن النأى عن الدار والتنقل فى أقطار الغربة يثيران فى نفس الكاتب من العواطف والخواطر ما لا تثيره الإقامة والاستقرار، وهما يهيئان تهيئة خاصة للشعور والحس، وللتفكير والتعبير ما لا يستقيم له حين يكون مقيما مستقرا فى داره بين أهله ومواطنيه يرى فى كل يوم مثل ما كان يراه من قبل لا تكاد تختلف الظروف التى تحيط به إلا اختلافا يسيرا بطيئاً لا يكاد يحسوإذا كان بعد المكان يعطى طابعا خاصا لكتابة الكاتب فإنه لا يلبث بدوره أن يصبغ قراءة القارئ بلون مميز، فما تقرأه فى السفر يختلف عما نقرأه فى الإقامة، وهكذا بقية أحوال الإنسان وظروفه الحياتية المتغيرة.

 

أدب القراءة         

 

ومن أهم الملامح المميزة لنموذج القراءة عند طه حسين أنه - وهو الوجه الآخر للإملاء/الكتابة يعد من قبيل الأدب وسمات الأدباء، فأظهر خصائص الأديب عنده حرصه على أن يصل بين نفسه وبين الناس، فهو لا يحس شيئاً إلا أذاعه ولا يشعر بشيء إلا أعلنه، وهو إذا نظر فى كتاب أو خرج للتريض أو تحدث إلى الناس فأثار شيء من هذا فى نفسه خاطرا من الخواطر أو بعث فى قلبه عاطفة من العواطف أو حث عقله على الرؤية والتفكير لم يسترح ولم يطمئن حتى يفيد هذا الرأى أو تلك العاطفة أو ذلك الخاطر فى دفتر من الدفاتر أو على قطعة من القرطاس كما يقول فى مقدمةأديب”.

ومعنى ذلك أن دائرة التواصل الأدبى إنتاجا واستهلاكا كتابة وقراءة، هى دائرة الحياة الأدبية، وهى شديدة التوازى والالتصاق بالحياة اليومية، فالذين يقعون ضمنها يعيشون للأدب وبالأدب، سواء كانوا عند طرف الإنتاج أو التلقى فالأديب يمارس حياة عامة بقدر ما يمارسها القارئ عندما يتصل بعمله.

وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك مفهوماً آخر فى نظرية القراءة أوشك طه حسين أن يقترب منه فى ممارساته العملية التى كان يسجلها بعفوبة شديدة، وهو مفهومنقطة الرؤية المتحركةالذى يعد فكرة ضرورية لتوصيف عملية التلقى الأدبى بدقة، إذ إن النص فى حقيقة الأمر لا يمثل سوى مجرد افتتاحية لإنتاج المعنى وحالات الكفاءة الفردية للقراء هى التى تؤدى إلىتجهيزالعمل الأدبى، وعلى التحليل أن يشرح أفعال الفهم التى تتم بها ترجمة النص إلى وعى القارئ. ولسنا فى موقف يسمح لنا أن نتمثل النص فى لحظة واحدة، على عكس ما يحدث عند تلقى الأشياء المادية، وبهذا فإن النص يختلف عن الأشياء التى نتلقاها باعتبارها كلا أمام نظرنا فى أنه لا يمكن انفتاحه كموضوع إلا فى المرحلة النهائية للقراءة، وهذا ما يحدد خصوصية فهم الموضوعات الجمالية للنصوص الأدبية.

هذه النقطة المتحركة فى رؤية الأدب هى التى يشير إليها طه حسين مثلا عندما يكتب فى ختام صحبته للمتنبى قائلاإنما أريد أن ألاحظ أن هذا الكتاب إن صور شيئاً فهو خليق أن يصورنى أنا فى بعض لحظات الحياة أثناء الصيف الماضى أكثر ما يصور المتنبى.. كما أن ديوان المتنبى إن صور شيئاً فإنما يصور لحظات من حياة المتنبى لا أكثر ولا أقل. كما أنك لا تستطيع أن تزعم أنك تستخلص من هذا الكتاب صورة صادقة لى تطابق الأصل وتوافقه، بل لا تستطيع أن تزعم أنك قادر على أن تستخرج من كتبى كلها صورة صادقة لى تطابق الأصل وتوافقه، فأنت كذلك عاجز عن أن تخرج من ديوان المتنبى صورة صادقة تلائم حياة المتنبى كما كانت تجرى فى النصف الأول من القرن الرابع الهجرى”.

ومع ما فى هذه النظرة من طابع تجريبى يرتبط بفلسفة الظواهر التى سادت طيلة القرن العشرين فى التحليل الجمالى، فإن طه حسين قد استقاها من خبرته المباشرة فى ممارسة لحظات القراءة النقدية وتأملها باعتبارها لحظات وامضة سريعة، تتقاطع بالصدفة مع نتاج لحظات أخرى وامضة فى الكتابة الأدبية الشعرية والنثرية، فينجم عن هذا التقاطع فعل إبداعى خلاق مكتمل الدائرة فى شبكة التواصل الإنسانى، يخضع بدوره لدرجات عديدة من التى هى بين الطرفين، ويفضى فى حالات كثيرة إلى التحاور والتجاوز، تتجلى فيهما الذات عبر الموضوع، ويتكور فيهما الخلق الإبداعى للإنسان وهو يعيد تشكيل الكون بالكتابة، وتشكيل الكتابة بالقراءة، فى نموذج متعدد المستويات يشف عما يفعله الفن فى حياتنا عندما يجعلها أثرى وأعمق وأكثر امتلاء بالمعنى والجمال.